بناه يهوديّ مقدسيّ واستغله الصهاينة في احتلال فلسطين.. عن خط سكة حديد يافا-القدس الذي طمسته إسرائيل

عدد القراءات
543
عربي بوست
تم النشر: 2022/02/05 الساعة 09:33 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/02/05 الساعة 10:04 بتوقيت غرينتش
محطة سكة حديد يافا-القدس التي حولتها إسرائيل إلى مقاهٍ ومطاعم ومتنزهات عامة تتخللها مسارات للركض وركوب الدراجات/ Wikimedia Commons

في الوقت الذي كانت فيه الدولة العثمانية تعيش أسوأ حالاتها بسبب المؤامرات الأوروبية والانهيار الاقتصادي وخلو خزانتها من الأموال، كان التغلغل الاستعماري الأوروبي في الأقاليم العربية التابعة للدولة العثمانية وعلى رأسها فلسطين يتقدم بشكل متسارع ويستفحل شيئاً فشيئاً منذ منتصف القرن التاسع عشر، عن طريق البعثات الأجنبية المتعارف عليها وقتها بـ"الحملة الصليبية السلمية" لإيجاد موطئ قدم في الأقاليم العربية ولاسترداد الأرض المقدسة (فلسطين)، مستفيدة من "نظام الامتيازات" العثماني الذي منح على أساسه عدد من شخصيات وشركات أجنبية عقوداً لبناء وتشييد مشاريع تحديثية في فلسطين.

وفي هذه اللحظات الفارقة من تاريخ فلسطين التقت مصالح الحركة الصهيونية مع الاستعماري الأوروبي للاستيلاء على أرض فلسطين والعمل على تشجيع الحركة الاستعمارية وتمكين الهجرة اليهودية، وتبلور أول مشاريعهم الاستعمارية بفكرة مشروع بناء خط سكة حديد يافا-القدس، عندما تواصل السير الإنجليزي من أصل يهودي موسى مونتفيوري بشكل مباشر مع رئيس الوزراء البريطاني وقتها اللورد "هنري جون تمبل" في عام 1856م، وناقش معه فكرة بناء خط سكة حديد يافا-القدس لخدمة المشاريع الاستعمارية والاستيطانية.

محاولات الإقناع بالفكرة

تم استغلال زيارة الوزير العثماني محمد أمين علي باشا للندن في العام نفسه، لجمع موسى مونتفيوري مع محمد أمين علي باشا؛ لمناقشة الفكرة التي تمخضت عن توقيع على اتفاق مبادئ حول المشروع في 20 مايو/أيار 1856م، إلا أن الدولة العثمانية سرعان ما تراجعت عن المشروع في وقت لاحق.

في الوقت الذي بدا فيه أن مشروع بناء خط سكة حديد بين يافا والقدس سيبقى حبراً على ورق ولن يرى النور إطلاقاً، تلقف رجل الأعمال اليهودي العثماني -المولود في مدينة القدس- يوسف نافون، الفكرة، وبدأ باستكشاف إمكانية بناء خط سكة حديد بين يافا والقدس في عام 1885م، ثم انتقل يوسف نافون إلى إسطنبول وأمضى ثلاث سنوات في إسطنبول؛ للترويج للمشروع وللحصول على إذن من أصحاب القرار في الدولة العثمانية.

وفي 28 أكتوبر/تشرين الأول 1888م، نجح يوسف نافون في الحصول على امتياز من الدولة العثمانية لتنفيذ المشروع، وعلى أثرها سافر يوسف نافون إلى أوروبا في عام 1889 للعثور على ممول أو مشترٍ للمشروع، فتعثر برجل الأعمال الفرنسي برنارد كاميل كولا الذي اشترى المشروع مقابل مليون فرنك، واعتبر المشروع وقتها على أنه تعاون نادر بين اليهود والكاثوليك والبروتستانت، إلا أن اليهود أعربوا من خلال منشوراتهم، عن قلقهم من المشروع، لأنه لا يخدم المصالح اليهودية.

تنفيذ المشروع

وفعلياً بدأ تنفيذ المشروع في 31 مارس/آذار 1890م، برعاية الشركة الفرنسية حينما وضع كل من محافظ القدس إبراهيم حقي باشا ومفتي غزة ويوسف نافون بحفل كبير حجر الأساس للمشروع، ومن هنا بدأ المشروع يرى النور، إذ تم إحضار عمال البناء من مصر والسودان والجزائر بشكل أساسي، بينما تمت الاستعانة بالمهندسين من سويسرا وإيطاليا والنمسا، كذلك شارك الفلسطينيون في المشروع والذين فقد العديد منهم حياتهم في حوادث أثناء عمليات نحت وقص وتفجير الصخور للوصول إلى القدس من يافا.

كذلك، تم إحضار مواد البناء كالحديد من فرنسا عن طريق شركة إيفل التي يملكها غوستاف إيفل، ومئات الأطنان من سكك الحديد من بلجيكا، والفحم من إنجلترا، وكان يتم تفريغ كل مواد البناء في ميناء يافا الذي كان يعتبر وقتها ميناء فلسطين الرئيسي، وإلى جانب ذلك كان يتم الحصول على الماء لعمليات الحفر من آبار على طول الطريق من يافا إلى الرملة.

وقد تم إجراء أول محاولة اختبار لسكة حديد يافا -القدس في أكتوبر/تشرين الأول 1890م، والتي شاهدها وقتها ما يقارب 10 آلاف متفرج من سكان مدينة يافا، وعندما أوشكت عمليات البناء على الانتهاء تم إجراء أول رحلة قطار تحمل ركاباً بين يافا والقدس في 27 أغسطس/آب 1892م، وقد استغرقت رحلة القطار ما يقرب من 3 إلى 3.5 ساعة، في المدة نفسها التي كانت تحتاجها عربة حصان مثلاً للسفر من يافا إلى القدس وعكس، وعند افتتاح سكة حديد يافا-القدس تمت تغطية الحدث إعلامياً في جميع أنحاء العالم، وكُرم يوسف نافون وقتها بمنحه وسام الشرف الفرنسي؛ لمشاركته في إنجاح المشروع، وميدالية عثمانية ولقب باي.

سكة حديد يافا القدس
صورة أرشيفية لخط سكة حديد يافا-القدس

ورغم نجاح المشروع نسبياً فإنه واجه بعض التحديات، على رأسها أن حركة السياحة الأوروبية (التبشيرية أو الاستعمارية) كانت أقل من المتوقع، كما ساهمت القيود العثمانية عام 1894 على الهجرة اليهودية إلى فلسطين بتأثير سلبي على حركة السياحة، وظهرت كذلك بعض مشاكل الصيانة التي تسببت في تأخير عدد من الرحلات وتمديد وقت السفر إلى 6 ساعات، حيث كان يُسمح لقطار واحد فقط بالعمل في اتجاه واحد كل يوم.

ورغم ذلك ساهمت سكة حديد يافا-القدس في تطور الاقتصاد الفلسطيني، بسبب زيادة الطلب على نقل البضائع من وإلى فلسطين، وهذا ساهم بشكل أو بآخر، في نمو وزيادة عدد سكان المدينة إلى 40.000 بحلول عام 1900م.

صورة أرشيفية لمحطة سكة حديد يافا بالمنشية/ أرشيفية

كذلك، عندما زار تيودور هرتزل فلسطين في أكتوبر/تشرين الأول 1898، لم يكن يرى أن الخط سوف يفيد المشروع الصهيوني بفلسطين في ظل القيود العثمانية، وقد حاول أحد الزعماء الصهيونية ويدعى زلمان ديفيد ليفونتين، شراء خط سكة حديد يافا-القدس في مارس/آذار 1901، إلا أن مساعيه لم تنجح.

بين الإنجليز واليهود والثوار

ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914م، سيطرت القوات العثمانية على خط سكة حديد يافا-القدس؛ لاستخدامه للأغراض العسكرية كنقل الجنود والآلات والمعدات الثقيلة إلى القدس، وفي خضم انتصارات الإنجليز وتقدمهم بفلسطين في نوفمبر/تشرين الثاني 1917م، قامت القوات العثمانية المنسحبة بتخريب خط سكة حديد يافا -القدس، إذ تم تفجير معظم جسور خط سكة حديد الرابطة بين يافا والقدس، إلا أن الإنجليز أعادوا بناءه على عجل أثناء الحرب، واستخدموا قضباناً ولوازم خشبية بدلاً من الجسور الحديدية المدمرة.

ووصل أول قطار إنجليزي إلى القدس في 27 ديسمبر/كانون الأول 1917، وبعد نهاية الحرب بوقت قصير استخدم خط سكة حديد يافا-القدس لنقل عدد لا حصر له من العائلات اليهودية للقدس.

بعدها بسنوات، تعرض خط سكة حديد يافا-القدس لعمليات تخريب من قبل الثوار الفلسطينيين بالألغام والمتفجرات مع بداية ثورة فلسطين الكبرى، إذ شكل الخط وقتها وسيلة لنقل الجنود والمعدات العسكرية الإنجليزية، فقام الإنجليز بتحصين الجسور وزيادة الدوريات العسكرية المنتظمة على طول خط سكة حديد يافا-القدس؛ لصد هجمات الثوار.

وخلال الحرب العربية الإسرائيلية، حرب النكبة عام 1948م، أصبح خط الحديد يافا-القدس خارج الخدمة، وبعد اتفاقيات الهدنة عام 1949م استولى الصهاينة على الخط بشكل كامل، وفي 7 أغسطس/آب 1949، وصل أول قطار إسرائيلي محمل بالدقيق والأسمنت ولفائف التوراة تم إرساله بشكل رمزي إلى القدس، ثم بدأت السكة الحديدية الإسرائيلية بنقل الركاب من محطة تل أبيب الشمالية إلى القدس في 2 مارس/آذار 1950، وإلى جانب ذلك تعرض خط سكة حديد يافا-القدس للعديد من الهجمات الفدائية في فترة الستينيات قبل حرب عام 1967.

وفي ظل دولة الاحتلال الإسرائيلي استمر الخط يعمل بشكل دوري في نقل الركاب والبضائع حتى أوقفته السلطات الاحتلال الإسرائيلية عن العمل في عام 1998؛ لإجراء بعض الإصلاحات والصيانة فيه، ثم عاد خطّ القدس-يافا إلى العمل عام 2005، ولكن دون أن يشمل المسار الأصلي، أما مسار السكة المعطّل فقامت البلدية بتجهيزه ليصبح مساراً للمشي والركض وهواة ركوب الدراجات من المستوطنين.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

هيثم الجرو
كاتب فلسطيني حاصل على ماجستير في التاريخ
كاتب فلسطيني حاصل على ماجستير في التاريخ
تحميل المزيد