هل فكر الكواكبي فعلاً كان مقتصراً على مناهضة الاستبداد من حيث تعرية آثاره وعلله على الأمة والإنسان؟ وهل ارتكاز فكره على مركزية داء الاستبداد لم تكن بنفس الحدة تجاه الأمة وحظها في التخلف عن الأمم الأخرى الرائدة؟ ألم يكن الكواكبي -رحمه الله- متوازناً في نظرته إلى مكامن الخلل في نهضة الأمة ورقيها، بين الاستبداد باعتباره الداء الرئيسي، وبين فتور الأمة وتقاعسها وكسلها في تهييئ البديل عن هذا الاستبداد، باعتبار ذلك أيضاً سبباً رئيسياً في استئساد هذا الاستبداد؟
مركزية "داء فتور الأمة"
تجلت مركزية نظرة الكواكبي -رحمه الله- إلى فتور الأمة في فكره، من خلال كتابه الثاني "أم القرى"، وهو حسب ما قاله حفيده "أول كتاب نُشر للكواكبي، وقد أشرت آنفاً إلى أنه قد كتبه كله أو كتب أفكاره ومخططه في حلب خلال العقد الأخير من القرن التاسع عشر.
وفي هذا الكتاب بسط الكواكبي بتفصيل أسباب فتور الأمة الإسلامية وسبل النهضة من هذا الفتور، معتمداً في ذلك أسلوباً روائياً من خلال "تخيله أو نقله" لوقائع جلسات حوار ومناقشة، في مؤتمر يجمع علماء مسلمين من شتى أقطار الأمة الإسلامية عقد بمكة، غايته الوقوف على مكامن داء فتور الأمة الإسلامية، ولقد لخص الكواكبي -رحمه الله- مجمل المداخلات بشكل تركيبي، من خلال المداخلة التي تقدم بها في هذا المؤتمر قائلاً: "يسْتَفَاد من مذاكرات جمعيتنا الْمبَارَكَة أَن هَذَا الفتور المبحوث فيهِ ناشئ عَن مَجْموع أَسبَاب كَثِيرَة مشْتَركَة فيهِ، لَا عَن سَبَب وَاحِد أَو أَسبَاب قَلَائِل تمكن مقاومتها بسهولة. وَهَذِه الأسباب منها أصول، وَمنها فروع لَهَا حكم الْأصول. وَكلهَا ترجع إِلَى ثَلَاثَة أَنوَاع: وَهِي أَسبَاب دينية، وَأَسْبَاب سياسية، وَأَسْبَاب أخلاقية…"، وقد ذكرها مفصلة في كتابه المذكور ومن هذه الأسباب الرئيسة والتي صنفها أصولاً:
النوْع الأول، الأسباب الدينية:
- تأثير عقيدة الجبر في أفكار الأمة.
- تأثير فتن الجدل في العقائد الدينية.
- الاسترسال للتخالق والتفرق في الدين.
- الذهول عَن سماحة الدين وسهولة التدين به.
- تَشْدِيد الْفقَهَاء الْمتَأَخِّرين في الدين خلافا للسلف.
- إِدْخَال العلمَاء المدلسين على الدين مقتبسات كِتَابِية وخرافات وبدعاً مضرَّة.
- إدخال المدلسين والمقابرية على العامة كثيرا من الأوهام.
- اعْتِقَاد منافاة العلوم الحكمِيَّة والعقلية للدين.
- الغفلة عن حكمة الجماعة وَالجمعَة وجمعية الحج.
النوع الثاني، الأسباب السياسية:
- السياسة المطلقة من السيطرة والمسؤولية.
- حرمَان العلماء العاملين وطلاب الْعلم من الرزق والتكريم.
- اعتِبَار العلم عَطِيَّة يحسن بهَا الْأمَرَاء، وتفويض خدمَة الدين للجهلاء.
- قلب موضوع أخذ الأموال من الأغنياء وإعطائها للفقراء.
- إبعاد الْأمَرَاء النبلاء والأحرار وتقريبهم -أي الملوك- للمتملقين والأشرار.
- حصر الاهتمام السياسي بالجباية والجندية فَقَط.
النوع الثالث، الأسباب الأخلاقية
- الِاسْتِغْرَاق في الْجَهْل والارتياح إِلَيْهِ.
- فقد التناصح وَترك البغض في الله.
- انحلال الرابطة الدينية الاحتسابية.
- فقد التربية الدينية والأخلاقية.
- فقد قوَّة الجمعيات وَثَمَرَة دوَام قِيَامهَا.
- فقد الْقوَّة الْمَالِيَّة الاشتراكية بِسَبَب التهاون في الزكاة.
- معاداة الْعلوم الْعَالِيَة ارتياحا للْجَهَالَة والسفالة.
- التباعد عَن المكاشفات والمفاوضات في الشؤون الْعَامَّة.
- الذهول عَن تطرق الشرك وشآمته.
وبعدها يضيف أسباباً أخرى يراها مكملة لما وقفت عليه مداخلات السادة العلماء بالمؤتمر، ومنها:
- تَوْحِيد قوانين الإدارة والعقوبات، مَعَ اخْتِلَاف طبائع أَطْرَاف المملكة وَاخْتِلَاف الأهالي في الْأَجْنَاس والعادات.
- تنويع القوانين الحقوقية، وتشويش الْقَضَاء في الْأَحْوَال المتماثلة.
- الْتِزَام تَفْوِيض الإمارات المختصة عَادَة بِبَعْض الْبيوت، كإمارة مَكَّة وإمارات العشائر الضخمة في الْحجاز وَالْعراق والفرات لمن لَا يحسن إدارتها، لأجل أَن يكون الْأَمِير منفورا مِمَّن ولي عَلَيْهِم مَكْروها عِنْدهم فَلَا يتفقون مَعَه ضد الدولة.
- التَّمْيِيز الْفَاحِش بَين أَجنَاس الرّعية في الْغنم وَالْغرْم.
- التساهل في انتخاب الْعمَّال والمأمورين والإكثار مِنْهم بِغَيْر لزوم، وَإِنَّمَا بِقصد إعاشة الْعَشِيرَة و المحاسيب والمتملقين الملحين.
- التسامح في الْمكَافَأَة والمجازاة تهاوناً بشؤون الإدارة حسنت أم ساءت، كَأَن لَيْسَ للْملك صَاحب.
- إدارة بَيت المَال إدارة إِطْلَاق بِدونِ مراقبة، وجزاف بِدونِ موازنة، وإسراف بِدونِ كتاب، وَإِتْلَاف بِدونِ حِسَاب، حَتَّى صَارَت المملكة مديونة للأجانب بديون ثَقيلَة توفى بلاداً ورقاباً وَدِمَاء وحقوقاً.
- إدارة الْمصَالح المهمة السياسية والملكية بِدونِ استشارة الرّعية وَلَا قبول مناقشة فيهَا، وَإِن كَانَت إدارة مَشْهودَة الْمضرَّة في كل حَرَكَة وَسكون.
- إدارة الْملك إدارة مداراة وإسكات للمطلعين على معايبها حذراً من أَن ينفثوا مَا في الصّدور فتعلم الْعَامَّة حقائق الْأمور، والعامة من إِذا علموا قَالوا وَإِذا قَالوا فعلوا وَهنَاكَ الطامة الْكبْرَى.
- إدارة السياسة الخارجية بالتزلف والإرضاء والمحاباة بالحقوق والرشوة بالامتيازات والنقود، تبذل الإدارة ذَلِك للجيران بِمقَابلَة تعاميهم عَن الْمشَاهد المؤلمة التخريبية، وصبرهم على الروائح المنتنة الإدارية، وَلَوْلَا تِلْكَ الْمشَاهد والروائح لما وجد الْجِيرَان وَسِيلَة للضغط مَعَ مَا أَلْقَاه الله بَينهم من الْعَدَاوَة والبغضاء إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
خلاصات عامة
يمكن إذن أن يتبين للقارئ من خلال هذه السياحة في حياة وفكر عبد الرحمن الكواكبي رحمه الله، الخلاصات التالية:
- فكر الكواكبي كما أنه جعل من داء الاستبداد داء مركزياً تدور حوله كل الأمراض المجتمعية التي تعيق النهضة والتنمية، فإنه جعل أيضاً من داء فتور الأمة داء مركزياً يعيق هذا النهوض الحضاري.
- الاستبداد عند الكواكبي مراتب وأشده خطراً على الأمة هو الحكم المطلق الذي يغيب مطلقاً إرادة الأمة.
- فتور الأمة لدى الكواكبي له علاقة بهذا الاستبداد، من حيث التأثير فالاستبداد يوهن من همة الأمة ويؤدي إلى فتورها، وهذا الفتور إذا لم تتم مقاومته يعزز تجدر الاستبداد واستفحاله.
- فكر الكواكبي هو فكر وحدوي يرتبط بوحدة الأمة الإسلامية ولعل ذلك ما جسده كتابه أم القرى الذي هو تعبير عن تعلق الكواكبي رحمه الله بهذه الوحدة من خلال المؤتمر الذي جمع رجال الأمة من شتى البقاع.
- الكواكبي يعتبر الدين في أصالته تحررياً ضد الظلم والاستبداد، وبالتالي فهو في كتابه طبائع الاستبداد يشن هجوماً على صنف من العلماء الذين يوظفون تأويلاً سيئاً لنصوص الدين لتبرير الاستبداد والركون إلى الظلم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.