كنا نسمع أغنية "أحمد حلمي اتجوّز عايدة، وكَتَبْ كتابه الشيخ رمضان" في ميكروباصات حي شبرا والشرابية بالقاهرة في بداية التسعينيات من القرن المنصرف، ولم يتوقع أحد أن يبلغ صاحب هذه الأغنية البسيطة، وهو شعبان عبد الرحيم (1957 – 2019)، مكوجي الرِّجل بعزبة بلال، بحي الشرابية، شهرة كبيرة مثلما تحققت له بعد ذلك.
أنا بكره إسرائيل
وبعد تقديم شعبان عبد الرحيم لأغنية "أنا بكره إسرائيل"، اهتمّ الغرب به، وأجرت CNN، القناة الإخبارية الأمريكية، حوراً معه، هل للسخرية منا؟ حيث هبط الفن المصري إلى درجة سحيقة، ولم تجد إلا شعبولا لتتحاور معه، أم يا تُرى هو اهتمام بموهبة فنية فذة غير مسبوقة، أم هو قلق من الغرب من خروج مشاعر وضمير الشارع المصري والعربي الكاره للتطبيع مع إسرائيل والكاره لها أيضاً، أم كل ما سبق؟!
ولماذا لم تهتم قناة CNN بالمواهب الحقيقية منذ أجيال العمالقة عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش ومحمد فوزي وعادل مأمون وفايزة أحمد وعبد الحليم حافظ؟ وهل صوته في الغناء له علاقة بالغناء والطرب أصلاً؟ وهل (إيـــــــــــــــه) الممدودة والممطوطة والتي كان يقولها تنم عن موهبة حقيقية أم هي بخة تحشيشية؟! فمثلاً أم كلثوم والشيخ النقشبندي وعبد الوهاب لهم درجة عالية في درجات الصوت الغنائي، فما درجة صوت شعبولا في الغناء؟
وهل شعبولا له علاقة بالطرب الشعبي؟ وهل له ثمة علاقة بالمطربين الشعبيين أمثال محمد أبو دراع (1919 – 1998)، ومحمد طه (1922 – 1996)، ومحمد العزبي (1938 – 2013)، ومحمد رشدي (1928 – 2005)، وشفيق جلال (1929 – 2000)، وفاطمة عيد (1962)، وحتى كتكوت الأمير (1945 – 2012)، وأحمد عدوية (1945).
وبعد حوار CNN مع شعبان عبد الرحيم، شرعت القنوات المصرية في الحوار معه، واهتم أهل الفن به؛ فشارك في فيلم "عفاريت الأسفلت" 1996، وفيلم "رشة جريئة" 2001، وفيلم "أما يا صاحبي" 2017، وكان له الحظ الوافر في الاشتراك بالتمثيل والغناء في مسلسلات مثل "حلو وكداب" عام 2001، و"شربات 2002″، و"اللي اختشوا ماتوا" 2006، وحتى المسرح شارك في مسرحية "دوري مي فاصوليا" 2005 مع الفنان سمير غانم، فمتى تعلّم شعبولا التمثيل حتى يشارك في كل هذه الأعمال؟ أم التمثيل لا يحتاج إلى تعليم وتدريب وإتقان وموهبة، أو حتى على الأقل طريقة وأسلوب الإلقاء.
بلد حظوظ
بيد أن بلدنا "بلد حظوظ"، وليس بلد شهادات كما قال عادل إمام في مسرحية أنا وهو وهي؛ لأن أصحاب الشهادات والخبرات قُضي عليهم، ولم يأخذوا أقل حق لهم، والذي يريد الإبداع ليس أمامه سوى الهجرة إلى الخارج كما فعل الراحل أحمد زويل وغيره!
وانتشار شعبان عبد الرحيم وشهرته ومشاركته في الأعمال الفنية لا يتوقف على حظه الجيد فقط، إنما هناك هيئة هي التي تلقفته ووجهته وأشهرته أكثر وأجبرت المنتجين أصحاب الأعمال الفنية المتنوعة أن يشاركوه في أعمالهم كما يفعلون الآن مع الممثل محمد رمضان، وشهرته الكاذبة وتقديمه لدور (البلطجي)، والذي أفسد همة وطموح وآمال الشباب المصري، وهي الهيئة التي قدمت لنا الراقصة فيفي عبده كأم مثالية، وجعلتها تسب المصريين بأقذع السباب من على سرير النوم، وهي الهيئة التي أبرزت لنا حمو بيكا، ومجدي شطة ومن على شاكلتهما.
وهذه الهيئة هي التي سهّلت لشعبولا العلاج بمستشفى القوات المسلحة بالمعادي، وإلّا أخبرني بربك: كيف كان شعبان عبد الرحيم يتعالج حتى وفاته في هذا المستشفى العسكري الكبير، والذي لا يستطيع المواطن المدني (غير العسكري) أن يدخله إلا بواسطة كبيرة من قائد كبير بالجيش، أو بالمخابرات بأنواعها، أم هو قد دخلها بأمواله الكثيرة (ما شاء الله)!
وهذه الهيئة التي وجهت شعبولا وجعلته يسب قطر في أغانيه مثل أغنية "داعش"، التي يقول فيها "الدين أشرف وأحسن من كل التنظيمات.. قطع الرقاب يا داعش ماكنش فى الإسلام.. ما تعرفونا يا شيخنا قطر دفعالكوا كام.."، وهي الهيئة التي استغلته ليروّج مشروع السيسي في تفريعة قناة السويس، وقدم فيها أغنية "المشروع الجديد"، بالإضافة إلى أغانيه التي هاجم فيها المذيع معتز مطر وجماعة الإخوان المسلمين وأغانيه ضد تركيا، واستعداه لعمل أغنية ضد المقاول محمد علي (الجاسوس) كما ادعى، هل يوجد توجيه أكثر من هذا؟
وهذه الهيئة هي التي جعلت أمثال شعبولا يعلو نجمهم في سماء الفن الهابط، وفي ذات الوقت كانت الدولة أيام مبارك تفتتح الأوبرا المصرية ومكتبة الإسكندرية؛ فأي أوبرا سيعلو شأنها وستُعلي من شأن الفن وستُعلي من شأن البلد، ومنْ يُبرز على السطح أمثال شعبان عبد الرحيم؟ والمواهب الحقيقية مدفونة ولا تجد مَن يبرزها ويعطيها الفرصة الكاملة. وأي مكتبة عملاقة والجو العام منذ 23 يوليو/تموز 1952، لا يشجع على الهمة العالية، ولا توجد الحريات لكي يبدع الشعب ويُخرج مواهبه، إنما توجد السجون والمعتقلات.
وحتى كل قوتنا الناعمة في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين كانت تعمل "بالقصور الذاتي" منذ عصر العمالقة في كل المجالات منذ الثلاثينيات والأربعينيات، وكل مثقفينا الكبار لم يبرزوا في عصر وزارات الثقافة منذ الحكم العسكري في عام 1952، إنما خرجوا قبل ذلك حتى أيام الاحتلال الإنجليزي لمصر. والأمثلة على ذلك كثيرة في بلاد أخرى، مثل الاتحاد السوفيتيي السابق، الذي لم ينشر إلا الثقافة الموجهة مثل أدب المصانع والاشتراكية، وفي ذات الوقت دمر الثقافة الروسية العريقة، والتي كانت مزدهرة وعالمية خاصة في القرن التاسع عشر أيام نيقولاي جوجول (1809-1852) وفيودو ديستوفيسكي (1821-1881) وليو تولستوي (1828-1910) وأنطون تشيكوف (1860 – 1904) وغيرهم، والشيء ذاته تكرر في الثورة الثقافية في الصين الشيوعية في عصر الصنم الأكبر ماو تسي تونغ (1893- 1976).
فما قيمة العمارات الشاهقة وناطحات السحاب، ومنْ يسكن بداخلها بعيد عن الحضارة والتمدين؟ وما قيمة أن تركب أحدث سيارة فاخرة وتلقي بالقمامة من شباكها في الشارع؟ وما قيمة الكمبيوتر الفاخر (الهارد وير) ولا يوجد "سوفت وير" جيد بداخله؟ وما قيمة البدلة الفخمة والوجاهة الزائدة عن الحد وصاحبها يحمل داخل رأسه عقلاً خاوياً؟!
عصر مبارك
إن ثلاثين سنة، حكم فيها مبارك مصر قضى فيها على البقية الباقية من كل قوتنا الناعمة. أما العصر المعاصر فهو عصر دولة الخوف، والمحاكم العسكرية للمدنيين، والإعدامات بالمئات والآلاف بمحاكمات وبدون، وحجْب المواقع الإخبارية، وصوت الإعلام الواحد والنافخ في إله الحكم من روحه، وهو عصر بناء السجون والمعتقلات أكثر مما مضى؛ فأي موهبة حقيقية ستبرز مهما كانت عندنا مكتبة الإسكندرية أو دار الأوبرا أو معرض الكتاب أو الهيئة المصرية العامة للكتاب أو مكتبة الأسرة، والخوف يعشعش في كل نفس، ويفقس في كل قلب، ويدمر كل روح، حتى برزت في السنوات الأخيرة ظاهرة الانتحار بين المصريين.
لو ابتعد شعبولا عن السياسة وألاعيبها واستمر في الغناء لأفراح الأحياء الشعبية كما كان من قبل أيام أغنية شارع أحمد حلمي، الذي تزوج من محطة عايدة، لكان أشرف له، وقابل ربه بوجه كريم، وإن كان ثمة تحفظ على إفساد أذواق الأفراح الشعبية بأغانيه وصوته.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.