من أنامل “العم علي” إلى عودة الدفء بين الجزائريين والمغاربة.. ما أهداه إيانا ريان قبل رحيله

عدد القراءات
19,906
عربي بوست
تم النشر: 2022/02/08 الساعة 14:28 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/02/08 الساعة 14:28 بتوقيت غرينتش
صورة تعبيرية / عربي بوست

منذ مدة كنت أنتظر خبراً ساراً أعوِّل عليه في تغيير حياتي، لكنه لم يأتِـ وبدلاً منه جاءت خيبة أمل أدخلتني في نوبة حزن طويل استمرت أياماً طوالاً، إلى أن جاء يوم الثلاثاء الماضي.

المحاولات الأولى

وصلتنا الأخبار عن سقوط طفل في بئر قديمة نواحي مدينة شفشاون، لم أكن أتوقع أن يحدث كل هذا، فللوهلة الأولى ظننت أن العملية لن تستغرق أكثر من ساعات لإنقاذ الطفل، كما قلت إنها ليست المرة الأولى التي يسقط فيها طفل ما في حفرة أو بئر ويتم إنقاذه، إلا أن الموضوع أخذ يكبر شيئاً فشيئاً، وتمر الساعات وريان ما زال في البئر، وفرق الإنقاذ تقف عاجزة أمام الحفرة الضيقة، فالبئر التي لا يتجاوز عرضها 35  سنتيمتراً وتضيق عند جسم الطفل لتصبح بعرض  25، وهو ما وقف حاجزاً أمام أحد المنقذين "عماد" وحالَ دون الوصول إليه.

تُعاد المحاولة مرة أخرى، وهذه المرة يبقى بين المنقذين وريان متران فقط، متران فصلا بيننا وبين رؤية ريان مجدداً. يحكي أحد المتطوعين وتفيض عيناه  بالدموع: "كنت بالقرب منه، اقتربت كثيراً، دعوني أعد لإنقاذه أرجوكم، لا حياة لنا دون ريان".

لكن دون أن تتحقق رغبته، يقرر فريق الإنقاذ، بتشاور مع السلطات والتقنيين، المرور للخطة الموالية بعد أن تيقن الجميع استحالة الوصول إليه من الثقب العلوي.

 الخطة البديلة

يحضر التقنيون المهندسون الذين تطوعوا أو تمت المناداة عليهم للالتحاق بعين المكان، وتقرر بدء الحفر الموازي للبئر إلى الحد الذي يصل بنا إلى حيث ريان، وهكذا منذ يوم الأربعاء، واستمر إلى غاية يوم السبت، مع توقفات بين الفينة والأخرى لأسباب تطرحها الطبيعة الجيولوجية للمنطقة؛ إذ تتميز منطقة جبال الريف (سلسلة حديثة) على العموم بتربة رملية سريعة الانهيار، الأمر الذي عقد مهمة آلات الحفر، والمهنيين والخبراء.

الآلات تحفر والقوات الخاصة تعرض علينا لقطات حية لتحركات الطفل ريان، فنراه مرة يتحرك وأخرى ثابتاً مكانه، ما يزيدنا إصراراً على الوصول إليه، خاصة أن عملية تزويده بالأوكسجين تكللت بالنجاح حسب فريق الإنقاذ.

وهكذا عقد الأمل على الوصول إليه وانتشاله من الموت، وانتشال قلوبنا من الضيق، فلقد كنا جميعاً في البئر لا ريان فقط، لأيام لم ننم كما يفعل الناس، كنا نرى ريان في أحلامنا، ونستيقظ على هواتفنا وأكفنا لله مرفوعة: يا رب، لعلهم أخرجوه.

يا الله، ما أصعب أن تقضي الأيام وأنت تعيش على أمل أن تنقذ عزيزاً من براثن الموت، لقد كانت لحظات عصيبة على البشرية جمعاء.

 علي الصحراوي.. المهدي المنتظر

على عكس الروايات التي تتحدث عن خروج المهدي من الجزيرة العربية -هي روايات لا نشكك فيها فليس هذا تخصصنا ولا موضوعنا- خرج علينا مهدي من وراء جبال الأطلس، من الجنوب الشرقي للمغرب المنسي، هذا الجزء من البلاد طاله التهميش لسنوات طويلة وما زال، ما يخرج من بيت أصلابه رجال بنيت على سواعدهم أسس مغرب أفضل، لم ينالوا حقهم لكنهم لم يبخلوا على هذا الوطن.

هكذا، وجدنا أنفسنا أمام أيقونة جديدة للكفاح تضاف للطفل ريان، عمي علي الصحراوي بتقاسيم وجهه التي إن دلت على شيء فعلى السنين الطويلة من العمل والكد، بسمرة أرض أرفود الجميلة، وبنقاء رمال صحرائنا المغربية العزيزة، أكل علينا عمي علي.

عمي علي متخصص في حفر الآبار بالمناطق الجافة، وهذه الآبار تحفر لمسافات عميقة بحثاً عن الفرشة المائية، ويطلق على هذه النوعية بالمغرب "الختارات". وتحفر كما صرح كثيرون بشكل يتماشى وما هو مطلوب في عملية إنقاذ ريان.

شمَّر عمي علي عن يديه وبدأت عمليات الحفر الدقيقة، فكما قلنا التربة حساسة للغاية، ولا يتوقع تفاعلها مع الحفر، وفي كل مرة تسقط أجزاء من الأتربة، ما شكل تهديداً حقيقياً لحياة عمي علي وفريقه (مساعدَيه)، فهل توقف عمي علي مخافة خسارة حياته؟

ألم أقل لكم إنه المهدي بشحمه ولحمه، هل يخاف من بايع الله على أن ينقذ حياة ريان، أو هل يستطيع الأب أن يغمض الجفن وابنه تحت التراب؟

لم يكن لعمي علي الصحراوي أدنى شك بأنه وضع حياته على المحك رفقة فريقه، إلا أن حياته وحياة كل الموجودين تهون أمام حياة ريان، ولست أبالغ إن قلت إنه لو طلب منه تقديم روحه مكان روح الطفل لفعل دون تردد، ليس هو فقط بل معظم الحاضرين ومن تابع الأحداث بقلبه وروحه.

استمر الحفر اليدوي طيلة مساء الجمعة وإلى حدود مساء السبت، استعان فيه فريق عمي الصحراوي بأسطوانة معدنية ضخمة تحميه من انهيار مفاجئ، ومع استمرار الحفر يحكي لنا عمي علي الصحراوي أن الفرق كانت تطالبه بالخروج للاستراحة أو الاكل، فيقول: "أي راحة وأي أكل وريان داخل الجب!".

لا راحة لنا ما لم يخرج ريان، لسان حالنا لطيلة الأسبوع الأصعب على كل المغاربة، بل على كل الإخوة العرب المسلمين منهم وغير المسلمين، وعلى البشرية جمعاء من الولايات المتحدة إلى أرخبيل شرق غينيا الجديدة.

 المرحلة الحاسمة.. لحظة الحقيقة

يخرج عمي علي الصحراوي تحت تصفيقات الحاضرين وتحت التكبيرات التي لم تتوقف، يلوح بيده للجموع، يلتقط أنفاسه مع مساعديه، يرتشف بغض الحليب والماء، ويقعد في وقار وعلى وجهه ابتسامة غريبة.

لا أخفي عليكم حديثاً أني شعرت بأن عينيه تخفيان شيئاً ما فليست هذه ردة فعل رجل وضع حياته على المحك، ورجل جاء من فج عميق ليضع بصمته ويصنع ما عجز عنه المهندسون الذين درسوا سنوات طوالاً، لم تكن ردة فعله تعبِّر عن الفرح.

قلت لربما الإنهاك، وجاءت تصريحات المسؤول عن العملية بالبشرى، فالطفل يتحرك والعميلة في أطوارها الأخيرة ولم يتبقّ سوى سنتيمترات قليلة للوصول إلى ريان وإخراجه حياً يُرزق.

يا الله عندما أتذكر مشاعر وأعين العائلة والناس بخبر الوصول إليه، كنا جميعاً وكأننا وُلدنا من جديد، وكأننا أحرزنا كأس العالم وانتصرنا في معركة فاصلة، أو عاد إلينا حبيب من بعد غربة طويلة أو شُفي لنا مريض بعد سقم طويل، أو أكثر، لا يمكن أن أصف تلك المشاعر الفياضة التي كانت تتفجر داخلي، تلك الأحاسيس والمشاعر الإنسانية ما كان يمكن أن يطلق العنان لها سوى خبر اقتراب خروج ريان.

تمر الساعات، ريان ما زال هناك، والشائعات تتناسل، والأخبار تروج والأقوال تتضارب، في اللحظات الأخيرة كنا داخل دوامة أخبار ضخمة، تخبطنا يمنة ويسرة، فما إن يشاع خبر حتى يكذب خبر، وهكذا على مدار أكثر من ست ساعات، تقريباً من العصر إلى العاشرة ليلاً، أي إلى لحظة خروج فريق الوقاية المدنية بريان، أو بجثة ريان.

تحت وقع الصدمة

لم أفرح بخروجه ذاك الفرح الذي كنت أتوقعه، رغم أن الكل يصرخ: "ريان خرج، الحمد لله"، طريقة خروجه لم تعجبني البتة، قلبي أخبرني بأن في الأمر إنَّ، لم أستطع أن أنبس ببنت شفة، فقد كان الكل يريد هذا الشعور، ولا يجب أن ننغص على الناس فرحتهم، خاصة أن الكل تحدث عن أنه ما عدا ثلة قليلة روجت منذ الأمس خبر وفاته، وربطته بتكتم فريق الإنقاذ على حالة الطفل، وهذا يجب الإشارة إليه، فمنذ مساء الخميس، لم نعد نشاهد ريان على الشاشة المخصصة، وتم تبرير الوضع بعدم رغبة الفريق في إظهاره بتلك الحالة لوقعه في نفوس أهله (ونحن كلنا أهله)، هذا المبرر الذي أحسنت لجنة الإنقاذ إخراجه، لتفادي ما لا تحمد عقباه، فلا أحد يتوقع ردة فعل الجماهير التي احتشدت في عين المكان، إن هي تأكدت من خبر وفاة ريان.

في خضم الفرحة التي لم تدُم سوى دقائق معدودة، ليخرج صحفي معروف وموثوق بتدوينة: "ريان في ذمة الله.. إنا لله وإنا إليه راجعون".

يا الله لا أريد أن أصدق الخبر، نعم داخلتني الشكوك مذ خروج عمي علي الصحراوي، لكن لم أكن لأصدق ذلك، ولا أريد أن أفعل ذلك، ولكن الكل يصر على أن الطفل ريان قد مات، وخاصة بعد بيان الديوان الملكي.

أنا داخل دوامة الصدمة، تهطل عليَّ أمطار الذكريات، صور ريان ومشهده وهو يتحرك، والآمال والتوقعات والأرقام، وابتسامة الصحراوي، وأتساءل: هل انتهى كل شيء؟ هل فعلاً مات ريان؟  

وأتمنى من كل قلبي أن يخرج أي مسؤول لينفي الخبر ويخبرنا أنه ينقل على وجه السرعة وبمروحية خاصة وتحت العناية الملكية، لتلقي العلاج بالمستشفى العسكري بالرباط.

لكن هذا لم يحدث، ولن يحدث أبداً، ربما في كون موازٍ؛ في عالمنا هذا لم ولن يحدث، وريان رحل عن عالمنا إلى عالم آخر، تركنا ليلقى رفقةً خيراً منا، وأرضاً خيراً من أرضنا ومنزلاً خيراً من منازلنا.

متى يموت الناس؟

"متى برأيك يموت الانسان؟

عندما تخترق رصاصة قلبه؟ أخطأت

عندما يحتسي شراباً ساماً؟ أخطأت

عندما يصاب بمرض لا علاج له؟ أخطأت

يموت الانسان عندما ينساه الآخرون".

الدكتور هيلولوك – شخصية كرتونية

ريان لم يمُت، هذا ما أريد أقوله، ريان سيظل حياً في قلوبنا إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، سيظل أيقونة للكفاح، يبقى الطفل الذي تشبث بالحياة حتى آخر رمق، وسيظل صوت ريان يهز ذواتنا في كل مرة، فمن الصعب أن تسفى جراحنا الغائرة، وحتى لو مرت ألف سنة، وتبدلت الأحوال لن يُنسى ريان، ولن يتسلل الموت إلى حيث كان ينام في وقار الملائكة، وفي ثوب الرجل الخارق.

هاتوا ثيابه نرقع بها جراحنا الغائرة، وانثروا موطئ أقدامه لتكون لنا دليلاً نحو إنسانيتنا التي افتقدناها وردَّنا إليها ريان.

انشروا شذى عطره في الحدود مع إخواننا الجزائريين لنعد كما كنا إخوة لا ضغائن ولا أحقاد، واملأوا الدنيا ضجيجاً: "نحن على عهدك يا ريان".

أفسحوا المجال للطفولة، وقدموا كل الغالي والنفيس لحماية ملايين ريان فوق تراب هذا البلد والعالم، وأنقذوا الطفل فينا.

وكفوا عن القول بأن ريان مات، فريان حي فينا، ولا تقولوا إن كان يتعذب في حفرته، بل كان أسعد الناس وهو يرى كيف تلاحمنا لنخرجه، وكيف تشبثنا به، ولم نتركه للوحدة والموت، بل لعله كان يستهزئ بالموت ويخبره:

"أن انظر هؤلاء أحبائي يقاتلون من أجلي، فهل عندك مثلهم؟".

لست أشك أن ملك الموت بكى حين قبض روحه، ولست أكذب إن قلت إن السماء ألبست السواد لحظة صعوده، ولكني لا أشك أيضاً في أن المولى بعطفه ولطفه مسح على رأسه.

 هل نتعلم الدروس؟

يجب أن نتعلم من ريان، يجب ألا ننسى تلك اللحظات التي كنا فيها على قلب رجل واحد، والتي فيها نزعنا عنه الرايات والتقسيمات الجغرافية والعرقية وقذفنا بقبيلتنا النتنة عرض الحائط.

كانت الجزائر الحبيبة معنا وموريتانيا المكافحة، وتونس العزيزة، وليبيا الأبية، ومصر الشقيقة، وفلسطين المجاهدة، وسوريا الأمل، وعراق الأخوة وكل بلدان المسلمين كانت معنا على قلب رجل واحد.

أليس يذكرنا هذا بحدث ما برجل ما، أليس يعيد لنا ذكرى رسول الله وصحابته الكرام، وأليس يقول لنا: "هذه أمتكم واحدة".

مع البشرية جمعاء جمعنا ريان، ولأيام تناسى الكل الحزازات، أفنعود لها مجدداً؟

لن نكون أوفياء لريان، إن مات طفل آخر في البئر، وإن مات طفل آخر بسبب الإهمال الطبي وسوء الرعاية، ولن نكون صادقين في تعاطفنا إن لم نضع أيدينا في أيدي بعض ونغير كل واقع الطفولة في المغرب والعالم الإسلامي والعالم.

  لن يسعد بنا ريان إن لم نحرر الطفل قطيفان اليوم قبل الغد من أيدي معذبيه، ولن يشفع لنا شيء عند الله إن لم نقف في وجه الظلم بكل أنواعه، وأوله حرمان الناس من حقوقهم.

إن استمرت العداوة بين المغرب والجزائر في وسائل التواصل على الأقل، فسنكون أسوأ نسخة إنسانية عرفتها البشرية، وسنهدر على أنفسنا فرصة لمّ الشمل وعودة المياه إلى مجراها المعتاد.

نعلم أن الأمر ليس هيناً، لكن ريان رسم لنا الدرب، وهذه عادة الرسل والأنبياء والصالحين، فإن مهمتهم الأساسية "رسم طريق التغيير"، وهكذا فعل ريان الحبيب.

أخيراً.. إن أفضل رثاء في حق ريان وأجمل ذكرى وأفضل عربون محبة، غير الاعتناء بأبويه الكريمين، اللذين ضربا المثل في الصبر وحسن الإيمان بقضاء الله وقدره، هو إنشاء فرقة تحمل اسم ريان متخصصة في عمليات الإنقاذ والتدخل السريع.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علي الرباج
كاتب مغربي
كاتب مغربي
تحميل المزيد