ما إن غادر الرئيس الإسرائيلي إسحاق هيرتزوغ الإمارات، الإثنين الماضي، حتى حطَّت طائرة وزير دفاعه الجنرال بيني غانتس الأربعاء الماضي في البحرين.
بدت لي العلاقة واضحة بين الزيارتين، وعنوانها العريض تطبيعي بامتياز، إضافة إلى الجوهر الأمني تحديداً بعد قصف قوات الحوثي للعاصمة الإماراتية أكثر من مرة، منها واحدة يوم وصول هيرتزوغ نفسه إلى أبوظبي.
ما يعني بالتأكيد أننا أمام مسعى انتهازي إسرائيلي لاستغلال الممارسات الحوثية لتحقيق مكاسب تطبيعية وأمنية مع دول الخليج، وتحديداً من مثلث (الإمارات والسعودية والبحرين) خاصة بعدما مرت طائرتا هيرتزوغ وغانتس عبر أجواء الرياض في طريقهما إلى أبوظبي والمنامة.
إذا كان الطابع الأمني ظاهراً وجلياً في زيارة الجنرال غانتس الطافحة بالعسكرة إلى المنامة، بما في ذلك الحضور اللافت لقائد سلاح البحرية الإسرائيلي الجنرال دافيد ساعر، إلا أن المفارقة تتمثل في تصرف هيرتزوغ المدني -بالمعنى الإسرائيلي طبعاً- كجنرال أيضاً وهو أمر غير مستغرب في دولة قائمة على حد السيف، حسب التعبير الشهير لوزير الدفاع السابق موشيه دايان، دولة لا تمتلك جيشاً وإنما يمتلكها هذا الأخير، وفق العبارة الشائعة والصحيحة، ولذلك أيضاً لم يكن غريباً أن يضع هيرتزوغ نفسه بتصرف المؤسسة العسكرية.
إما نحن أو إيران
كانت زيارة هيرتزوغ إلى أبوظبي معروفة، وتم الإعلان عنها مسبقاً قبل أسبوع تقريباً، بينما جاءت زيارة غانتس مفاجئة ليس فقط لطابعها الأمني، وإنما لأحداث ومستجدات سعت تل أبيب لاستغلالها بأسرع ما يمكن، إضافة طبعاً إلى الرغبة الجلية في الربط بين الزيارتين شكلاً ومضموناً.
في العنوان التطبيعي العريض جاءت الزيارات بعد فترة من البرود أو للدقة الهدوء في مسار العلاقات بين إسرائيل والبحرين والإمارات، بعدما بدا الأمر وكأننا أمام موجة جديدة من التطبيع عالية المستوى، خاصة في السياق الأمني.
رفضت إسرائيل بيع منظومات تكنولوجية متطورة إلى أبوظبي تحديداً المنظومات المضادة للصواريخ بمدياتها المختلفة، خاصة بعد الانفتاح الإماراتي على إيران وتركيا، مما أثار قلقاً في إسرائيل التي أرسلت رسائل إلى العاصمة الإماراتية مفادها أن ليس بإمكانها الجمع في العلاقة بين طهران وتل أبيب في نفس الوقت.
قصة تركيا تبدو مختلفة بالطبع عن إيران؛ كون تل أبيب نفسها تخوض حوارات مع أنقرة لتحسين ورفع مستوى العلاقات بين الجانبين، ولكن لا يمكن استبعاد فكرة أن الرئيس الإسرائيلي هيرتزوغ تعمد زيارة أبوظبي قبل زيارته إلى أنقرة المقررة منتصف شهر آذار/مارس القادم، وحتى قبل زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لأبوظبي بعد أسبوعين تقريباً لإرسال رسالة أخرى مفادها أن العلاقات مع تركيا لن تكون بديلاً أو على حساب العلاقة مع حلفاء إسرائيل بما فيهم الإمارات طبعاً.
الزيارة الإسرائيلية أتت مباشرة بعد القصف الحوثي المتكرر لأبوظبي وإعلان تل أبيب استعدادها للمساعدة. وهنا بدا هيرتزوغ صاحب المنصب الشرفي وكأنه ممثل أو مبعوث بكامل المواصفات السياسية والأمنية.
وفي السياق الإسرائيلي أيضاً حيث الدولة العبرية نموذج فريد بالمعنى السلبي، لا بد من لفت الانتباه إلى قيام هيرتزوغ بمهام دبلوماسية لمساعدة الحكومة الجديدة وملء فراغ ما بعد رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو هو يبدو كوجه مقبول ومعتدل، أو هكذا يراد له أن يظهر رغم احتفاله برأس السنة العبرية الأخير في الحرم الإبراهيمي مع عتاة المستوطنين المتطرفين من مستوطنة "كريات أربع" بالخليل.
كُفوا عن النظر إليهم كعرب فهؤلاء شيء آخر
زيارة الجنرال غانتس إلى المنامة بدت مشابهة تماماً، وتندرج في نفس سياق زيارة هيرتزوغ إلى أبوظبي، والعنوان العريض تطبيعي، مع السعي لإعطاء الانطباع بأن الأمور تسير كما يرام. أما الجوهر فأمني بامتياز، نظراً لطبيعة منصب الجنرال، وهو ما تبدَّى في التوقيع على الاتفاقية الأمنية العلنية، التي تضمنت بنود التنسيق وتبادل الخبرات وحتى إمكانية إجراء مناورات مشتركة بين الجانبين.
لا شك أن غانتس سعى إلى استغلال القصف الحوثي للإمارات لتوطيد العلاقات الأمنية، مع إبداء الاستعداد لبيع منظومات دفاعية للإمارات والبحرين تتضمن تكنولوجية أمنية متطورة ورادارات وأجهزة استشعار ورصد عن بُعد لا تثير قلق إسرائيل من احتمال تسريبها أو فقدان السيطرة عليها، مع رفض قاطع لبيع منظومة القبة الحديدية المضادة للصواريخ قصيرة المدى و"مقلاع داوود" للمتوسطة المدى. وهنا كان لافتاً ما نشرته صحيفة إسرائيل اليوم الجمعة 4 شباط/فبراير عن توسُّل جهاز الموساد أمام المؤسسة العسكرية للموافقة على بيع تلك المنظومات للإمارات والبحرين، والقول لهم "كُفوا عن النظر إليهم كعرب فهؤلاء شيء آخر"، كما جاء حرفياً في الصحيفة العبرية.
كان لافتاً كذلك اصطحاب غانتس لقائد سلاح البحرية الإسرائيلي الجنرال دافيد ساعر معه وزيارتها مقر القاعدة البحرية للأسطول الأمريكي الخامس في البحرين، مع إشارة وسائل إعلام عربية وعبرية إلى خطة إسرائيلية لإقامة قاعدة بحرية هناك، أو على الأقل، الحصول على وجود إسرائيلي في قاعدة أمريكية بحرينية مشتركة بحجة مراقبة التحركات الإيرانية. ومن هنا يمكن أيضاً فهم الموافقة على فكرة نشر منظومات رصد وإنذار مبكر إسرائيلية في الخليج العربي.
زيارة غانتس للمنامة ما كانت لتحدث بالتأكيد كما العملية التطبيعية برمتها لولا ضوء برتقالي بل أخضر من الرياض التي تعتبر المنامة بمثابة فنائها الخلفي.
وفى هذا السياق لا بد من الانتباه إلى أن العلاقة الأمنية الإسرائيلية الخليجية تجري برعاية أمريكية، خاصة مع المشاركة في المناورات البحرية الأخيرة بقيادة أمريكية في بحر العرب. كما تسعى تل أبيب أيضاً إلى استغلال الانخراط الأمريكي الحالي لعدة أسباب، منها حث واشنطن على لعب دور أكبر لرعاية التطبيع والتعاون الأمني مع دول الخليج، وعدم الممانعة في الاستعانة بإسرائيل لملء الفراغ الناجم عن الانكفاء الأمريكي عن المنطقة، خاصة مع وصول مفاوضات فيينا حول الاتفاق النووي مع إيران إلى مراحلها الحاسمة. فإما النجاح ومواصلة الانكفاء الأمريكي عن الشرق الأوسط والتوجه شرقاً نحو الصين وروسيا، ولكن بعد ترتيب تفاهمات وأطر عمل عربية إسرائيلية أو الفشل والتصعيد ضد إيران، والاعتماد على التواجد الإسرائيلي والعلاقات الأمنية المستجدة مع دول الخليج العربي.
الخلاصة
في الأخير وباختصار وتركيز، لا بد من الانتباه إلى أن الجزء المملوء من الكوب في المشهد الحالي يتمثل بالاقتناع بصعوبة التطبيع الإسرائيلي الخليجي في سياقاته الاجتماعية والشعبية والاستعاضة عن ذلك بسياق رسمي أمني أساساً مع التأكيد على أن هذا التطبيع على علاته لن يحل حتماً مشاكل وأزمات الأنظمة الخليجية الداخلية والإقليمية، وبالتأكيد لن ينقذ نظام الفصل العنصري الإسرائيلي من نهايته الحتمية في فلسطين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.