دون الكثير من المقدمات، تعيش السينما المصرية أسوأ مراحلها.. تشهد الساحة الفنية الحالية حالةً من الخمول والتراجع الكبير نتيجة للتفريغ المتعمد من القضايا السياسية والاجتماعية الهامة لحساب التسلية ونشر التفاهة باعتبار "الجمهور عايز كده".
علی مدار 100 عام ونيّف شهدت السينما المصرية تحديداً فترات مثل هذه الحالية، بسبب تغير المزاج العام أو الرقابة السيادية علی الأعمال الفنية.
الأمر الذي ينطبق على الأعمال الأدبية التي قد لا يتم طبعها بسبب وجود ما يمسّ الأصنام الثلاثة الأبرز "الدين- الجنس- السياسة"، الذي يبدو الاقتراب منها كالسير نحو الجحيم.
ولكن ورغم ذلك فإن ما تنتجه المنصات المرئية غير الخاضعة للرقابة الجماهيرية أو السيادية بشكل كامل يبدو وكأنه يتحرر شيئاً فشيئاً من هذه القواعد الخانقة، ليتماسّ مع القضايا الحقيقية، بغض النظر عن سيل الاعتراضات الذي قد تتعرض له تلك الأعمال، أو ما قد يتعرض له أبطالها الذين -وهم قلة قليلة- مازالوا يمتلكون قدراً كافياً من الوعي، يمكّنهم من خوض تجارب مهمة تؤثر في المُتلقي وتساهم في رفع الوعي.
من أجل زيكو: النحت من أجل اللاشيء!
منذ عدة أيام صدر فيلم "من أجل زيكو" من إخراج "بيتر ميمي". جاءت الصدمة حينما أدرك كل من شاهدوا الفيلم أنه "منحوت" بالكامل من فيلم "little miss sunshine".
المؤسف أن الأمر ليس سقطةً أو خطأً وقع فيه مخرج العمل، بل أصبح عادة عند "ميمي"، الذي ورغم أفاعيله، وإعادة طرحه لأعمال عالمية دون أي إشارة لها، فإن البعض يعتبره أحد أفضل المخرجين المصريين، بل إنه يظن في نفسه أنه مخرج متطور ومجدد!
مشكلات إعادة تقديم الأعمال العالمية بشكل مصري ليست فقط في عدم الإشارة لكونها إعادة طرح لقضية أو قصة تم طرحها من قبل، ولكنها تكمن في الكسل الشديد في البحث عن أي قضية محلية أو قصة جادة يمكن تقديمها للمجتمع المصري. الأمر الذي يقود لسلسلة من العيوب تتعلق بالكتابة للسينما أو الشاشة الصغيرة، بسبب اعتماد الأمر علی أشخاص أو جهات معينة منوطة بتقديم ما تراه مناسباً للتقديم للجمهور، بسبب ما يُعرف بـ"قيم الأسرة المصرية"، هذا المصطلح المطاط الرخو الذي لا يعبر إلا عما لا يتفق مع السلطة التي تسيطر علی جميع النواحي الحياتية التي تخص المصريين. نوع من الوصاية شديد الصرامة يخنق الحرية ويضيّق الخناق علی كل سبل الإبداع.
أصحاب ولا أعز
بغضّ النظر عن العنوان السخيف، فإن النسخة رقم 19 من الفيلم الإيطالي "perfect stranger"، والتي جاءت من بطولة منى زكي وإياد نصار ونادين لبكي، والتي تم عرضها علی منصة نتفليكس العالمية، جاءت بصورة مفاجئة للكثيرين.
تبدو النسخة العربية نسخةً متحررة تتناول العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، وكذلك المثلية الجنسية، بالإضافة للتحرر من السلطة الأبوية على جسد الابنة، حيث يبدأ أول مشاهد الفيلم باكتشاف أمها وجود واقٍ ذكري في حقيبتها، وبينما تخبر والدها عن الأمر يتعجب الرجل من تفتيش المرأة لحقيبة ابنتهما، ويستنكر فعلتها، ويصر علی حقيقة أن البنت حرة، بالغة، تستطيع أن تفعل ما تريده.
تسعی المنصات للحفاظ علی معاييرها الخاصة، بالإضافة لتخليها عن القيود لتحقيق أغراض عديدة، أبرزها تحقيق الأرباح، والتلاحم مع القضايا الإنسانية الهامة إن أمكن، خاصة تلك التي تخص الدين، والسياسة، أو الجنس باعتبارها أكبر أزمات المشاهد العربي الذي قد لا يمانع مشاهدة نفس الفيلم الغربي بنفس قدرته علی تحطيم القيود والتابوهات، ولكنه يملأ مواقع التواصل الاجتماعي بكاءً وعويلاً إذا وجد فيلماً مثل "أصحاب ولا أعز" يتم الحديث فيه عن المشكلات الجنسية بين الأزواج بعد مرور سنوات علی الزواج، ولا يبدو ذهاب المرء للطبيب النفسي أمراً يثير الشك تجاه قواه العقلية. يتحدث أبطال الفيلم بكلمات نابية، نطلقها يومياً في حياتنا العادية، ويسكرون كما يمكن أن يحدث في سهرات مصرية كثيرة خالية من الرسميات أو الرقابة، التي يفترض المشاهد العربي وجودها دوماً فوق رأس الأبطال، حتی يلتزموا بالصورة المثالية التي اعتادوا رؤيتها في بعض الأحيان.
نعم للعنف!
لم تتوقف الحملات الإلكترونية عن فيلم "أصحاب ولا أعز" منذ اليوم الأول علی عرضه على منصة "نتفليكس"، بالرغم من أن الفيلم يحمل تصنيفاً واضحاً وهو "+ 18″، ما يعني أنه للكبار فقط، وبالرغم من إذاعته علی منصة غير عامة، أي يمكن للمشاهد وحده تحديد ما يريد رؤيته، فإن كل هذا لم يمنع أغلب من شاهدوا الفيلم، أو كل من لم يشاهدوه من المطالبة بمنع عرضه، والبعض طالب بالتحقيق مع أبطاله بالتهمة الجاهزة "تهديد قيم الأسرة المصرية"، ولكن لأن كل شيء يدفع للسخرية، فهناك آخرون طالبوا بإغلاق نتفليكس أو حجبها تماماً من مصر.
يتوافق مبدأ المنع والحجر وتضييق الخناق ودفن الرأس في الرمال مع أغلبية الناس بشكل كبير، ربما لأنهم اعتادوا أن شؤونهم ومشكلاتهم لا تُحل إلا بالقوة الغاشمة. يتصدر التريند الآن الحديث عن عيوب السينما غير الهادفة وغير الأخلاقية، التي يتناول نجوم شاشاتها الخمور بأريحية، أو تتم بها مناقشة أمور مثل عدم وصاية الآباء علی الأبناء علی الملأ دون أي قيود.
يری البعض أن السينما لا يجب أن تُناقش الخيانة الزوجية أو العلاقات الجنسية بين الزوجين، ولكن نفس الناس لا يمانعون أبداً إذا كان المنظور المرئي للفيلم هو منظور أحادي، والدليل هو تجاهلهم في كل نقاشاتهم المجوفة لخيانة رجل لزوجته، أو خيانة صديق لصديقه، هذه أمور لا تهم الشعب الذي من فرط غرقه في بحور النفاق والتدليس يُعرف بـ"الشعب المتدين بطبعه"، وهي الجملة التي يُقصد بها عكس معناها، دلالة على غرق هذا المجتمع في الفساد.
من علامات الفساد أيضاً اعتياد الناس علی تجسيد الأزمات التي تخدم مفاهيمهم هم فقط، والتي تسعى لإقصاء الآخر ونفيه، ولما كانت كل العادات والتقاليد الصحراوية تدعو إلی طمس المرأة، واعتبارها تابعةً ومملوكة للرجل، فإن هذا الرجل الآن يتذمر ويشكو ويشعر بالعار؛ لأن المرأة تظهر علی شاشات التلفاز تشكو من الإهمال في الحياة الزوجية، أو تشعر بالانسحاق، حتی لو كان هذا الأمر مجرد تمثيل في فيلم أقل من المتوسط، ولكن السلطة التي يحصل عليها الذكر المصري بمجرد أن يولد ترفض بشدة الشعور بهذه الإهانة، وتعتبرها إفشاء لأسرار البيوت.
لم يكن أحد يدعو لمنع عرض أفلام السبكي، التي كانت تقطر قذارةً وبذاءةً وألفاظاً نابية، مواربة ومكشوفة، أو مظاهر عنف يقف فيها محمد رمضان في أفلامه بجسد عارٍ، يضرب ويذبح كل من لا يعجبه. دائماً ما كان هنالك ألف سبب لدعم الأفلام السيئة والرديئة وعديمة الجودة لأي سبب، أما الآن فالكل يريد أن ينصب المحاكمات لمنی زكي وأبطال فيلم أُعيد طرحه لأكثر من 18 مرة حول العالم، والسبب لا يكمن إلا في وجود تكوين صورة بها أنثی تفعل أو تقول ما لا يود الرجل إفشاءه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.