أخذت الليبرالية أطواراً متعددة بحسب الزمان والمكان، وتغيّرت مفاهيمها في أطوارها المختلفة، وهي تتفق في كل أطوارها على التأكيد على الحرية، وإعطاء الفرد حريته وعدم التدخل فيها.
ويمكن أن نشير إلى طورين مهمين فيها:
أولاًـ الليبرالية الكلاسيكية: يعتبر جون لوك (1704) أبرز فلاسفة الليبرالية الكلاسيكية، ونظريته تتعلق بالليبرالية السياسية، وتنطلق نظريته من فكرة العقد الاجتماعي في تصوره لوجود الدولة، وهذا في حد ذاته هدم لنظرية الحق الإلهي التي تتزعمها الكنيسة.
وقد تميز لوك عن غيره من فلاسفة العقد الاجتماعي بأن السلطة أو الحكومة مقيدة بقبول الأفراد لها، ولذلك يمكن سحب السلطة (الثقة) منها.
وهذه الليبرالية الإنجليزية هي التي شاعت في البلاد العربية أثناء عملية النقل الأعمى لما عند الأوربيين باسم الحضارة، ومسايرة الركب في جيل النهضة كما يحلو لهم تسميته.
وقد أبرز آدم سميث (1790) الليبرالية الاقتصادية، وهي الحرية المطلقة في المال دون تقييد أو تدخل من الدولة.
وتكونت الديمقراطية والرأسماليّة من خلال هذه الليبرالية، فهي روح المذهبين وأساس تكوينها، وهي مستوحاة من شعار الثورة الفرنسية "دعه يعمل"، وهذه في الحرية الاقتصادية، و"دعه يمر" في الحرية السياسية.
ثانياً ـ الليبرالية المعاصرة: تعرضت الليبرالية في القرن العشرين لتغيّر ذي دلالة في توكيداتها، فمنذ أواخر القرن التاسع عشر بدأ العديد من الليبراليين يفكرون في شروط حرية انتهاز الفرص أكثر من التفكير في شروط من هذا القيد أو ذاك. وانتهوا إلى أن دور الحكومة ضروري، على الأقل من أجل توفير الشروط التي يمكن فيها للأفراد أن يحققوا قدراتهم بوصفهم بشراً.
ويحبذ الليبراليون اليوم التنظيم النشط من قِبل الحكومة للاقتصاد من أجل صالح المنفعة العامة. وفي الواقع فإنهم يؤيدون برامج الحكومة لتوفير ضمان اقتصادي، للتخفيف من معاناة الإنسان.
وهذه البرامج تتضمن: التأمين ضد البطالة، قوانين الحد الأدنى من الأجور، ومعاشات كبار السن، والتأمين الصحي.
ويؤمن الليبراليون المعاصرون بإعطاء الأهمية الأولى لحرية الفرد، غير أنهم يتمسكون بأن على الحكومة أن تزيل بشكل فعّال العقبات التي تواجه التمتع بتلك الحرية، واليوم يطلق على أولئك الذين يؤيدون الأفكار الليبرالية القديمة: المحافظون.
ونلاحظ أن أبرز نقطة في التمايز بين الطورين السابقين هو في مدى تخلي الدولة في تنظيم الحريات، ففي الليبرالية الكلاسيكية لا تتدخل الدولة في الحريات، بل الواجب عليها حمايتها ليحقق الفرد حريته الخاصة بالطريقة التي يريد دون وصاية عليه، أما في الليبرالية المعاصرة فقد تغير ذلك، وطلبوا تدخل الدولة لتنظيم الحريات وإزالة العقبات التي تكون سبباً في عدم التمتع بتلك الحريات.
وهذه نقطة جوهرية تؤكد لنا أن الليبرالية اختلفت من عصر إلى عصر، ومن فيلسوف إلى آخر، ومن بلدٍ إلى بلدٍ، وهذا يجعل مفهومها غامضاً كما تقدم.
وقد تعددت مجالات الليبرالية بحسب النشاط الإنساني، لأنها تتعلق بإرادة الإنسان وحريته في تحقيق هذه الإرادة فكل نشاط بشري يمكن أن تكون الليبرالية داخلة فيه من هذه الزاوية.
ومن أبرز هذه المجالات: المجال الفكري، والسياسي، والاقتصادي.
أولاً ـ المجال الفكري: الليبرالية في أصلها فكرة فلسفية تقوم على تعظيم شأن الفرد، وتوسيع نطاق حريته، حيث كانت نشأتها ردة فعل عكسية لواقع محتقن، سببته سيطرة الكنيسة على مجريات الأمور.
وبعد أن انحسر دور الكنيسة، وانطلقت الثورة الصناعية في أوروبا، وتغلغلت مبادئ الثورة الفرنسية عن الحرية والإخاء والمساواة، نشأت طبقة جديدة استكملت بنيتها الاجتماعية، وأسست في نهاية الأمر عصراً جديداً. وعبر هذه المغامرة تشكّلت رؤى جديدة وأساليب مبتكرة، وأخلاقيات عملية، واكبت الطبقة الوسطى التي سيطرت على مقاليد الأمور، وقد سعت هذه الطبقة لتأكيد وجودها، وفرض سيطرتها بثلاثة أمور:
1 ـ وضع تصور أخلاقي جديد يحمل طابعاً دنيوياً (علمانياً).
2 ـ تحجيم السلطة بصورتها المطلقة سابقاً.
3 ـ الثورة ضد القيود المعارضة للحرية الفردية في سائر المناحي الفكرية، والاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، المتمثلة في سلطة الدين، أو الدولة أو المجتمع.
ومن ثم ينتفي المطلق ليحل محله النسبي، والإلهي ليخلفه الإنساني، ومن هذا المنطلق استخدمت الحرية بمستوياتها الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والدينية بوصفها وسيلة لا كغاية.
ويُشكل الجانب الفكري المجال الأهم في المنظومة الليبرالية، وإن كان زمنياً، لم يتبلور بشكل واضح إلا تالياً لبعض المجالات الأخرى السياسية والاقتصادية، بحسب ترتيب الأولويات لدى الطبقة المنتفعة من هذا التوجه.
والليبرالية في مجالها الفكري تلتقي بوضوح مع النزعة الإنسانية، في كون الإنسان مقياس كل شيء، وهو الذي يضع المعايير الخاصة للخطأ والصواب، والخير والشر، والجميل والقبيح، والإنسان بعد ذلك هو السيد الأوحد في هذا الكون. فجوهر النزعة الإنسانية هو الدعوة لتحرير الإنسان من كل سلطة خارج حدوده، وتحريره من فكرة الإله، والكنيسة، وسلطة العادات. وهذه الأفكار تطورت فيما بعد وتشكلت مكونة مضمون الفكرة الليبرالية.
وقد ارتبطت الليبرالية الفكرية بجهود الفيلسوف "جون ستيوارت مِل" حيث انتقل من الكلام عن ليبرالية الدولة إلى ليبرالية المجتمع، وبرز الحديث حول حرية الفكر والرأي والتسامح الديني. وأن الحضارة إنما تبنى على أساس التسامح الديني الذي لا يقطع صاحبه برأي أو دين معين. وفي المقال القادم، بحول الله، نستكمل مجالات الليبرالية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.