لماذا لم يستجيب الله لدعوات الملايين وأنقذ ريان من البئر؟

عدد القراءات
15,157
تم النشر: 2022/02/08 الساعة 09:30 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/02/08 الساعة 09:40 بتوقيت غرينتش

الطفل الصغير البريء ريان خطف قلوبنا وعقولنا، وعشنا معه محنته خمسة أيام كاملة، نقرأ ونتابع وندعو ونبتهل، حتى إذا وصلوا إليه في لحظة فرح وانتصار حاسمة فوجئ الجميع بخروجه جثة هامدة، ريان الذي صمد وتحمَّل الجوع والعطش والألم والظلمة والوحشة تحت الأرض آثر الآخرة على الدنيا، ولبَّى نداء ربه هادئاً مطمئناً، فلماذا يا ترى؟

فقصة ريان أثارت تساؤلات متعددة منها: "كيف يموت ريان وكل العالم دعا له، وبذلت الحكومة كافة الجهود لإنقاذه؟!".

وفي الحقيقة مأساة هذا الطفل فيها عِبَرٌ متنوعة، تعيد رسم مفهوم هذه الحياة، التي ما زال كثيرون يظنونها أو يريدونها "فقط: حلوة خضرة".

فيسألون: "لماذا توفي، وكيف ابتلاه الله وهو طفل غير مكلف؟".  

وسأجيب بعدة نقاط:

الأولى: توفّي ريان لأن هذا قضاء الله وقدره، فالملك كتب يوم وساعة وفاة ريان وهو جنينٌ في بطن أمه، وكانت هي تلك الساعة التي لن تتغير ولن تتحول، وأَمْرُ الله "كله خير وبركة"؛ فقد وصلنا لزمن صعبٍ قد يكون في الموت النجاة منه: "لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه" (متفق عليه).

الثانية: الله قادر على إخراج ريان من البئر سليماً صحياً ونفسياً، ولكن الله تعالى كرَّم هذا الطفل البريء، وفضَّله علينا جميعاً، حين جنَّبه الامتحان الصعب والحياة الشاقة الطويلة، وأعطاه الجنة وسرّع له رحيله إليها بموكب مهيب ومباركة عالمية؛ فلا ضير لو تعرَّض الصغير لبعض المشقة والمعاناة قبل أن يتوفاه الله ويرفع روحه الطاهرة.

فهذا الصغير عافاه الله من بلاء الدنيا وكدرها، ومشقة السعي والكد فيها، ومِن تحمُّل آلامها وأسقامها، والقلق من أمورها… وحملته الملائكة للجنة دون أن يصلي فرضاً أو يعاني طويلاً، حيث أغمي عليه، فهانت عليه تلك الساعات الرهيبة المريعة. 

– ستقولون: ولماذا يتحمل ريان الآلام والبلاء وهو طفل لم يُذنب، وليس مكلفاً لترتفع درجاته؟

والجواب: هذا قانون الحياة الدنيا التي نعيشها، وهذا هو "حق الحياة" الذي يسعى الناس إليه ويحبونه، فالحياة ثمنها باهظ وكبير، وهي مليئة بالمصائب والمصاعب، وليست كلها محببة وجميلة كما تتأملون وتحبون، والله بيَّن لنا طبيعتها بكل وضوح وصراحة: "ولَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين". 

وفي القرآن آيات كثيرة تُبين صعوبة الحياة وآلامها، وكيف خلق الله الإنسان في كبد، وقال لآدم إنه سيشقى ويجوع ويعرى، وقال المفسرون إن الطفل الصغير يعاني منذ ولادته وحتى مماته، وضربوا مثلاً  بمحنة بروز أسنانه، والصغير تعتريه الأمراض والأسقام والأوجاع مثله مثل الكبير، ولعله لذلك يستقبل الحياة بصراخ وبكاء (وإن قالوا إنما يستنشق الهواء).

الثالثة: البلاء -في قصة ريان وأمثالها- ليست للطفل وحده، وإنما لأهله وذويه، وصحيح أن الطفل عانى من العطش والجوع والحبس وضيق المكان وظلمته، ولكن أغمي عليه رحمةً من الله، فكان البلاء الأكبر والمعاناة الأساسية لأمه -ثم لأبيه- التي انفطر قلبها وتأججت مشاعرها وهي تترقب، وتتخيل، وتعيش الحدث، وتعاف الطعام، ويجفوها النوم، فالأم تتألم أكثر وبشكل أقوى وأعمق (ولذلك قال الله: يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت). ومن أجل ذلك وعد الأم والأب بالجنة. 

الرابعة: يا ترى كم من الأمهات والآباء بعد سماع "قصة ريان الحزينة المأساوية" سيحتاطون، وكم من أهل قرية سوف ينتبهون لفتحات الآبار والحُفَرْ… ويذرون الإهمال ويتصرفون بمسؤولية؟

وإن الأطباء اهتدوا للأدوية واللقاحات بسبب مرض الصغار قديماً بالشلل والسعال الديكي وغيره من الأمراض الخطيرة، التي تسببت لهم بالموت أو بعاهات، فحين عاينوا عواقبها اتخذوا إجراءات صارمة، وبالتأكيد سيكون موت ريان حياةً لكثيرين غيره من الصغار، فيكون قد أدى خدمة عظيمة للإنسانية، وأصبح أمثولة تُذكّر المجتمع بأن الأطفال أمانة بأيدينا.

الخامسة: ريان استخرج المشاعر الجميلة المخفية، وجمع العالم على قضية مفصلية عنوانها "الرحمة والإنسانية"، فجعلهم على قلب واحد عدة أيام، كانت رائعة ومبشرة. ونعترف بأن هناك مَن تاجر بمأساة ريان وجعلها مجرد سبق صحفي، وهناك آخرون غطّوا بها على حوادث مفجعة من قتل وخطف، لكن الواقعة  كانت مؤثرة ومحركة لقلوب كثيرة كانت نائمة، والخير موجود بالأمة، ونأمل أن يبرز أكثر ويستمر دوماً.

السادسة: وإلى الذين يتساءلون: "ابتهلنا ودعونا الله دعاء المضطر اليائس، فكيف مات؟!".

والجواب: إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة.

ولكن هناك سنن وضعها الله، ونحن لا نتهم أحداً، ولكن ما رأيناه من عمليات الإنقاذ، ورغم الجهود التي بُذلت، وجبال الرمال التي أزيحت، ورغم استدعاء فريق هائل من العمال، واستجلاب المعدات للمنطقة النائية… رغم كل هذا، هل تظنون أن الطريقة والوقت التي تم بها التعامل مع الحدث كانت ستنقذ الطفل؟ أليست هناك قوانين أرضية، وحالات حرجة لا تحتمل التأخير والانتظار؟، فالطفل في حفرة عميقة وضيقة وخالية من الأوكسجين، وقد يكون بها هوام، وهو من دون طعام وشراب، وفي حشرة وضيق، والطفل يرنو للحركة والركض، ولا بد أنه يفتقد الأمان وحضن أمه، فهو في وضع نفسي سيئ، وبالتالي "الزمن" كان أهم العوامل وأكثرها جدوى لإنقاذه، ولكن التباطؤ بالتخطيط وربما بطبيعة الآلات المستعملة كله كان قاصراً عن مواكبة الكارثة الإنسانية.

السابعة: وبعد قراءة ما تقدم ستسألون: إذا كان ريان قد عانى خمسة أيام ومرت وذهب للجنة، فماذا عن بقية الأطفال الذين بقوا على قيد الحياة وأصيبوا بعاهات وأمراض مزمنة وأوجاع لا تطاق ولا تُحتمل، ما ذنبهم؟

والجواب: الصغير حين يُبتلى لا يكون كالكبير، ذلك لأنه لا يعلم عواقب الأمور، ولا يتفهم الكارثة، هو فقط يتألم حالياً، وما أسهل ما يتأقلم ويسهو ويلهو ويلعب وينام طويلاً، واليوم ومع كثرة أماكن التأهيل تمكن هؤلاء الأطفال وأخرجوا مواهبهم، ولعمري كم أصبح لهم من مزايا واهتمام حتى في مجتمعاتنا العربية. 

فتُخصص لهم المواقف والحمامات، ويُعفون من بعض الالتزامات، وتنمى قدراتهم.

كما أن الطفل سرعان ما يكبر، وإصابته المبكرة يتعلم منها ويتأقلم، فالصغار أقدر على التطويع والتطوير، وعندهم مرونة جسدية ونفسية في حال وجدوا رعاية أسرية، فإن لم توجد، استطاع  بعضهم بمثابرتهم وعزمهم إثبات قدراتهم، فالآلام زادتهم صلابة وقوة، وما يبدو للمرء في صغره بلاء، هو في كبره ثراء، والذين ينجحون وهم مهيؤون للعجز والفشل يكون نجاحهم أكبر أثراً وأجدى، وإن الاحتياجات الخاصة، والأمراض المزمنة والظلم والقهر قد تكون حافزاً للإنجاز والتفوق، وأختم الأمثلة بنبي، وصحابة:

*  فموسى عليه الصلاة والسلام كانت به عثرة بالحديث، وبالاستعانة بأخيه هارون صار داعياً ومبشراً ونذيراً.

* عبدالله بن مسعود كان قصيراً جداً، ونحيلاً حتى ضحك القوم من دقة ساقيه، فصار الأول علماً في تفسير القرآن وفي علومه.

* عطاء بن رباح كان أشل أعرج، وأصبح  عالماً وفقيهاً وإمام أهل مكة.

*  وبرع الترمذي بعلم الحديث، وهو أعمى.

*  مـــوسى بن نصير من  كبار الفاتحين المسلمين وكان أعرج

* محمد بن سيرين محدث وفقيه غزير العلم، عالم بالحساب، والفرائض، والقضاء، وذو دعابة، ويفسر الأحلام، وكان مصاباً بالصمم. ونسأل الله السلامة، وأن يكون في كل حدث عبرة وتثبيت وفائدة.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عابدة المؤيد العظم
أستاذة الفقه والشريعة الإسلامية
عابدة المؤيد العظم، مفكرة إسلامية وباحثة في الفقه وقضايا الأسرة
تحميل المزيد