خفض الدعم عن الطبقات الفقيرة وتغيير جذري منتظر.. قراءة في تغيرات الاقتصاد التونسي

تم النشر: 2022/02/08 الساعة 12:40 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/02/08 الساعة 12:41 بتوقيت غرينتش
الرئيس التونسي قيس سعيّد ورئيسة حكومته نجلاء بودن / صفحة الرئاسة على فيسبوك

منذ سنوات ومع انطلاقة الثورة التونسية، وُضع على جدول أعمال جل الفاعلين الاجتماعيين نقاش متواصل حول الخطوط العريضة لضبط الحد الأدنى من قاعدة المساواة والكرامة والإنصاف في السياسات العمومية.

هو اليوم أكثر من أي وقت مضى، يراوح مكانه وسط صدى الهتافات الصاخبة التي عبر عنها الشعب التونسي على نطاق أوسع في جميع الاحتجاجات والحراك الشعبي دفاعاً على تحقيق العدالة الاجتماعية، في مقابل صمت مريب ورغبة جامحة من ماسكي السلطة لإحداث تغيير راديكالي للإنفاق وللسياسات الاجتماعية بحجة أن التحولات الحادة في السياسة والاقتصاد أدت إلى إجهاد البرامج الاجتماعية الحالية وتفاقم ضغوطها المالية في ظل العجز المتواصل.

لقد أدى الأمل المتجدد في دولة رفاه اجتماعية بُعيد يناير/كانون الثاني 2011 إلى المطالبة دوماً بإصلاحات شاملة وفعالة للسياسة العمومية رغم التوجس من النتائج اليمينية للصندوق خصوصاً أنه من المستحيل فصل السياسات الاجتماعية عن هوية المؤسسات السياسية، ومن المناسب أن نُسائل ونتساءل كيف تعاملت هذه المؤسسات مع قضايا عدم المساواة الاجتماعية منذ تركيز أول حكومة منتخبة وحتى بُعيد انقلاب 25 يوليو/تموز؟

لن نبحث كثيراً فستظهر أمامنا جليًّا تفاقم الفوارق الجهوية خصوصاً وقد أخفقت جل السياسات التي طُبِّقت من قِبَل الحكومات المتتالية في تحقيق العدالة الاجتماعية وكشفت عن وجود هوة سحيقة بين العمل الحكومي وقضايا الفئات الهشة والمحدودة الدخل والجهات الداخلية والأحياء الشعبية رغم الترويج الدائم بأن المسألة الاجتماعية هي جوهر الانتقال الديمقراطي.

أما نظام الخامس والعشرين من يوليو/تموز فمرسوم المالية لسنة 2022 يبيِّن وبالملموس التضارب الفاضح والانفصال الحاد بين القول السياسي لسعيّد وفعله الاقتصادي والاجتماعي، فلا رمزياته ولا سردياته حُولت إلى قرارات عملية تقطع مع التوجهات النيوليبرالية بل كما عوَّدنا دائماً بقيت ثرثرة فراغ.

1- ملف مستعجل: منظومة الدعم في تونس

يجزم الكثير من المتابعين بأن أول الملفات المطروحة للحسم النهائي ضمن خطط الإصلاح الهيكلي المفروض من صندوق النقد الدولي سيكون منظومة الدعم، خصوصاً أن الوصفة جاهزة وتسوّق في الإعلام والمؤسسات ذات الصلة، ففي الوقت الذي يشكو فيه جل التونسيين من اهتراء قدرتهم الشرائية وغلاء المعيشة يدفع عرابو السلطة نحو مراجعة الإنفاق الاجتماعي وتدور الكثير من السرديات حول التعويض والدعم دون معرفة دقيقة بتفاصيله أو حتى تبيان هيكلته ونشأتها وأهدافه.

تونس
قيس سعيّد يترأس اجتماع للحكومة التونسية، أرشيفية/ (صفحة الرئاسة التونسية على الفيسبوك)

تأسس الصندوق العام للتعويض، الذي يتعرض رأساً لعملية شيطنة من سياسيين في الداخل ومن هيئات مالية دولية، في أربعينيات القرن الماضي بموجب مرسوم صادر عن الباي في 28 يونيو/حزيران 1945، وتمت هيكلته كصندوق خاص للخزينة بداية من سنة 1967 ومن ثم إدماجه في ميزانية الدولة سنة 1971، بهدف إرساء مخطط لدعم القدرة الشرائية للمواطنين لا سيما ما يتعلق بالمواد الأساسية والتخفيف من وطأة تقلبات الأسعار العالمية وتشجيع الإنتاج الوطني خاصة من الحبوب والحليب.

وفي أوائل التسعينيات اقتصر دعم المواد الغذائية على المنتجات الأساسية التي تستهلكها الفئات ذات الدخل المنخفض، وهي التي يغطيها برنامج الدعم الحالي المحيّن في ديسمبر/كانون الأول 2010 من الحبوب (القمح الصلب والقمح الكامل والشعير والذرة ومنتجاتها من العجين الغذائي والكسكسي والخبز والسميد) والحليب نصف دسم والسكر والطماطم المعلبة وزيت الطبخ النباتي (زيت الحاكم)، يضاف إليها منتج آخر هو الورق المعد لطباعة الكراس والكتاب المدرسي.

ويتولى الصندوق مسؤولية التصرف وإدارة الدعم عبر متابعة بيع السلع المحلية أو المستوردة بأسعار محددة بأقل من تكاليف الإنتاج أو الاستيراد؛ لذلك فإن دعم هذه المواد الغذائية يشكل تخفيضات في الأسعار يستفيد منها المستهلكون بشكل مباشر ويحوِّل الفرق بين التكلفة الفعلية للإنتاج أو الاستيراد إلى المصنعين والمستوردين.

ولكن منظومة الدعم لا تقتصر على هذا الصندوق، فهي تتوزع إلى ثلاثة أنظمة مختلفة ومستقلة بعضها عن بعض: الصندوق العام للتعويض سابق الذكر، دعم الطاقة، ودعم قطاع النقل العمومي.

وتقدَّر نفقاتها في ميزانية السنة الجارية (2022) بـ3771 مليون دينار مُخصصة لدعم المواد الأساسية وبمبلغ قيمته 600 مليون دينار لدعم النقل العمومي بعنوان دعم النقل المدرس والجامعي والنقل بتعريفات منخفضة، وكذلك النقل المجاني لبعض الفئات الخصوصيَّة والأسلاك النشيطة.

فيما خصصت 7262 مليون دينار لدعم المحروقات التي يبدو أن معظمها مواصلة لتقديم الإعانة للشركات العمومية الثلاث التي تركز أنشطتها على قطاع الطاقة STEG وETAP وSTIR.

2- على أبواب تغيير جذري

تتحجج جل التقارير الصادرة عن الهيئات المالية الدولية بأن الأسر ذات الدخل الأعلى في تونس تستفيد على وجه الخصوص، من دعم المواد الغذائية بما يقرب من أربعة أضعاف ما تستفيده الأسر ذات الدخل المنخفض، وبالمثل، تستفيد الأسر ذات الدخل الأعلى من دعم منتجات الطاقة بما يقرب من 40 مرة أكثر من الأسر ذات الدخل المنخفض.

وتقدَّر بأن وصفتها لتعويض نظام الدعم الحالي في تونس سيخفض التكاليف المالية، ويحمي الفقراء بشكل أفضل عبر الإلغاء التدريجي لدعم الأسعار المعمم، وإنشاء شبكات أمان اجتماعي، وتركيز نظام التحويلات المباشرة لصالح الأسر أو الأفراد الفقراء، الذي من شأنه أن يوفر حماية أفضل للمحتاجين.

بالإضافة إلى ذلك، سيقلل من نفقات ميزانية الدولة ويحرر مواردها، وهو الهدف الأصلي من الموضوع.

طرح ينفيه الباحث في الاقتصاد السياسي محمد ضياء الهمامي الذي استند في مقال في الغرض لدراسة حول توزيع الدعم في الصندوق العام للتعويض صادرة عن المعهد الوطني للإحصاء (INS)، ومركز البحوث والدراسات الاجتماعية (CRES)، والبنك الإفريقي للتنمية (BAD)، تضمَّنت المعدَّلات السنويَّة للدعم للفرد الواحد حسب الفئة الاجتماعيَّة للسكان بالدينار، وأسقط السردية الملفقة من انتفاع الأسر الميسورة أربع مرات ضعف انتفاع الأسر الأقل دخلاً بمنظومة الدعم فالفرق لا يتجاوز 21.9 دينار سنوياً، وهذا يعادل ربع الدعم التي تستفيد منه الأسر الميسورة خلال سنة كاملة وهي التي تدفع بما أدناه 200 دينار سنويًّا إلى الصندوق العام للتعويض ضريبة 1% على الدخل والتي تشمل من تتجاوز مجموع مرتَّباتهم السنويَّة 20 ألف دينار وبذلك تغطِّي الضريبة انتفاعهم بالدعم فهل ما يزال بوسعنا القول إن هذه الأسر تنتفع بالدعم أو إن الطبقة المتوسطة كذلك معنية بالإسقاط من هذا الامتياز.

الظاهر أن سياسة الدعم وآلياته تتجه نحو تغيير جذري عبر فرض النظام المستقبلي لتحويل مبالغ ثابتة بصفة سنوية مباشرة بعد تركيز برنامج المعرف الوحيد استعجالاً، وستقتصر المنح حصراً على العائلات المعوزة وبدرجة أقل ماليًّا المحدودة الدخل، فيما ستتضرر باقي الفئات من هذا التغيير لحاجة الحكومة لخفض الإنفاق الاجتماعي.

3- حجم الهشاشة الاجتماعية

تونس التي تعاني الهشاشة الاجتماعية الحادة مع تداعيات أزمة كوفيد وتبعاته لتقلص النمو الاقتصادي وانهيار المنظومة الصحية، تبدو السلطة القائمة فيها منذ سنوات غير معنيَّة بالارتدادات العنيفة للوضع الاقتصادي الراهن على الطبقة الوسطى وعلى الفئات الاجتماعيَّة الأكثر هشاشة، فالمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية أكد في دراسة أعدها منذ فترة أن نسبة الطبقة الوسطى تراجعت في تونس من 70% عام 2010 إلى 55% عام 2015، لتصل عام 2018 إلى حدود 50% والرقم في ازدياد بخاصة بعد جائحة كورونا.

محتجون في تونس – الأناضول

وتطلعنا دراسة نشرها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بعنوان "سوسيولوجيا الهامش في زمن الكورونا: الخوف – الهشاشة – الانتظارات" أن حجم الهشاشة الاجتماعية في تونس في تزايد مطرد؛ حيث تشير الأرقام الرسمية إلى أن الطبقة ضعيفة الدخل والمحدودة والعائلات المعوزة تتجاوز المليون عائلة حسب الأرقام الرسمية بتحيين ديسمبر/كانون الأول 2021، حيث تشير تقارير وزارة الشؤون الاجتماعية إلى أن عدد العائلات المعوزة والمنتفعة بالعلاج المجاني والمنحة (200د) يُقدر بـ310 آلاف عائلة تنضاف لها العائلات ضعيفة الدخل المنتفعة فقط بعلاج التعريفة المنخفضة 630 ألف عائلة، إضافة إلى المنتفعين بجراية تقاعد لا تتجاوز 180د نحو 140 ألف عائلة في معدل لهذه العائلات يفوق ثلاثة أفراد فما فوق، لنتحدث بالتالي عن حصيلة تتراوح بين 3 ملايين ونيف إلى 4 ملايين فرد يعانون من الهشاشة الاجتماعية ومقبلين على سنوات ضنك يمثِّل فيه التضخم المطرد وغلاء الأسعار العنوان الأبرز للمرحلة والكابوس اليوميّ للمواطن.

هذه الأرقام لا تختلف كثيراً عن نسبة مؤشر الفقر متعدد الأبعاد التي توصَّلت إليها دراسة رسمية ظلت مخفية في أروقة المعهد الوطني للإحصاء وعرضت في ندوة دولية حول موضوع الفقر متعدد الأبعاد في مدينة "أكابولكو" بالمكسيك يومي 8 و9 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، وشارك فيها لطفي فرادي، رئيس هيئة التوازنات الكبرى والإحصاء بوزارة التنمية، ومحمد الهادي السعيدي مدير المعهد الوطني للإحصاء قُدرت نسبة فقر وطنية بـ28.97%، يأخذ فيها هذا المؤشر بعين الاعتبار أربعة أبعاد تتمثل في الصحة والتعليم والشغل وظروف العيش.

ومع وجود أكثر من مليوني شخص يعملون خارج المسالك القانونية كمهن حرة ولا يتمتعون بالتغطية الاجتماعية، تتوسع قاعدة الهشاشة الاجتماعية لتنضاف لها أرقام العاطلين عن العمل التي تقارب 700 ألف أو العاملين في الحضائر الجهوية ممن يتقاضون منحة زهيدة تقارب 350 د شهرياً.

ولا يمثل هذا الرقم استثناء؛ فالأرقام المتوفرة حول متوسط الأجور في الدول العربية (مؤشر numbeo للأرقام) تشير إلى أن متوسط الأجر في تونس سنة 2018 يقدر بنحو 286 دولاراً وتأتي أسفل الترتيب إلى جانب كل من سوريا التي تعيش حرباً، ومصر التي يفوق عدد السكان بها 100 مليون ساكن، بل حتى أجور الوظيفة العمومية في تونس تعد من أضعف الأجور وأزهدها في المنطقة وفي البحر الأبيض المتوسط.

الأرقام الصادمة متتالية فوفقاً لنتائج المشروع النموذجي "ميزانية الكرامة في تونس -الذي أُعدّ بالاشتراك بين "إنترناشيونال آلارت" ومعهد الدراسات الاقتصادية والاجتماعية بفرنسا ومؤسسة "فريدريش إيبرت" – مكتب تونس، كُشف عن أن ما بين 40 و50% من سكان تونس الكبرى يفتقرون إلى الموارد اللازمة لضمان ظروف معيشية كريمة وغير قادرين على الولوج إلى الاحتياجات الضرورية، فكيف الحال مع الهوامش والدواخل، كما أظهرت نتائج المشروع الصادر أواخر سنة 2021، أن كُلفة السلةِ الدنيا لضمان عيش كريم لعائلة تتكون من أربعة أفراد قُدر بدخل شهري بـ2466 ديناراً بناء على الأسعارِ المتداولة ربيع 2019، وذلك لضمان الحصول على الاحتياجات الضرورية، وهي التغذية والسكن والتعليم والصحة والخدمات وغيرها.

إذن، بقدر ما تنمو ظواهر الفقر والتهميش من سياسات اقتصادية غير إنتاجية يقوم منها الاقتصاد الطفيلي والريعي مقام الأصل، فهي تتغذى في الوقت عينه من سياسات غير عادلة في توزيع الثروة، فلا عجب أن مجتمعاً يُلقي التهميش الاجتماعي فيه بكلكله على فئات واسعة من الشعب، وينخر الفقر والحرمان أكثر من نصف سكانه هو مجتمع مقصي، موضوعياً، من دائرة الشأن العام، وبعيد عن ميدان المشاركة والانتماء والمواطنة الإيجابية.

في المقال القادم، نكمل معكم العيوب التي لا يمكن إنكارها في المنظومة الاقتصادية، ومن ثم سنطرح سبلاً وبدائل أكثر إنصافاً.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عصام الدين الراجحي
قيادي بحزب التيار الديمقراطي
قيادي بحزب التيار الديمقراطي
تحميل المزيد