ربما اعتدنا على الحلول المؤقتة، هذا ما أفهمه حين أرى مشاريع المأوى في الداخل السوري، لقد صرنا نبحث عن أقل الضرر، وتصالحنا مع الفكرة القائلة إننا نملك خياراتٍ قليلة، ومحدودة، فصرنا دائماً نعمل بأفق ضيّق، ونعيش تحت وطأة شعورٍ قاسٍ بانعدام الأمان والاستقرار.
صحيح أنّ لكل مرحلة ضرورياتها، وأنّ المأساة السورية امتدت فتراتٍ طويلة من الخوف، والحاجة للأساسيات لكن هذا لا ينبغي أن يكون الأصل في تعامل المنظمات الخيرية أثناء تقديمها للعون، واقتراحها للمشاريع، خصوصاً في المناطق التي تعتبر آمنة نسبياً، وصالحة لبدء حياة طبيعية!
كما أن التاريخ يعطينا دروساً واضحة، فمخيمات اللاجئين الفلسطينيين في سوريا والأردن ولبنان، لم تكن حلاً مثالياً لقاطنيها، وكان فيها من المشكلات ما يعرفه الجميع، فلمَاذا ما زلنا نرتكبُ خطيئة التكرار؟ ونتقدم من السيئ نحو الأقل سوءاً؟ كأنه كُتب علينا الدوران في متاهة من الحرمان والحاجة، رغم أننا نملك القدرة على الانتقال من السيئ إلى الجيد فوراً، ودون تكبّد الكثير من المصاريف الإضافية، بل قد يكون انتقالنا هذا، أفضل اقتصادياً وبيئياً ونفسياً واجتماعياً، على المديين القصير والبعيد معاً.
والحقيقة أنني أطرح تساؤلاتي هذه، من وحي التجربة والخطأ. فحين بدأنا العمل في فريق "ملهم التطوعي" ضمن مشاريع المأوى، بدأنا ببناء وحداتٍ سكنية غير طابقية، وهو ما تقوم به الكثير من المنظمات اليوم، والذي توقفنا عن تنفيذه لاحقاً لقناعتنا أنّ هذا الحل ليس أفضل ما نستطيع تقديمه لأهلنا النازحين، بعد سنواتٍ شديدة من الوطأة والعذاب في الخيمة.
بالطبع؛ لا بد أنكم تتساءلون الآن لمَ يعتبر هذا الحل غير مستدام؟ في الواقع هناك سلبياتٌ كثيرة للوحدات السكنية غير الطابقية أبرزها:
أولاً: تشغل الوحدات مساحة كبيرة جداً، بعدد مستفيدين أقل، ودون مساحاتٍ خضراء.
ثانياً: كلفة البنية التحتية من فرش الطرقات، وثمن الأرض، والصرف الصحي، تعتبر أعلى مقارنة بالبناء الطابقي.
ثالثاً: شكل البناء في الوحدات غير الطابقية، هو شكل بدائي لا يشبه المساكن الطبيعية التي تبنيها الحكومات لشعوبها، ويعيش بها كل الناس بشكل آمن وطبيعي.
رابعاً: العزل في الوحدات السكنية غير الطابقية شبه معدوم، فالرياح والأمطار تصيبها من كل الجهات، فضلاً على رطوبة الأرض مما يزيد المشكلات مع مرور الزمن، إضافة لتكلفة التدفئة المرتفعة كل شتاء.
إذاً ما الحل؟
الحل هو البناء الطابقي، والذي يعتمد في بنائه على أسسٍ هندسية ومعمارية جيدة، ومواصفات سكنية تشبه التي يرغب أي واحد منّا أن يقطنها هو وعائلته، وهو الخيار الأفضل، الذي يخطو بنا خطوة ثابتة، لا تضطرنا للرجوع مرة أخرى لتعديلها وتدارك آثارها وسلبياتها، خطوة واحدة جيدة، تكفينا العناء تماماً.
وهنا يتساءل الكثيرون، ما دام هذا الحل هو الأجدى، فلمَ لا تقوم اليونيسيف والمنظمات الكبرى، بمشاريع إعمار طابقية؟
للأسف، فإن سياسات الأمم المتحدة والمنظمات المدعومة من قبلها غالباً ما تعتبر هذا النوع من الإعمار، شكلاً من أشكال التغيير الديموغرافي، فعندما تؤمّن للاجئ أو النازح استقراره، فكأنك بذلك تلغي احتمالات العودة لمنزله ومدينته. لذا لا نرى حلولاً فعالة لما يعانيه المهجّرون، بل تنحصر الحلول في المساعدات المؤقتة، والإعانات الغذائية والاحتياجات الأساسية.
لكن دعونا نتذكر أن خطوة التهجير كانت قاسية، ليس فقط لأن العائلة المهجّرة اضطرت للانتقال من بيت إلى خيمة، كلا؛ هذا تبسيط مخلّ وخاطئ للمشكلة، إن المأساة كلها تكمن في خسارة الإنسان لشكل الحياة البشرية الطبيعية؛ فيخسر أطفاله فرص التعليم، ويخسر هو جوهر العمل، وتخسر العائلة الاحتفال بالأعياد، والذهاب للأسواق، والتنزه والدفء والماء والطعام، وتصبح حياته معتمدة على مساعدات الغير.
وسنة تلو أخرى، ستتراجع مشكلتهم بالتقادم عن كونها محط الأنظار، وسيعتاد الناس، وسيتوقفون عن المساعدة والتبرع، وسيبقى من يعيش بخيمته أو مسكن مؤقت يعاني وحده.
أنا هنا لا أنتقد من بنى وحدات غير طابقية، إذ إنني على علم أن هناك أسباباً قد تُلزم المنظمات المحلية بتحديد سعر الوحدة السكنية، أو أعداد الوحدات المبنية، مما يجعل مهمة التطوير أصعب. لكن، هذه دعوة مني، لكل المنظمات العاملة في مجال الإعمار في الداخل السوري، أن تبحثوا عن حلول أفضل من الوحدات غير الطابقية، لأن الأوان قد آن، لنتوقف عن مساعدة الآلاف بتقديم حلول مؤقتة تحوي في طياتها مزيداً من المعاناة، لقد آن الأوان، كي نطوي المعاناة بأسرها، ولو بمساعدة عدد أقل.
فتغيير طبيعة حياة أهلنا النازحين، ورفع مستواهم المعيشيّ ليس رفاهية، بل هو ضرورة حيّة تستوجب منا الاستنفار الكامل لبذل كل ما نستطيعه في سبيل هذا الهدف النبيل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.