في أثينا القديمة جاء رجل لرفع قضية ضد والده الذي قتل عبداً، وحين خرج من عند القاضي التقاه سقراط، فقال: ماذا عندك يا غلام؟
رد: والدي قتل عبداً فأتيت لرفع دعوى ضده
سأله سقراط: لماذا؟
أجاب: لأن القتل ترفضه الآلهة ولأن الحياة مقدسة
استنطقه سقراط بتهكمه التوليدي المعتاد: وهل الحياة مقدسة لأن الآلهة تقدسها أم لأنها مقدس في حد ذاتها؟
تخبّط الشاب ولم يعرف الإجابة، فأقنعه سقراط بأن يتراجع عن فعله لأن الأساس الذي بنى عليه اقتناعه يعاني من خلل، فهو لا يعرف سبب قداسة الحياة، ولا أصلها، إذن سيكون فعله ذاك الذي قام به بدون معنى.
اشتهر سقراط بأسلوبه التهكمي، الذي يعني الاستنقاص من قناعات الطرف الآخر واعتقاداته، وذلك بطرح أسئلة تستطيع هدم أي اقتناع.
هذا الأسلوب الرهيب، الذي يفتح الباب أمام العدمية، لا يفارق "النقد في شيء"، فمن يعتقد أن ثمة نقداً بناءً فهو واهم ولا يتجاوز الفهم العامي للمفاهيم المؤثثة للنسيج الفلسفي والعلمي، فالنقد دائماً هدام، يُخرِّب المبادئ التي يتوجه نحوها بأسئلة تحفر جوهرها، وتفكك إطارها ودرعها الواقية، أسئلة لا تحمل عاطفة لا شفقة، تحاول بشراسة حيوان مفترس مُصاب بالسعار أن تقضي على بنيان ونسق ما تعتبره لا يستحق البقاء ويعاني من عيوب واضحة. إن الأسئلة النقدية لا تؤمن سوى بإرادة القوة، ولهذا يعشقها العدمي الإيجابي "نيتشه".
بالفعل، النقد ذو طبيعة عدمية، تسحب كل ثقة بالاستقرار، إنها لا تستسيغ المنظور الساعي إلى الاستمرار على وتيرة ثابتة، إنها لا تفهم سوى الاندفاع نحو المجهول، نحو المصير الغامض، والمغامرة الخطيرة، التي تثير المخاوف. لكن (استدراك كبير وتوضيحي) لا يمكن للنقد أن يتحول لهذه الهمجية المرعبة، إن لم يتقيد بشروط أساسية، فرغم همجيته المستعرة، فإن له ضوابط ينبني عليها، وهي:
1- فهم مستفيض لأسس المبادئ التي يحاول هدمها.
2- تأريخها: لمعرفة تواترها الكرونولوجي وتطورها ومن ساهم في بنائها وتجديدها والمرحلة التي توقفت عندها لتصير ثابتة (المعَاصَرة).
3- وضع شبكة للمفاهيم التي ترتبط بها وتدخل في نسيج نسقها.
بعد ذلك، وحين اختراق هذا النسق، لتشويهه وتفكيكه يأتي الدور البناء لما بعد النقد، وهو ما سيساهم في تجاوز الركام الذي أحدثه، وذلك بوضع بديل أكثر صلابة (أكثر قوة) يمكن أن يعوِّض النسق الذي صار مفتتاً يتطاير غباره.
عند مرحلة البناء، يصمت النقد ويتراجع إلى كهفه المظلم المليء بجثث ضحاياه تاركاً البناء الجديد حتى تأتي الفرصة التي يضعف فيها لينقض عليه مرة أخرى ليضيفه للائحة وجباته.
إذن، مرحلة البناء ما هي إلا تخفيض لحدة النقد وطرده بعيداً لوضع أسس جديدة تحافظ على استمرار البشر، فكأن الإنسان لا يستطيع أن يترك النقد يستمر بلهوه هذا، وذلك لكي لا يقضي على ما يربطه (الإنسان) بهذا الوجود، فبدون مرحلة البناء، التي هي في الأصل "خلق وهْمٍ جديد متماسك في قصته" لا يمكن للبشر أن يقاوموا العدم (الذي يُنجبه النقد دائماً).
ولكي نستطيع دخول مرحلة البناء، لا بد من:
1- إطلاع شبه شامل على المرحلة التي توقفت عندها البشرية، فلا يمكن خلق بناء جديد، بدون معرفة مسبقة، للابتكارات التي توقف البشر عندها، حتى لا يتكرر الابتكار (الابتكار هنا يقصد به كل استحداث لوضع أو نظام أو نسق أو نظرية أو شيء).
2- وضع دعامات أساسية للبناء الجديد، للتأكيد على أنه الأفضل مما سبق. والدعامات تتأطر بمعايير إما أن تكون نفعية أو أخلاقية أو منطقية أو علمية.
بعد ذلك، نكون قد تجاوزنا ما عرضناه للنقد، ونلاحظ بذلك أن هذه العملية ليست بسيطة بل معقدة في مراحلها وطريقة تغذيتها وتكوينها، فلا يمكن لأي شخص كان أن يقوم بالنقد، إن لم يختل مع النسق الذي يريد أن يهدمه لمدة طويلة قبل أن يُحدث الضجيج. وهنا الفرق بين النقد والانتقاد (على وزن افتعال) والذي لا يتماشى وضوابط النقد، فهو مجرد اندفاع عشوائي لا يتأسس على فهم ومعرفة عميقة بالمحور الذي ينتقده، بل يشعر بمرارة اتجاه وجود هذا المحور فيرغب في أن يشوهه (لا يستطيع الوصول لمرحلة التفكيك). بمعنى أن الانتقاد ذو طبيعة عاطفية لا يمكنه أن يمس الأسس التي يقوم عليها المحور أو النسق، لأن هذه الأسس قائمة على الترابط المنطقي والمفاهيمي التي لا يمكن للذكاء العاطفي أن يعرضها للخطر.
بمعنى أن الانتقاد ليس من طبيعة عدمية، إنه ضعيف ليصل لذاك المستوى الخطير الذي لا يؤمن سوى بالقوة. الانتقاد هو فقط تعبير شعوري يتلاشى بتلاشي الشعور، ولا يمكنه أن يصل أبداً لدرجة هدم البناء وتجاوزه.
إن الانتقاد يرتبط بالطبيعة البشرية، فما دام من شيم البشر الغضب، فإن الانتقاد سيرتبط بهم دائماً، أما النقد فيرتبط بالعدم، إنه الضد القائم للوجود، والنقيض النافي الذي يخلق دياليكتيك النظريات والمعتقدات والأوضاع والأنساق وكذا حياة البشر.
إذن، الانتقاد هو مجرد تفريغ لحالة نفسية تصيب سيكولوجية الشخص تجاه وضع معين أو معتقد أو نسق إلى غير ذلك، بينما النقد هو هدم يلاحق الوجود ليؤكد للبشر أن لا ثابت سوى العدم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.