كرة القدم ليست مجرد رياضة، فهي لعبة ذات رهانات سياسية واجتماعية وثقافية بالغة الأثر، أكثر وقعاً من الدبلوماسية. في مونديال مكسيكو العام 1986، كان الفتى مارادونا لا مجرد لاعب بل كان بطلاً قومياً ثأر من "العدو" الإنجليزي بعد هزيمة حرب جزر الفولكلاند بهدفين، أحدهما بيده والثاني برجله. قبلها تحولت مباراة السد المؤهلة لمونديال المكسيك 1970 إلى حرب بين الهندوراس والسلفادور، دامت مئة ساعة وقُتل فيها ثلاثة آلاف شخص.
في فرنسا، وقبل شهرين من انطلاق مونديال السويد 1958، صنع لاعبون جزائريون محترفون بنوادٍ فرنسية، بعضهم نجوم في المنتخب الوطني الفرنسي، ملحمة خرافية، تركوا فيها كل شيء؛ منازلهم، أموالهم في الحسابات البنكية، وحتى ألبستهم. أرسل بعضهم زوجاتهم وأولادهم قبل أيام لإيطاليا وسويسرا، فيما اصطحب آخرون زوجاتهم وأطفالهم في اليوم الموعود، يوم قرروا في لحظة فارقة التضحية بمستقبلهم الشخصي لصالح الثورة الجزائرية، حيث تقرر تأسيس فريق وطني جزائري سُمي فريق جبهة التحرير الوطني. وصفت الصحف الفرنسية الفعل بالمغامرة المجنونة، أما اللاعب مصطفى زيتوني فأجاب: " عندما يحتاجنا الوطن، فعلينا أن نلبي نداءه، مهما تكن الخسائر الشخصية الواجب تحملها".
11 لاعباً جزائرياً يصنعون أكبر زلزال سياسي قبل مونديال 1958
في خريف 1957 كان العالم يترقب صيف ستوكهولم الذي سيحتضن بعد ثمانية أشهر عرس مونديال 1958، ذلك الموعد الساحر الذي تحشد له الأمم طاقاتها للبروز الكروي، والتنافس على الكأس الذهبية، ولم تكن فرنسا بعيدة عن حصد أول لقب، كي تخلد اسمها في سجل الأمم العظيمة كروياً، لتلتحق بإيطاليا وألمانيا والأوروغواي، فقد كانت تعد لفريق كبير، خاصة بتوفر خزان بشري هائل من اللاعبين الجزائريين المحترفين الذي قارب عددهم قرابة الأربعين محترفاً أواسط الخمسينيات. تمكن عدد من اللاعبين الجزائريين من اكتساب المكانة الأساسية في فرقهم، ومن ثم الوصول إلى المنتخب الفرنسي خلال الحقبة الاستعمارية.
برز ثلاثي مرعب، كان الأشهر بين محترفي الجزائر، هم: رشيد مخلوفي مهاجم فريق سانت إيتيان، المستدعى في إطار الخدمة العسكرية، الحائز على كأس العالم العسكرية، وعبد العزيز بن تيفور، الجناح الطائر لموناكو، وزميله في نفس الفريق مصطفى زيتوني محور الدفاع الملقب بـ"سيد الكرة".
كانت فرنسا قريبة في ذلك العام من تحقيق اللقب المونديالي، فرشيد مخلوفي المهاجم الفنان سيكون سُماً قاتلاً رفقة اللاعب الكبير جاست فونتان وعبد العزيز بن تيفور، فيما بسط محور الدفاع مصطفى زيتوني سيطرته، محيلاً اللاعب الفرنسي الشرس جونكي إلى دكة الاحتياط. وإلى زيتوني يعود الفضل لتأهل فرنسا للنهائيات، حينما أخرج كرة بلجيكية قاتلة من خط المرمى، ثم نثر سحره على الجميع في لقاء فرنسا وإسبانيا، حين شل اللاعب الكبير الفريدو ديستيفانو أحد عباقرة الكرة، في ذاك الوقت، وهو أرجنتيني الأصل إسباني التمثيل، لدرجة أن هذا الأخير طالب إدارة الميرينغي بالإسراع في التعاقد معه، وضمه للقلعة البيضاء. ولا عجب فقد قال المدرب الفرنسي بعد نهاية مونديال السويد متحسراً: "لو كان زيتوني معنا في ستوكهولم لكنا عدنا بكأس العالم إلى باريس في العام 1958".
يقول الصحفي الفرنسي جاك فاندرو: "لاعبون مثل مخلوفي وبن تيفور وزيتوني كانوا يلعبون للمنتخب الفرنسي، وهم نجوم كرة لا يختلفون، من حيث القيمة، عن زين الدين زيدان، أو ميشال بلاتيني. فرارهم من فرنسا وتخليهم عن كل شيء أحدث ضجة سياسية كبيرة، بدرجة "الفعل الحربي السلمي، الأهم من هذا وذاك، هو ذلك السؤال الذي أحدثه الفعل في حد ذاته، كيف يتخلى لاعبون عن مجد شخصي كبير، بين ليلة وضحاها ليذهبوا لتكوين فريق مجهول، لقد خاطروا مخاطرة من أجل مبدأ وقضية، ليس من السهل لأي كان أن يركبها، وقد كانوا كلهم شباناً في العشرينيات، ويعيشون حياة مستقرة، بأسر وعائلات، ومداخيل محترمة، وينتظرهم مستقبل ملحمي كبير، في فرقهم الكبرى، وكانوا قاب قوسين من تحقيق حلم كل لاعب بالمشاركة في المونديال".
زيتوني ضحى باللعب لريال مدريد ومرتب 160.000 فرنك شهرياً
فيما كانت فرنسا تضبط ميناء ساعتها على حلم تحقيق أول بطولة عالمية في المونديال، كانت جبهة التحرير الجزائرية، بخلاياها السرية بفرنسا، تحرك العقارب في اتجاه آخر، وتحضر لما وصفه الجنرال ديغول بـ"الزلزال".
كانت ثورة الجزائر الاستقلالية تنهي عامها الرابع، ورغبة في التدليل على أنها قصة كفاح شعب من أجل الحرية، لا حركة قطاع طرق وأوباش، فكرت القيادة السياسية لجبهة التحرير الجزائرية، عبر ودادية المهاجرين الجزائريين، في تسويق سياسي بالغ الأثر يجسد تلك الرمزية القوية، لذا لم يجد مسؤول جبهة التحرير في فرنسا، محمد بومزراق، غير "حرب الملاعب"، فاتصل بداية الموسم الكروي 1957/1958، بلاعب فريق أونجي عمر رواي وعرض عليه الفكرة في لقاء سري بتولوز، ولم يجد ابن مدينة سطيف، تلك التي لطخت ذاكرتها الجماعية بدماء ضحايا جزائريين، وكدست جثث بعضهم في ملاعب الكرة، في إبان مجازر 8 مايو/أيار 1945، سوى أن يرحب بالفكرة، ويسعى لتنفيذها، واللافت للنظر أن عدداً من هؤلاء اللاعبين المتمردين على الذات، على غرار كرمالي ومخلوفي ولعريبي كانوا جميعهم من مدينة سطيف، وطبيعي أن يكونوا أقرب لتقمص الفكرة، حتى إن رشيد مخلوفي قال: "عندما قال لي لعريبي وكرمالي: كل شيء انتهى هنا، هيئ نفسك للمغامرة. لم أكن مستعداً لأية مناقشة، لقد قرر قلبي الالتحاق بالفريق الجزائري، قبل أن أنطق، إن كل أموال وذهب العالم لن تدفعني للتراجع عن تلك اللحظة التاريخية".
وحينما يقول رشيد مخلوفي إن "كل ذهب العالم وأمواله لن تقف حجر عثرة في طريق تلبية نداء الوطن" فهو لا يتحدث من فراغ، فكل هؤلاء اللاعبين من ذوي الدخل الكبير سيضطرون بعدها للعيش بأجور تقل بثلاثة أضعاف عما كانوا يتقاضونه في المحترف الفرنسي، فمصطفى زيتوني، على سبيل المثال لا الحصر، كان يتقاضى في تلك الفترة 160.000 فرنك فرنسي شهرياً.
في حانة "كريوني" قررت الجبهة الرد على ديغول بحرب الكرة
يؤكد كثير من الباحثين الذين ألفوا كتباً عدة عن هذه الملحمة، بينهم قادر عبد الرحيم صاحب كتاب "الاستقلال: هدف وحيد"، أن اللاعب عبد العزيز بن تيفور، الذي يروى عنه أنه كان يخفي علبة تبغ سعوط في جواربه أثناء المباريات، كان حجر الزاوية في تنفيذ المشروع، لقد كان لاعباً فقيراً معدماً، وبالتالي مناهضاً للسياسة الاستعمارية، لذا كان نقطة التواصل الحاسمة في تدوير كرة الثلج الكبيرة. عرف عنه لدى المخابرات الفرنسية "دي إس تي" أنه ذو شبهة نضالية، انطلاقاً من حانة "الكريوني" بمدينة أونجي، والتي كانت غطاء لجمع التبرعات لصالح ودادية الجزائريين بفرنسا، ولقد تم تفتيش بيته عدة مرات بناء على تلك الشبهة، بيد أن مديرية حماية الإقليم لم تكن تملك أية معلومة عن "الضربة الكبرى" سوى عندما وصل جل اللاعبين إلى سويسرا وروما.
وأما كبريات الصحف الفرنسية على غرار "باري ماتش" و"ليكيب" فقد أفردت الخبر الزلزال بـ"مانشيتات" كبرى وافتتاحيات غزيرة، كانت أقرب إلى الحداد والصدمة والذهول.
لأسباب أمنية قاهرة، فضلت جبهة التحرير اعتماد السرية التامة، بناء على تجارب سابقة، بعدما تردد لاعبون تم الاتصال بهم سابقاً، لذا كانت ترجئ التحركات الحذرة لأوقات أخرى، قبل استقرارها على هذه المجموعة بهدف يقول عنه البعض إنه مرتبط بالتسويق الإعلامي للثورة التي خسرت معركة الجزائر، مستفيدة من اقتراب حمى المونديال، ليكون الصدى الإعلامي كبيراً. اعتمدت الاتصالات بلاعبين بطريقة فردية أول وهلة، ثم عندما تم الضبط النهائي تم توزيعهم على فوجين، يتكون الأول من لاعبي موناكو الخمسة؛ بوبكر وبن تيفور، وبخلوفي، وزيتوني ورواي، ومجموعة أخرى، ينحدر أغلبهم من منطقة سطيف وبينهم رشيد مخلوفي وعبد الحميد كرمالي ومختار لعريبي وبوشوك، من تسعة لاعبين كانوا أول المغادرين، لكن هؤلاء لم يكونوا يعرفون على وجه الدقة هويات بقية زملائهم المعنيين بالرحلة الأخيرة والمجهولة.
مخلوفي يصاب في آخر لحظة.. ولاعبان يتنكران في بدلات ممرضين
فضلت جبهة التحرير الوطني أن يكون رشيد مخلوفي اللاعب الأكثر شهرة هو آخر لاعب يتم إعلامه، لما عرض عليه كرمالي ولعريبي الأمر "غداً سنرحل"، لا لشيء سوى أن والده كان شرطياً بمدينة سطيف، فتم غلق هذه البوابة العاطفية، في حال ما قرر استشارته في الأمر، لكن الرجل أجاب: "نعم سنذهب بعد انتهاء المباراة". يشاء القدر أن ينقل مخلوفي أثناء المباراة للمستشفى، إثر اصابته بكدمة في الرأس جراء التحام هوائي مع مدافع، فلم يجد لعريبي وكرمالي من حيلة سوى اللحاق به متنكرين في لباس ممرضين، قبل أن يصحباه معهما وجزء من رأسه مغطى بقطعة شاش تطبيب، ثم كانوا يعبرون إلى ليون ثم الحدود السويسرية، في الوقت الذي كان فيه راديو مونتي كارلو يذيع خبر الاختفاء المريب للدوليين الجزائريين الذين كانوا ضمن التعداد الفرنسي الذي يستعد لمواجهة سويسرا في غضون ثلاثة أيام.
لقد وقف عون الجمارك الفرنسي مغتبطاَ وهو يشاهد النجم مخلوفي طالباً منه توقيع "أوتوغراف"، فكان له ذلك مع صورة وابتسامة، فيما كان اللاعب الجزائري يقول في قرارة نفسه: "من حسن الحظ أنه لم يستمع لأخبار إذاعة مونتي كارلو وإلاّ كانت الكارثة"، إذ إنه ليس مجرد لاعب بل عسكري في الخدمة حيث سيعامل كجندي فار من الجبهة بعد انقضاء ثلاثة أيام، ولن يفلت إذا لم ينجده أحد من السجن أو الإعدام، مثلما وقع مع اللاعبين دفنون ومعوش اللذين فشلا في الالتحاق وتم توقيفهما قبل مغادرة الأقاليم الفرنسية نحو سويسرا وإيطاليا.
في ملعب آخر كان مصطفى زيتوني، نجم موناكو يلاعب غريمه رواي نجم، لاعب أنجي، وقد كاد المدافع الشرس يعطب قدم صديقه، فراجعه رفيقة، وكاد يعطب قدمه، حتى إنه همس له: "هدئ لعبك. سنفر معاَ بعد المباراة"، غير أن زيتوني رد في خفوت: "داخل الملعب أنا لاعب لا يحب الخسارة، أما خارج الملعب فتلك حكاية أخرى".
والقصة الأخرى أنه كان مقرراً أن يلتقيا في محطة القطار بنيس للذهاب إلى روما، ضمن مجموعة من خمسة لاعبين، غير أن رواي لم يظهر له أثر في تلك الليلة، ليعرف لاحقاً أنه سافر معه في ذات القطار، لكن في عربة أخرى.
فازوا في 57 مباراة وتغلبوا على ألمانيا قبل عقدين من مونديال 1982
في يومي 13 و14 أبريل/ 1958 اكتمل المشهد الدعائي على الصعيد العالمي عبر عشرات المقالات والأخبار والتغطيات الإذاعية والتلفازية، التي تحدثت تحت هول الصدمة الزلزالية عن مجموعة اللاعبين المتمردين، الذين شرعوا في تدريبات استعداداً للمشوار الكروي الكبير.
أدى الفريق الجزائري مباريات دولية ودية مع فرق وطنية وجهوية في كل من تونس والمغرب وليبيا والعراق والأردن، كما التقوا بفرق وطنية من بلدان المعسكر الاشتراكي المساندة للقضية الجزائرية، مثل الاتحاد السوفييتي وبلغاريا والمجر وتشيكوسلوفاكيا والصين وفيتنام، ومع أن وظيفتهم كانت بالأساس التعريف بقضية استقلال الشعب الجزائري، حيث رفضوا اللعب مع الفريق البولندي بسبب رفض عزف النشيد الوطني الجزائري، فإن تلك النخبة الكروية حققت نتائج باهرة ومذهلة، ولا غرو فإن انخراطهم في فرق محترفة ذات تدريب عال ومركز، لم تسمح لهم بالفوز بالمباريات فحسب، بل بنتائج ساحقة، حيث فازوا بسهولة بدورة شمال إفريقيا، على تونس والمغرب وليبيا، ثم على فرق بالشرق الأوسط كالعراق والأردن، كما قدموا مستويات كبيرة أمام يوغوسلافيا واكتسحوا رومانيا وتشيكوسلوفاكيا والمجر والصين وفيتنام.
وما بين أعوام 1958 و1962، كبر الفريق إلى نحو 33 لاعباَ بعدما لحق بهم آخرون بعد موجة الفرار الأولى، ولعبوا على مدار تلك السنوات، حسب الباحث والصحفي الرياضي السابق بجريدة ليكيب الفرنسية، ميشال نايت شعلال، زهاء 83 مباراة، فازوا في 57 منها، وتعادلوا في 14 مرة ولم يخسروا سوى 12 لقاء، مسجلين 349 هدفاً ومتلقين 119، أي بفارق إيجابي بزائد 230 هدفاً. وحققت تلك المباريات سيطاً دعائياً للثورة، وهو ما سمح بجمع أموال وتبرعات لها، كما ساهمت في حشد سياسي ودبلوماسي كبير، إذ خصهم زعماء كبار كجمال عبد الناصر والحبيب بورقيبة والملك محمد الخامس وجوزيف بروز تيتو والجنرال جياب والزعيم ماو وتسي تونغ وهوشي منه، باستقبالات بروتوكولية رسمية، لا بل إن هذا الأخير قال لهم في قصره كلمة ذات دلالات تاريخية عظيمة، بعد اكتساحهم لفيتنام: "لقد فزتم علينا، ونحن فزنا على فرنسا، إذن ستفوزون على فرنسا وستحققون الاستقلال".
بعد ساعات من استقلال الجزائر، كان رئيس الحكومة الجزائرية الصيدلي فرحات عباس، يخاطبهم في جلسة رسمية: "لقد اختصرتم على الثورة الجزائرية 10 سنوات من الكفاح".
عقب الاستقلال حمل عدد من هؤلاء ألوان الفريق الوطني الرسمي، ولعبوا عدة مباريات دولية، وقد لا يعلم الكثيرون أن هؤلاء فازوا على ألمانيا الغربية بهدفين لصفر في لقاء ودي جرى بالجزائر، في يناير/كانون الثاني 1964 أي قبل 18 سنة من الفوز التاريخي للجزائر على ألمانيا الغربية في مونديال إسبانيا عام 1982.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.