حتى على موتك، يا ريان، كثيرون ممّن أكل الغل أفئدتهم، والغيرة جوارحهم، وعشعشت الكراهية في أكبادهم، حتى على موتك، يحسدونك يا ريان.
قتلهم حب الظهور، يا ريان، وانخدش شعور التعصب الأناني لديهم، وهز التضامن العالمي معك الاعتقاد الراسخ لديهم بأنهم نقطة ارتكاز الكون.
تعددت أسباب الغيرة من موتك، منها العنصري، ومنها الانغلاق على الذات، ومنها سواد القلوب، ومنها عمى البصيرة، حتى من بعض أبناء جلدتك ودينك، ولكنّ الأنانية واحدة يا ولدي.
حادث عرضي، لا يستحق كل هذه التغطية العالمية وكل هذا التضامن! هذا ما يرددونه يا ولدي. لم يتضامن معنا أحد كما تضامن مع ريان، سيما أننا عانينا أكثر منه بكثير، لاسيما انّ لدينا آلاف الريانات، هذا ما يقولونه يا ولدي.
يستكثرون على طفل خمس السنوات تغطية إعلامية وتضامناً عالمياً، يستكثرون عليه معاناته طوال خمسة أيام، يستكثرون عليه موته بالنهاية. كان على معاناتك خمسة أيام وحيداً متقوقعاً على نفسك في باطن الأرض، وعلى موتك بالنهاية، أن يمرا بصمت، دون أن يزعجا المنبطحين على كنباتهم في دفء بيوتهم أمام شاشات التلفزة، وألا ينغص التضامن العالمي عليهم سهرة السبت مع رقاقات البطاطس وحبيبات البوشار.
ربما يجب تذكير هؤلاء، الذين لا ينقص بعضهم الجحود، أنه قد تضامن العالم معكم في أكثر من مناسبة، وعلى رأسه المغرب، بلدك يا ريان، في الانفجارات الإرهابية وغير الإرهابية، وأن العالم استقبل لاجئي الحروب، وأرسل المساعدات الإنسانية. ربما لم يكن هذا التضامن كافياً، ولكن لا يمكن إنكار هذا التضامن.
على جميع الأحوال، أبشع مظاهر الظلم، يا ريان، هو "التنافس التظلّمي" الذي يبرع به هؤلاء، وكأنّ هنالك موتاً بسمنة، وموتاً بزيت، وكأنّ هناك موت باب أول، وهو الموت بسبب الانفجارات والإرهاب والحروب وما شاكلها، وموت باب ثانٍ، وهو كل ما عدا الصنف الأول، وكأنّ موتك أقل أهمية من موت غيرك، أو كأنّ موت غيرك أقل أهمية من رحيلك.
الموت هو الموت يا ولدي، وما يولده من أسى وتضامن داخل الأحياء، ليس إلا دليل على إنسانيتهم، وهو أكثر ما في الإنسان من إنسانية.
من قال إنه لا يجوز التضامن إلا مع ضحايا الجرائم؟ ومن قال إنه لا يحق للبشر أن يشعروا بالأسى إلا على ضحايا المجازر والحروب؟ منذ متى هنالك هرمية في الموت يا ريان؟ اسألهم يا ولدي، منذ متى؟
هل كان يجب أن تموت وحيداً، بصمت، كي يرضى هؤلاء؟ كي لا "تسرق" منهم النجومية التظلمية؟ كي لا يشعروا بتخفيض درجاتهم على مقياس المعاناة والظلم؟ كي يحافظوا على "جاههم" التظلّمي.
يريدون منع البشر من أن يروا أنفسهم فيك، أو في أبويك، يا ريان. لقد أعمتهم أنانياتهم وتعصبهم عن الأساسي، ألا وهو أنّ البشر متشابهون في إنسانيتهم، مهما كان لونهم، ومعتقدهم، وجنسيتهم، وإثنيتهم، يا ريان.
حتى القوانين الوضعية يا ريان، وهي غالباً ما تكون مجردة من العاطفة بحكم موضوعيتها، حتى القوانين والمعاهدات والشرائع على اختلاف الأنظمة القانونية حول العالم، تتعاطف مع الأطفال، وتعاملهم على أنهم حالة خاصة مميزة عن الكبار، وتحيطهم برعاية وحماية خاصتين، أكان ذلك في حالة السلم أم في حالة الحرب يا ريان.
ولكن يبدو أنّ بعض القلوب أكثر برودة حتى من القوانين يا ريان.
الغريب يا ولدي، أنه لم يجبرهم أحد على التضامن معك. فلكل شخص حرية التعبير عن تضامنه معك من عدمه. ولكن لا يحق لأحد، يا ريان، أن يحاول منع الناس من التعبير عن تضامنهم معك، لا سيما عبر تأثيم هذا التضامن من باب المقارنات الخنفشارية التي ترسي هرمية غير أخلاقية في الموت وأسبابه.
عساك تدخل من باب الجنة الذي سميت على اسمه، يا ريان، والذي "يدخل منه الصائمون يوم القيامة"، كما بشرنا بذلك المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام.
هنيئاً لك جنان الخلد بإذن اللّه، وهنيئاً لبلدك بهذه الدولة المتفانية في خدمة شعبها -على الأقل بالمقارنة مع غيرها من بعض دول العالم العربي، لا سيما في المشرق- وهنيئاَ لشعبك روح التضامن والأخوة تلك، وهنيئاً للعالم بفسحة من التضامن الإنساني التي تحققت بفضلك، يا ريان، في عتمة الجفاء وقسوة القلوب.
هنيئاً للإعلام بأنه كان، هذه المرة، على قدر المسؤولية الملقاة على كتفه، وأنه قام بدوره الإنساني، وأدى رسالته، رغم الكثير من الملاحظات على أدائه، وعلى أمل أن يكون كذلك في كل مرة، يا ريان.
بعض الأموات أحياء عند ربهم وفي ضمير ما تبقى من إنسانية على هذه الأرض، وقد بيّن التضامن معك، يا ريان، أنه تبقى منها أكثر مما كنا نعتقد؛ وبعض الأحياء، بغيظهم، وحسدهم لطفل مات وحيداً في أعماق الأرض، كل يوم من حياتهم… ألف ميتة يموتون.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.