هزني من الأعماق مشهد تجمهر الأهالي أمام مدرسة للفتك بمعلمة قامت بواجبها عندما حاولت منع الغش الجماعي لطلاب المدرسة في قرية بإحدى محافظات الريف المصري، ولم ينقذ هذه المعلمة إلا قوات الشرطة التي أخرجتها بشق الأنفس، بين سيل من ركلات الأهالي وسبابهم الفاحش.
نعم، تجمهر عدد من أولياء أمور طلاب مدرسة محمد الشقيري "الابتدائية" بالسنبلاوين في محافظة الدقهلية أمام المبنى مهددين بضرب المعلمة وداد حمدي، لرفضها محاولات تدخلهم والسماح بالغش الجماعي لأبنائهم الذين كانوا يؤدون امتحانات نصف العام الدراسي.
ما هؤلاء الناس، ما هي طريقة تفكيرهم؟ وإلى أي مدى انقلبت المعايير عندهم حتى يصبح الجميع هكذا على قلب ظالم واحد، ما نوعية الأحاديث التي كانوا يتداولونها فيما بينهم وهم يقومون بحصار المدرسة انتظاراً لخروج المعلمة حتى يفتكوا بها، هل مثلاً قالوا جملاً من قبيل: يجب أن ننتقم من هذه المعلمة الظالمة التي منعت أولادنا من الغش!
أشفقت جداً على هذه السيدة المحترمة من اللحظات المرعبة التي عاشتها داخل المدرسة في انتظار المجهول، وهي تسمع سباب أولياء أمور الطلاب الذين رفضت أن يمارس أولادهم حقهم (الشرعي) في الغش الجماعي، وتهديداتهم المتوعدة.
وهذا يقودنا إلى مسألة أخرى أشد خطورة من كل ما سبق، فبالقليل من التفكير سنجد أن الآباء والأمهات الغاضبين عندما حاصروا المدرسة حاولوا الفتك فقط بهذه المدرسة، وهذا يعني أنها كانت هي فقط الصوت النشاز داخل سيمفونية الغش التي كانت ستعزف داخل المدرسة بنجاح لولاها هي، معنى هذا أن الجميع كان مشاركاً في المهزلة إلا هذه السيدة المحترمة الشجاعة، وكلنا يستطيع تخيل حجم الضغوط التي تعرضت لها هذه السيدة من زملائها قبل الأهالي الذين حاصروا المدرسة، فالعمل داخل الإدارات التي فسد أغلب أعضائها مغامرة محفوفة بالمخاطر، لأن الجميع ينظر إلى الموظف الشريف كعنصر غير مرغوب فيه من عدة نواحٍ، فهو مصدر تهديد مستمر لهم، لأنه من الممكن أن يبلغ عن فسادهم في أي وقت، كما أن الجميع يعامله بحساسية شديدة ويشعرون أنه يعاملهم بفوقية من لم يهبط مثلهم إلى دركات الفساد، ولن أندهش أبداً أن يكون خبر رفض المعلمة الاشتراك في مهزلة الغش الجماعي قد تسرب من أحد زملائها.
منذ زمن والغش حاضر داخل لجان الامتحانات، لكنه كان يمارس في الخفاء شأنه في ذلك شأن أي ذنب، يحاول صاحبه ألا يظهر نفسه وهو يرتكبه، وكان الناس إذا ما أرادوا أن يلمزوا شخصاً ما فإنهم يصمونه بوصمة الغش، وأنه لم يحصل تلك الدرجات العالية إلا لأنه ابن للمسؤول فلان الذي يسر له الغش في الامتحان، وكنت ترى الشخص ينفي عن نفسه تلك التهمة بكل ما أوتي من قوة، أما أن يصبح الغش هو القاعدة الأساسية وأن يهاجم المجتمع الشخص الذي يعارض هذه الجريمة، فإني لا أجد وصفاً لذلك إلا ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم عن السنين الخداعات التي يصدق فيها الكاذب ويخون فيها الأمين وتنقلب فيها معايير الحق والباطل.
أخيراً، ما هي نوعية الأشخاص التي ستخرج إلى مجتمعنا نتاجاً لهذه الطريقة في التربية، وهذا النوع من المعايير، كيف سيستطيع هؤلاء الشباب التمييز بين الحق والباطل بين القبح والجمال في ظل هذا الوضع شديد الاضطراب؟
هذا الموقف مرعب بحق، وهذه السيدة تستحق كل التقدير على شجاعتها، لكن يجب علينا أن نقف ولا نتهاون في توضيح معايير الحق والباطل لأبنائنا، يجب أن نعلمهم الصلابة على المواقف التي يعتقدون أنها الحق، ونعلمهم أن الشجاعة كل الشجاعة هي أن لا يكونوا إمعات ولا تنجرف أخلاقهم مع تيار أخلاق المجتمع وإن كانوا قلة، وأن نعلمهم أن يتشبثوا بأشجار الحق التي زرعت في نفوسهم مهما اشتدت قوة تيار الباطل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.