بعد تبوئه لمنصب رئيس الادعاء "كريم خان" يُعيد ترتيب أولويات التحقيق في أفغانستان. استبعد رئيس مكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية السيّد كريم خان، عند مواصلة السير في التحقيق في اشتباه وقوع جرائم حرب في أفغانستان، التحقيقات في حق كل من أفراد القوات الأمريكية المنضوين تحت راية الناتو وعناصر وكالة الاستخبارات المركزيّة، إضافة إلى أفراد من قوات الأمن الوطني والشرطة الوطنية الأفغانية.
وقد أبقى طلب التحقيقات على الادعاءات في حق أفراد حركة طالبان وعناصر تنظيم الدولة لمقاطعة "خراسان"، معتبراً الجهات التي تمّ استبعادها ثانويّة من حيث الأهمية.
سقط خبر الاستبعاد الذي وُصِف "بالازدواجيّة والإنتقائيّة"، كالصاعقة على أسر المتضررين وممثلي دفاعهم، إضافة إلى المتابعين للقضية من الحقوقيين ومنظمات حقوق الإنسان حول العالم. حيث أعادت الواقعة للأذهان الهجوم الذي واجهته المحكمة منذ سنوات عقب تأسيسها، بسبب انحصار جل متابعاتها آنذاك ضدّ قادة ومسؤولي الدول الإفريقية، موصومة من قبل البعض بالتسييس والانحياز لصالح أجندات جيوسياسية غربية.
وجدير بالذكر أنّ مئات الضحايا من المدنيين قد سقطوا جراء قصف قوات الناتو خلال سنوات الحرب في أفغانستان.
واستكمالاً لمقالنا السابق سنسلط الضوء في هذا المقال على سياسات الضغط التي تنتهجها الولايات المتحدة الأمريكية منذ عقود للنأي بنفسها عن الوقوع في اختصاص الجنائيّة الدوليّة، ولكن قبل ذلك سننظر في مبررات موقف رئيس مكتب الادعاء في طلبه المقدم لدى الغرفة التمهيديّة في 17 سبتمبر/أيلول 2021، ومدى تأثيره على مساعي المحكمة في إرساء أسس العدالة الدولية ومنع الإفلات من المساءلة الجنائية.
ترتيب للأولويات أم انصياع للضغوط؟
لا شك أن الضغوط التي تعرض لها مكتب ادعاء الجنائية الدوليّة عقب السماح له بمباشرة التحقيق في اشتباه جرائم حرب في أفغانستان في حق أفراد الجيش والاستخبارات الأمريكيين، جعلت مصير القضية ككل على المحك. علماً بأن نجاعة عمل المحكمة يعتمد أساساً على التعاون اللامشروط من الدول، لا سيما الكبرى منها.
وعلى أساس ذلك فقد عدّ ملاحظون أن استبعاد الجهات الأمريكية من التحقيق في الظرف الحالي خطوة "براغماتية" ستُيسّر خطوات رئيس الادعاء في التحقيق مستقبلاً، وتجعل من اختصاصه أكثر فاعليّة، خصوصا أنّه قد لفت انتباه الولايات المتحدة إلى ضرورة اضطلاعها بالتحقيق في القضية محلياً في إشارة لمبدأ أولوية الاختصاص الوطني.
أما المثير للجدل فهو المبررات التي قدمها السيّد كريم خان في طلبهِ إعادة السير في التحقيق لدى الغرفة التمهيدية للمحكمة، حيث نوّه بمحدودية موارد المحكمة وقال بأنّها لا تسمح بإيلاء الاعتبار لمختلف أوجه التحقيق التي ينطوي عليها اختصاص المحكمة، وذكر التحقيقات التي تشتمل على مناطق مختلفة عبر العالم؛ في إشارة ضمنية إلى برنامج وكالة الاستخبارات الأمريكية للاحتجاز والاستجواب الذي نُفّذ عقب أحداث الـ 11 من سبتمبر/أيلول 2001 في عدّة دول على غرار بولندا، رومانيا وليتوانيا.
وأثارت قضية محدودية الموارد المالية للمحكمة تساؤلاً كبيراً عن كيفية إيلاء المحكمة الأسبقية لقضايا دون الأخرى، لا سيما أنّها قد تعرّضت في السنوات الأخيرة لضغوط كبيرة عقب افتتاحها لتحقيقات في اشتباه وقوع جرائم في جورجيا وأوكرانيا عقب التدخل الروسي وفي فلسطين من قبل الاحتلال الإسرائيلي، إضافة إلى التحريات في حق أفراد الجيش البريطاني في العراق التي أغلقت فيما بعد.
دفع هذا المنطق الادعاء إلى "تصنيف" الجهات المشتبه فيها على حسب الأسبقية، حيث استند فيها على خطورة ونطاق الطابع المستمر للجرائم الدوليّة لحصر التحقيقات على الجرائم المشتبه ارتكابها من قبل أفراد طالبان وعناصر تنظيم الدولة لمقاطعة "خراسان"، واستبعد "الجهات الأخرى" في إشارة ضمنية لأفراد القوات الأمريكية وحلفائها والقوات الأفغانيّة.
وكونه أخذ بمسألة "الخطورة" و"النطاق" ، فذلك لا يتيح له حصر التحقيق على الجرائم المتهم بها عناصر طالبان وتنظيم الدولة فحسب، فالتجاوزات التي ترتبت عن برنامج وكالة الاستخبارات المكيّفة بأنها جرائم تعذيب، ترقى إلى كونها من نفس "الخطورة" و"الحجم"، لا سيما أنها تعدّ ممارسات مدعومة سياسياً. أضف إلى ذلك فإنّ تجاوزات وكالة الاستخبارات موثّقة ومدعّمة بتقارير عدّة، سواء كانت صادرة عن جهات حكومية أو غير حكومية كتقرير لجنة مجلس الشيوخ للاستخبارات سنة 2014، وتقارير المنظمات غير الحكومية التي حققت في الممارسات قبلاً ونددت بها طيلة سنوات. كل ذلك يمكن أن يوفر للادعاء الكثير من الجهد والوقت للوصول إلى نتائج ملموسة.
ويبقى الأمر الجلل الذي أقلق حكومة الولايات المتحدة هو إمكانيّة وقوع أفراد جيشها أو موظفيها في نطاق اختصاص المحكمة، وهو الأمر الذي جعلها تسحب توقيعها على الاتفاقية في عهد الرئيس بوش الابن.
إن موقف مماثل أوقع الادعاء في ورطة حقيقية لا سيما أنه ربط هذا التصنيف بقلّة الموارد المالية المتاحة للمحكمة. وذلك يعتبر حجة ضعيفة تفسح المجال للقول بأن الادعاء قد رضخ للضغوط الأمريكية، الأمر الذي يجعل أساس عمل المحكمة على المحك ورهينة لاعتبارات سياسية.
أما بخصوص لفت انتباه القضاء الأمريكي للاضطلاع بالتحقيق في القضية محلياً، فالأمر غير وارد، فمعلوم أن أفراد الجيش الأمريكي يخضعون لتشريع خاص لا يشتمل على الاختصاص الموضوعي للجرائم المحددة في نظام الجنائية الدولية، ناهيك عن غياب الرغبة في تفعيل اختصاصه ابتداءً، أضف إلى ذلك السياسات وترسانة الاتفاقيات الثنائية التي تهدف إلى تحصين أفراد قواته وموظفيه.
اتفاقيات عدم التسليم وتسليط العقوبات
شاركت الولايات المتحدة في المفاوضات الدبلوماسية الحثيثة التي سبقت اتفاقية تأسيس المحكمة الجنائية الدوليّة، والتي شهدت دعماً من الكونغرس في إطار تعزيز العدالة الدولية، بيد أن ذلك لم يتوّج بالمصادقة على الاتفاقية وإنما اكتفت الولايات المتحدة في عهد الرئيس كلينتون بالتوقيع فقط، وذلك بسبب بعض البنود التي عدتها الإدارة الأمريكية آنذاك "عيوباًً"؛ على غرار الصلاحيات الممنوحة لادعاء المحكمة بالتحقيقات واستقلالية المحكمة عن مجلس الأمن الدولي، إضافة إلى إدراج "العدوان" ضمن جرائم نطاق اختصاص المحكمة والذي كان يعدّ قبلاً من الصلاحيات الحصريّة لمجلس الأمن الدولي.
ويبقى الأمر الجلل الذي أقلق حكومة الولايات المتحدة هو إمكانيّة وقوع أفراد جيشها أو موظفيها في نطاق اختصاص المحكمة، وهو الأمر الذي جعلها تسحب توقيعها على الاتفاقية في عهد الرئيس بوش الابن.
تزامن ذلك مع إسراعها إلى إبرام عشرات الاتفاقيات الثنائية مع دول مختلفة حول العالم من بينها أفغانستان حيث يكون بموجب هذه الاتفاقيات المعروفة بـ"الاتفاقيات الثنائية للحصانة" التزام الدول المتعاهدة بعدم التحقيق، المتابعة والتسليم في حق مواطني الولايات المتحدة، سواء كانوا مدنيين أو عسكريين، إلى جانب أي شخص موظف أو متعاقد مع حكومة الولايات المتحدة، وتكون صلاحيّات المتابعة والتحقيق في حقّ هؤلاء إذا ما اشتبه في ارتكابهم لتجاوزات متاحة حصراً للقضاء الأمريكي.
وقد تمكنت الولايات المتحدة من التوصّل إلى حوالي مئة اتفاق للحصانة، من بينها خمسون اتفاقاً أبرمتها مع دول أعضاء في نظام الجنائية الدوليّة.
ومن أجل دفع أكبر عدد من الدول إلى التصديق على "الاتفاقيات الثنائيّة للحصانة" سلكت الحكومة الأمريكية طريق الترغيب والترهيب، حيث وظفت برامجها المالية المختلفة المنضوية على مساعدات، كبرامج الدعم الاقتصادي وتقديم المساعدات العسكرية، للضغط على الدول غير المصادقة، إلى جانب استعمال المواقف الدبلوماسية الداعمة للوقوف إلى جانب الدول المتعاونة.
العقوبات في حق قضاة المحكمة أيضاً كانت من أبرز أدوات الضغط على قرارات الجنائية الدولية كتلك التي أصدرتها الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس ترامب ضدّ قضاة المحكمة المعنيين بالتحقيق في أفغانستان، ومن بين تلك الإجراءات عقوبات اقتصادية ومنع من السفر إلى الولايات المتحدة.
منع الإفلاس أهم من المساءلة الجنائية
يتيح نظام المحكمة الجنائية الدولية للدول الأطراف في نص المادة 98 الحق في الامتثال لتعهداتهم الدولية التي تمنع التسليم أو تمنح الحصانة الدبلوماسية للأشخاص المنتمين إلى دولة متعاهدة، بحيث لا يكون للمحكمة الحق بأن تلزمهم بمتابعة أو تسليم هؤلاء من دون موافقة "الدولة المُرسِلة".
وقد فسحت هذه المادة الباب على مصراعيه للولايات المتحدة من أجل إبرام ترسانة من الاتفاقيّات الثنائيّة للحصانة وذلك ما أثار جدلاً قانونياً حاداً حول مدى صحة اتفاقيات الحصانة الأمريكيّة، لا سيما إذا ما تعارضت مع الغايات الجوهريّة لنظام الجنائيّة الدوليّة، وعلى رأسها منع الإفلات من المساءلة الجنائيّة في الجرائم الدوليّة الأشدّ خطورة، ومن بين أهم النقاط المثارة بهذا الشأن، نذكر:
- تغاضي "اتفاقيات الحصانة" عن إدراج أيّة إجراءات قضائيّة لمتابعة المشتبه في ارتكابهم للجرائم الدوليّة الأشدّ خطورة أمام قضائها بعد إجلائهم مكتفيّة بعبارة "مباشرة المتابعات إذا ما استلزم الأمر". والأكثر من ذلك، فإن أفراد القوات المسلحة الأمريكية يخضعون لقانون عسكري خاص لا يشتمل على الاختصاص الموضوعي لجرائم الحرب المقررة في اتفاقيات جنيف الأربع لسنة 1949.
- تعارض النطاق الشخصي للحصانة المُتاح بحكم "اتفاقيات الحصانة الثنائيّة" مع فئة الأشخاص المقصودين بالحصانة في المادة 98 من نظام المحكمة، فإذا كانت اتفاقيات الحصانة الثنائية قد اشتملت على كل الأشخاص الموظفين والمتعاقدين مع الحكومة الأمريكية، فإن المادة 98 باستعمالها لعبارة "الدولة المرسِلة" بدل "دولة الجنسية مثلاً" قد أشارت بوضوح إلى الحصانة المتاحة لفئة الموظفين، مدنيين كانوا أو عسكريين، المنضوين حصراً ضمن نطاق المهام الرسمية كتلك المحددة مثلاً في اتفاقيتي فيينا للعلاقات القنصليّة والدبلوماسيّة لسنة 1961، دون الموظفين الآخرين المتعاقدين في إطار مهام غير رسميّة.
إن نظام المحكمة الجنائية الدولية يُلزم الدول الأطراف على التعاون مع المحكمة، فسواء تعلق الأمر بملاحقة أو بتسليم الأشخاص أو بتقديم أيّة مساعدات أخرى، فإنّه ليس للدول الأطراف أن تتحجج، في حالة مطالبتها بالتعاون، بالتزامات اتفاقيّة أخرى على غرار "الاتفاقيات الثنائية للحصانة" للتملص من مسؤولياتها. خصوصاً إذا تعلق الأمر بالتحقيق مع أشخاص يشتبه في ارتكابهم جرائم تعدّ الأشدّ خطورة وتندرج أحكامها ضمن القواعد الدوليّة الآمرة (Jus cogens) المُلزمة والمُبطلة لكلِّ تعاهدات أخرى تخالفها مثلما أقرّت المادة 53 من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لسنة 1969.
لذلك فإن طلب ادعاء المحكمة الذي استبعد أفراد القوات الأمريكية وحلفاءها إضافة إلى أفراد الجيش والشرطة الأفغانية غير مبرر قانوناً ويمسُّ في الحقيقة بالغاية الأساسيّة التي أنشئت من أجلها المحكمة ألا وهي تقصي العدالة ومنع الإفلات من المساءلة الجنائية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.