صنع اللاعب الدولي السنغالي ساديو ماني الحدث، في الأيام القليلة الماضية، على الساحة الرياضية العالمية، بقيادته منتخب بلاده للتتويج بلقب كأس أمم إفريقيا لكرة القدم 2022، لأول مرة في تاريخ هذا البلد الواقع في غرب القارة السمراء، كما أرفق مهاجم فريق ليفربول الإنجليزي هذا الإنجاز الجماعي بتتويج فردي، بنيله جائزة أفضل لاعب في البطولة.
ولن يكون من العدل أن يمر هذا التتويج المزدوج دون التطرق لقصة ساديو ماني مع رياضته المفضلة، التي ستكتشفون من خلالها عن أمورٍ مثيرةٍ في حياته تصلح لتشكل دروساً وتحفيزات للشبان الطموحين مهما كانت جنسياتهم وأعراقهم.
والده الإمام عارض ممارسته كرة القدم
وُلد ساديو ماني يوم 10 أبريل/نيسان 1992 ببلدة "بومبالي"، وهي منطقة ريفية بجنوب السنغال، تابعة لمقاطعة "كازامانس"، حيث بدأ ممارسة رياضة كرة القدم في سنٍ مبكرةٍ مع أقرانه على أراضيها الترابية الواسعة، وحيث ظهرت موهبته ومهاراته الفنية المميزة، خاصة أنه في فترة صباه كان من أشد المعجبين بالنجمين السابقين، السنغالي الحاجي ضيوف، والبرازيلي رونالدينيو.
ولكن الشغف الكبير للفتى ساديو برياضته المفضلة اصطدم بصرامة والده الذي كان إمام القرية، والذي كان يرفض اللعب المفرط لنجله لكرة القدم، وكان يحثه على الاهتمام والتركيز أكثر على دراسته، ما دفع النجم الحالي لنادي ليفربول الإنجليزي للمغامرة، عندما كان يبلغ من العمر 15 سنة، بالهروب من المنزل العائلي نحو العاصمة السنغالية، دكار، التي تبعد عن مسقط رأسه بنحو 400 كلم، وذلك بحثاً عن فريق ينشط في صفوفه.
استمر هروب ساديو ماني من بيت والده أسبوعاً واحداً، قبل أن تعثر عليه عائلته وتعيده إلى القرية، ولكن إصرار ماني على لعب "الجلد المنفوخ" جعل والده، في عام 2009، يقتنع أخيراً بضرورة رحيل ماني نحو مدينة "مبور"، بضواحي العاصمة دكار، والمعروفة بكثرة أنديتها لكرة القدم، واحتضانها لدورات رياضية ما بين الأحياء لاكتشاف المواهب، وهي الدورات التي نجح ماني من خلال مشاركته في إحداها في لفت انتباه "عبدو دياتا"، كبير كشافي نادي "جنيراسيون فوت" وذلك على الرغم من خوضه للمباريات بقميص وحذاء ممزقين مثلما كشف هو شخصياً في العديد من التصريحات السابقة.
وبعد يومين فقط من التجارب الفنية مع "جينيراسيون فوت"، أقنع ساديو ماني مدرب الفريق، في ذلك الوقت "جيل بوشار"، الذي قال لكبير الكشافين متحدثاً عن ماني: "هذا اللاعب سنأخذه مباشرة"، أي دون تردد ودون تجارب إضافية.
انضم لأول فريق في سن الـ17 قبل الاحتراف بفرنسا
انضم ساديو ماني لنادي "جينيراسيون فوت" وهو في سن الـ17، وساهم في صعود الفريق إلى دوري الدرجة الثانية السنغالي في موسم (2010- 2011)، ثم خطفه نادي ميتز الفرنسي في يوليو/تموز 2011 الذي تربطه شراكة مع النادي السنغالي، حيث تعاقد مع الجناح الواعد ليضمه في البداية للفريق الرديف ثم للفريق الأول في يناير/كانون الثاني 2012.
لم يتألق ماني كثيراً مع نادي ميتز، بحيث اكتفى بتسجيل هدف واحد فقط وصناعة هدف آخر في 20 مباراة في الدوري الفرنسي للدرجة الثانية لموسم ( 2011- 2012)، لكنه برز بشكلٍ لافتٍ خلال مشاركته مع المنتخب الأولمبي لبلاده في أولمبياد لندن في صيف 2012، ما جلب اهتمام نادي ريد بول سالزبورغ النمساوي الذي ضمه لصفوفه يوم 31 آب/أغسطس، أي في آخر أيام الميركاتو الصيفي لنفس العام، في صفقة بلغت قيمتها 4 ملايين يورو.
موهبته انفجرت في نادي سالزبورغ النمساوي
وانفجرت موهبة ماني ضمن فريق سالزبورغ، بحيث كان تواجده بالنادي النمساوي بمثابة تكوين رياضي جديد، خاصة أنّ الأخير معروف بمنحه الفرصة للاعبين الشباب، فشارك النجم السنغالي في 87 مباراة رسمية خلال موسمي (2012-2013) و(2013- 2014) وبداية موسم (2014- 2015) سجل خلالها 45 هدفاً وقدم 32 تمريرة حاسمة، قبل أن يغادر يوم 1 سبتمبر/أيلول 2014 الدوري النمساوي نحو دوري من مستوى أعلى، ونعني به الدوري الإنجليزي الممتاز، من بوابة نادي ساوثهامبتون الذي دفع 15 مليون يورو لنادي ريد بول للاستفادة من خدمات ابن قرية "بومبالي".
لم يجد ماني صعوبات كثيرة للتأقلم مع أجواء المسابقات الإنجليزية حيث سجل 10 أهداف في الموسم الأول (2014-2015)، من بينها ثلاثية "هاتريك" في مرمى فريق أستون فيلا يوم 16 مايو/أيار 2015، والتي وقَّعها في ظرف دقيقتين و56 ثانية فقط، محطماً بذلك الرقم القياسي كأسرع هاتريك في تاريخ الدوري الإنجليزي الممتاز، والذي كان بحوزة الإنجليزي روبي فاولر، النجم السابق لنادي ليفربول والتي سجله يوم 28 آب/أغسطس 1994 في مرمى فريق آرسنال، في ظرف 4 دقائق و33 ثانية.
وأنهى ماني موسمه الثاني مع ساوثهامبتون (2015- 2016) هدافاً للفريق في كل المسابقات برصيد 15 هدفاً، إضافة لصناعته 10 أهداف أخرى.
غاب عن مواجهة ليفربول لسبب غريب
وتميزت فترة تواجده مع ساوثهامبتون بالعديد من المواقف الطريفة، منها غيابه عن مواجهة نادي ليفربول (0-2) التي جرت يوم 22 فبراير/شباط 2015 لحساب الدوري الممتاز لسبب غريب وهو تأخره في الوصول إلى ملعب "سانت ماري".
لكن غيابه عن تلك المباراة لم يؤثر على سمعته كلاعب منضبط فضلاً عن قدراته الفنية المميزة، ما لم يؤثر بالتالي، في سعي نادي ليفربول لضمه، فتعاقد معه "الريدز" يوم 28 يونيو/حزيران 2016، لمدة 5 سنوات مقابل 36 مليون يورو، ليصبح بذلك ثالث لاعب سنغالي ينشط في النادي الإنجليزي العريق بعد الحاجي ضيوف وساليف دياو، كما أضحى، في ذلك الوقت، ثاني أغلى لاعب في تاريخ نادي ليفربول، وأغلى لاعب في تاريخ الكرة الإفريقية.
وسرعان ما كسب ماني ود جماهير ليفربول، وبات قطعة أساسية في الخط الأمامي للفريق رفقة، المصري محمد صلاح والبرازيليين فيرمينيو وكوتينيو، وأنهى موسمه الأول مع ناديه الجديد (2016- 2017) هدافاً للفريق برصيد 13 هدفاً في الدوري الإنجليزي الممتاز، كما اختير ضمن التشكيلة المثالية لـ"البريميرليغ"، على الرغم من مشاركته في 27 مباراة فقط، من أصل 38 ممكنة، بسبب تعرضه لعدة إصابات متفاوتة الخطورة.
تتويجات وأرقام قياسية بالجملة مع "الريدز"
وواصل ماني تألقه مع ليفربول في الموسم الموالي (2017- 2018)، فسجل 10 أهداف ومنح 7 تمريرات حاسمة في الدوري الممتاز في 29 مباراة، لكنه برز أكثر في دوري أبطال أوروبا لكرة القدم، بتسجيله لـ10 أهداف وصناعته لهدفين آخرين في 13 مباراة، من بينها هدف واحد في اللقاء النهائي للمسابقة الذي انهزم فيه "الريدز" أمام ريال مدريد الإسباني (1-3)، ليصبح بذلك ثالث لاعب إفريقي يسجل 10 أهداف على الأقل في البطولة الأوروبية في موسمٍ واحدٍ، بعد كل من الكاميروني صامويل إيتو والإيفواري ديديه دروغبا.
وكان موسم (2018- 2019) بمثابة الأفضل في مشواره الرياضي بالنسبة لساديو ماني، بحيث نال جائزة أفضل هداف في الدوري الإنجليزي الممتاز، مناصفة مع زميله محمد صلاح والغابوني بيار إيمريك أوباميانغ، برصيد 22 هدفاً لكل واحد منهم، كما تُوّج، رفقة ليفربول، بلقب دوري أبطال أوروبا بعد الفوز في اللقاء النهائي على نادي توتنهام الإنجليزي بنتيجة هدفين لصفر، حيث كان وراء ركلة الجزاء التي افتتح على إثرها المصري صلاح النتيجة لفائدة فريقه.
وافتتح ساديو ماني موسمه الرابع مع ليفربول (2019- 2020) بالتتويج بلقب السوبر الأوروبي بالفوز على نادي تشيلسي الإنجليزي يوم 14 آب/أغسطس 2019 بإسطنبول، بفضل ركلات الترجيح ( 5-4)، بعدما انتهى الوقتان الرسمي والإضافي بالتعادل (2-2)، وسجل النجم السنغالي هدفي فريقه.
وقد كان ذلك التألق في المسابقتين الأوروبيتين وفي الدوري الإنجليزي بمثابة مقياس منطقي لتتويج ساديو ماني بجائزة "الكرة الذهبية" لأفضل لاعب إفريقي لسنة 2019، متقدماً على كل من زميله في ليفربول، محمد صلاح، والجزائري رياض محرز، نجم نادي مانشستر سيتي الإنجليزي، وذلك على الرغم من قيادة "محارب الصحراء" منتخب بلاده لنيل كأس أمم إفريقيا التي جرت بمصر في صيف نفس العام، بعد فوز الجزائر في اللقاء النهائي على السنغال (1-0).
وأنهى ساديو ماني موسم 2019-2020 بنيل لقب الدوري الإنجليزي الممتاز، رفقة ليفربول، حيث أسهم في هذا الإنجاز بتسجيله 18 هدفاً وتقديمه 7 تمريرات حاسمة في 35 مباراة.
وأخيراً أصبح بطل إفريقيا مع السنغال
أما في موسم ساديو ماني الخامس (2020- 2021)، فقد تراجع أداء ماني قليلاً بتسجيله لـ11 هدفاً ومنحه 5 تمريرات حاسمة في 34 مباراة للدوري الممتاز، لكنه عاد بقوة في الموسم الجاري (2021- 2022)، بتوقيعه لحد الآن 8 أهداف وصناعة هدف آخر، في 20 مباراة في "البريميرليغ" وهدفين اثنين وتمريرة حاسمة واحدة في 6 مباريات في دوري أبطال أوروبا.
إضافة لـ6 أهداف و4 تمريرات حاسمة لمنتخب بلاده السنغال في 12 مباراة رسمية، أهمها الأهداف الثلاثة التي وقعها في نهائيات كأس أمم إفريقيا لكرة القدم التي جرت بالكاميرون من 9 يناير/كانون الثاني إلى 6 فبراير/شباط من العام الحالي، والتي نال لقبها السنغال بعد الفوز في اللقاء النهائي على مصر بركلات الترجيح، كما نال ماني جائزة أفضل لاعب في البطولة.
تبرعات سخية لقريته وسكانها
هذا هو المشوار الرياضي الحافل لساديو ماني الذي لا يمكن اختصاره في مقالٍ واحدٍ.. مشوار بدأه باللعب في قريته الصغيرة النائية في ظل معارضة والده الإمام الذي لم يكن يدري أنّ رياضة كرة القدم التي كان يرفض أن يمارسها نجله ستكون سبباً، بعد سنوات عديدة، في إسعاد كل سكان القرية، بحيث ساهم ساديو بتبرعاته المالية الكبيرة في إنجاز مدرسة ومسجد ومستشفى بمسقط رأسه.
إضافة لمنحه مبلغاً مالياً لبلده السنغال للمساهمة في مكافحة جائحة "كورونا"، فضلاً عن مساعدة ساديو ماني للكثير من الفقراء والمحتاجين داخل وخارج السنغال، كما فعل بتكفله بعلاج طفل كاميروني يعاني من مرض خطير، ليؤكد أنه حقاً لاعب حماسي فوق الميدان لكنه رجل شهم وخلوق خارج الملعب، ولعل ظهوره في عام 2018 وهو ينظف دورات المياه بأحد مساجد مدينة ليفربول لأكبر دليل على تواضعه المميز.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.