على الرغم من أنها سيرة ذاتية لكاتبتها فاطمة المحسن، فإنها تكاد تكون سيرة المجتمع العراقي كله، والكتاب عبارة عن مقطوعة من الموسيقى الحزينة التي تجتذب الأذن ويتفاعل معها القلب بالأسى والشجن، أعطت الكاتبة عنوان "الرحلة الناقصة" لسيرتها، ولم تفصح لنا عن سبب نقصها، وعندما سألها زوجها رفيق رحلتها الذي أهدت الكتاب له عن مغزى الاسم، علقت بأنها كانت واثقة بمعرفته بقصدها، ولكنه رفض أن تخلف رحلتها موعدها، وما كانت تظن أنه هو الذي سيتركها على نقصانها.
نفهم في الفصل الأخير أنها كتبته بعد رحيل زوجها، رغم أنني كقارئ كنت أستبق الصفحات لأعرف ميناء الرحلة الأخيرة، كنت أظن أن الزوج هو من سيكتب خاتمة السيرة الناقصة بعد رحيل زوجته، فقد كانت في الصفحات الأخيرة تحدثنا عن مرضها بالسرطان والمضاعفات الشديدة التى تعرضت لها، وقسوة العلاج الكيميائي الذي خضعت له، ثم عملية زرع نخاع العظام التي ستحل فيها خلايا صحيحة مكان الخلايا الخبيثة.
قسوة هذه المرحلة جعلتنا نشعر باقتراب النهاية، وأننا سنختم بصفحة يرثي الزوج فيها زوجته.
لكن الموت سبق إلى الزوج، تحدث الزوج قبل موته بساعتين، قال إنه قد قضي اثنتي عشرة ساعة في العمل، تعلق الكاتبة: لطالما خذله جسده وحاول تخطيه بعناد طفل وغرور مكابر.
علاقتهما كان فيها تكامل وتضاد، نجت هي بعد أن كادت تقع في براثن الموت، ولكنه كان معها حبيباً ودوداً معطاء يساعدها في محنتها، ثم هجرها مؤقتاً، تكتب: السرطان يشعر صاحبه بالضعف وبالإعاقة، لا تستطيع الشعور بضمان مساندة أحبتك إلى النهاية، هي شعرت بأنها فقدت التكافؤ مع فالح، برهن على إخلاصه طوال مرضها، وفي شجار معتاد تركها بعد الشفاء، كانت صدمة كبيرة، شركاء مرضى السرطان يضحون بكل شيء في بداية المرض من أجل شركائهم، ثم تغلبهم حسابات المستقبل، ولكن فالح رجع بعد تجربة مر بها مع امرأة أخرى، اقتنع بعدها أنه غير قادر على هجر حياتهما المشتركة.
الكاتبة أديبة وصحفية عاشت حياتها الأولى في مدينة الناصرية، مدينة كالكثير من مدن العراق دخلتها الأفكار الشيوعية والبعثية مبكراً، انقسمت العوائل بين الحزبين، خالها الكبير كان بعثياً، دخل بيت أبيه مهدداً بالمسدس، اختفى أخوه وابن أخته الشيوعيان داخل السرداب، كان يصيح "وينهم جرذان الشيوعية" .
احتلت الأحزاب مكان العشائر في الناصرية مبكراً، فيما بعد سجلت المدينة رقماً أعلى في عدد المنتحرين مقارنة بباقي مدن العراق، وسجلت نسبة أعلى من القتلى في الحروب أيضا، ثم أتخمها الفقر والتخلف وغزتها المخدرات، ماضيها كان أكثر تطوراً من كثير من المدن، ساد فيها التعليم وانتشرت دور السينما وعجت بشعراء السياسة والغزل.
أبوها كان كارهاً للشيوعية يقرأ العقاد، يدللها أكثر من باقى أبنائه، زوجته الثانية كانت شيوعية نشيطة، ورثت الابنة غضب أمها على أبيها بعد زواجه الثاني، مع الوقت أصبح الأب مكتئباً يتعاطى الحبوب المهدئة بإسراف، أخوها غير الشقيق حكم عليه البعثيون بالسجن لسنوات، لفقوا له تهمة غريبة، قالوا إنه رمى كلباً على عزاء الحسين، لم يكن في الناصرية كلاب، ولكنه اشتهر بسخريته من مراسم عاشوراء وما يشبهها.
سكنت العائلة بغداد منذ كانت الكاتبة في سن العاشرة، لم نفهم لماذا قررت أن تصبح شيوعية ولا لماذا تركت الحزب مبكراً بعد خروجها من السجن، تقول إن الكتب والسينما كانت تنغص عليها القناعات التي تجلب الطمأنينة لأصحابها، الولع بالشيوعية والانتساب إلى الحزب لم يكونا أكثر من رغبة في مغامرة تبقينا على حافة الخطر، بطولة نخترق بها قلقنا وحياتنا الشحيحة التي نقارنها بغنى التجارب والأماكن في الروايات والسينما، عشنا داخل شاشة كبيرة، ولم نستيقظ من ضجيجها ووميض مراياها إلى اليوم، بالطبع يتضح للقارئ أن الفكرة الشيوعية حرمتها من طمأنينة الإيمان بالله واليوم الآخر، كما سيتضح أيضاً من خواطرها عن الموت.
خلال دراستها في كلية الآداب أصبحت محررة في إحدى صحف الدولة، وكانت تنتظرها وظيفة ذات عائد مجز عندما تتخرج، لكنها فضلت الالتحاق بمجلة الحزب لتحرير صفحات العمال، عمل نشيط كثير لكنها كانت راضية رغم دخله القليل، طلبت منها من أصبحت رئيسة الحزب فيما بعد أن تستعير بدلتها السوداء التي اشترتها فاطمة من بالة الملابس المستعملة لترتديها عندما تلقي خطابها في عيد الحزب.
انتهى أمرها إلى سجن مروع، تعذيب شديد وإضراب عن الطعام، كان ذلك في نهاية سبعينيات القرن الماضي، حين انتهت الهدنة بين البعث والشيوعيين، وأعلن صدام عن اجتثاث الشيوعية، خرجت من السجن وقد صاحبها نفور من قادة الحزب، نزف التنظيم خيرة شبابه، وبقي القادة دون نقصان.
هربت إلى طهران مع عودة الخميني ونجاح ثورته، هناك رأت أن ديكتاتورية رجل الدين لا تقل سوءاً عن ديكتاتورية الرفاق من الشيوعيين والبعثيين.
هربت إلى لبنان، كثير من المثقفين العراقيين وجدوا ملجأ في جمهورية الفكهاني، المخيم الفلسطيني البائس حيث بيوت الصفيح أعطاهم أماناً مؤقتاً، أكثرهم عمل في صحف منظمة التحرير، بعضهم غادروا لبنان على السفن التي حملت الفلسطينيين إلى منافيهم.
انتهى بها المطاف إلى بودابست عاصمة المجر، وهيأ لها ممثل الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين أن تدرس الدكتوراه هناك، لم يلتفت إلى أنها تركت الحزب الشيوعي، المقاييس الحزبية كانت مقدمة على المؤهلات الأكاديمية، لكنه كان كريماً.
بعد حصولها على الدكتوراه عادت إلى سوريا التي كانت تشكل آنذاك الوطن لكل العراقيين المعارضين. عملت في صحيفة الحرية التابعة للجبهة الديمقراطية، كانت صحف اليسار الفلسطيني تجتذب أقلام العراقيين المنفيين والسوريين المعارضين، الحياة في سوريا كانت أجمل هدية، ببساطة روحها الشرقية وعذوبة مناخها، في العراق أيامها غطت عائدات النفط على ويلات الحرب، الكثير من المثقفين تحولوا إلى شحاذين في بلاط الديكتاتور، كثرت المهرجانات التي توفر فيها السلطة للمشاهير من الأدباء والشعراء العرب نساء للترفيه عنهم.
سُفحت أموال طائلة على موائد الأدباء العرب والضمائر التي تباع وتشترى في سوق العراق، عندما غزا العراق الكويت تحول كل اليسار العربي بمن فيهم معارضو صدام إلى دعاة لخطابه العدواني، وضاقت الأرض على الكاتبة والمنفيين العراقيين، تدبروا أمرهم للهجرة إلى لندن.
في تلك السنوات وصل لندن الكثير من مثقفي المعارضة العراقية، ترسم الكاتبة ببلاغة فاقعة أحوال المثقفين العراقيين، هناك الأفندية الذين يحتقرون الثقافة العربية مقابل تبجيل الثقافة الإنجليزية، وهناك الذين سبقوا إلى المنفى فأهلهم ذلك للتعامل الفوقي مع الآخرين، وهناك المثقفون الكحوليون الذين يشتركون في سمة واحدة، وهي عجزهم عن الاستقرار في مكان يأوون إليه في نهاية اليوم، وسرعتهم في إطلاق الألفاظ القاسية والشتائم المهينة.
وهناك جنتلمانية أو لعلها علاقات حميمة كما تفسرها، حيث يبجل الكتاب بعضهم، ويضفون عليهم سمات العبقرية وخاصة الكحوليين ومن يظنونه قادراً على خرق القوانين السائدة. وفي تعليق أخير: (لعل المجانين وأنصافهم، والكحوليين وأتباعهم، والحشاشين بأنماطهم، كلها نتاج خصال عراقية شبه انتحارية، تنشط بين الأدباء والفنانين على نحو مضاعف وتغدو أقرب إلى تطهر وعبث يستطيبهما العراقي).
في لندن عملت كاتبة في صحيفة الحياة، دخلها يغطى ربع نفقات الحياة، توسط لها الدكتور عبد الله الغذامي فأصبحت كاتبة بجريدة الرياض، لم يُمنع لها أي مقال ولم يدخل أي تعديل على ما تكتب، تنقطع عن الكتابة أحياناً بسبب السرطان فلا تنقطع المكافأة، قال لها تركي السديري إن هذا حقها مثل كل المحررين، كان موقفاً نبيلاً، في تلك الفترة صدر لها أكثر من كتاب.
عادت وزوجها مبكراً إلى بغداد، أي بمجرد نهاية الحقبة الصدامية، لكن الوطن لم يعد، اكتشفت في بغداد أن الحزب الذي انتمت إليه يوماً قد عزلها في جدار سميك عن العائلة وعن الوطن، أصبح هو عائلتها، هذه العزلة ظاهرة في كل الأحزاب العقائدية، تلك التي تعتنق فكراً مادياً أو فكراً دينياً، الكثيرون يستغربون عودة هؤلاء المنفيين.
قالت لها صديقتها التي أصبحت محجبة بعد أن ترملت، العراق لم يعد كما كان، ليس لكم مكان هنا، ستتعبون، أمام الفندق حشد من الأطفال يتسكعون أمام الدبابات الأمريكية، لا أهل لهم، تواجه حشود الأطفال المشردين في كل مكان، الحصار الاقتصادي سحق البلد، كانت فاطمة هي الصحفية العراقية المعارضة الوحيدة التي كتبت ضد الحصار، الحصار الذي أيده المعارضون العراقيون.
نهش الأرامل اللواتي مات أزواجهن في حروب صدام، أفردت صحيفة الغارديان البريطانية صفحة بأكملها للأطفال المشردين الذين يتعاطى بعضهم المخدرات، أصبحوا فيما بعض أدوات الميليشيات الطائفية والداعشية وبقايا جنود البعث. هنا نقرأ مرثية بالغة الأسى والبلاغة للعراق، كتبتها فاطمة بعد عودتها من المنفى، لم يعد العراق بحاجة لنا، تكتشف أنها فقدت العراق يوم عادت إليه.
لا يحتمل قارئ ألا يقرأ الكتاب مرتين، ولن يحتمل أن يبقيه بعدها في ذاكرته، كتبت فاطمة سيرتها بحبر المأساة، المأساة التي قتل فيها العراق العراق، وفتك فيها التقدميون بالرفاق، وقتل فيها الرفاق الرفاق، وفتك فيها الطائفيون بالوطن، وفتك اللايقين بنفوس أهله، رحماك يا الله.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.