تتنوع نظرة الجمهور لأجهزة الاستخبارات، فالعديد من الناس يتوهمون أن تلك الأجهزة، خاصة الاستخبارات الأمريكية، ذات قدرات خارقة متى أرادت تنفيذ شيء فلابد أن يحدث، والبعض يتخيلون أن رصيد نجاح تلك الأجهزة في أعمالها يطغى بشكل لا يقبل المقارنة على رصيد إخفاقاتها، والبعض يعتبر تلقي بعض التسريبات من أفواه المقربين بها هو بمثابة الاقتراب من معرفة الحقائق القطعية. لكن عندما نغادر تلك الأوساط التي لا تنتبه إلى أن الاستخبارات حرفة تقبع ضمن مجال النشاط الإنساني ويعتريها ما يعتري البشر من أخطاء في الفهم والتصور والتحريف والخطأ في نقل المعلومات، سنجد عالماً آخر مختلفاً تماماً يروي تفاصيله كبار الساسة وقادة الأجهزة الأمنية وضباط الاستخبارات في شهاداتهم ومذكراتهم وكتبهم.
لماذا تفشل الاستخبارات الأمريكية؟
نجد ضمن الأدبيات الأكاديمية في حقل الدراسات الاستخبارية محوراً بارزاً يتعلق بدراسة الإخفاق الاستخباري، ومن أبرز الكتب المنشورة فيه باللغة الإنجليزية كتاب روبرت غريفس، الصادر في عام 2010 بعنوان (لماذا تفشل الاستخبارات؟ دروس من الثورة الإيرانية وحرب العراق)، يقدم فيه المؤلف تحليلات عميقة لأسباب فشل الاستخبارات الأمريكية في توقع اندلاع ثورة الخميني في إيران، وأسباب تقديمها لمعلومات مغلوطة حول امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، وفشلها في التنبؤ بحجم العقبات التي واجهها الاحتلال الأمريكي في العراق؛ مما حول أحلام الاستقبال بالورود إلى مستنقع استنزف الجيش الأمريكي.
وكذلك نجد جورج تينت، رئيس الـ"سي آي إيه" خلال الفترة من 1997 إلى 2004، يتحدث في مذكراته التي نشرها بعنوان (في قلب العاصفة) عن جملة من الإخفاقات الاستخبارية الأمريكية مثل عدم معرفة التجارب النووية الهندية في عام 1998 سوى بعد وقوعها، والفشل في استشراف اندلاع انتفاضة الأقصى عقب زيارة شارون للحرم القدسي عام 2000 ، والفشل في إحباط هجمات 11 سبتمبر/أيلول. أما مدير الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان) الجنرال آفي كوهين، فقد وقف أمام لجنة الشؤون الخارجية والدفاع بالكنيست في 25 يناير/كانون الثاني 2011 ؛ ليصرح بكل ثقة بأن نظام مبارك مستقر ولا يواجه أي خطر رغم دعوات الاحتجاج المتصاعدة آنذاك، وهو ما تحول إلى فضيحة وإخفاق استخباري كبير لكوهين وجهازه خلال بضعة أيام.
اغتيال السادات وأحداث سبتمبر
الإخفاق الاستخباري لا يقتصر على عدم معرفة معلومات عن أحداث مهمة قبل وقوعها، إنما المدهش هو تقديم أجهزة الاستخبارات الكبرى معلومات خاطئة للرؤساء رغم نقل الإعلام للأخبار الصحيحة.
فعقب عقد الرئيس المصري أنور السادات لاتفاقية كامب ديفيد تحول الحفاظ على أمنه الشخصي؛ ليصبح ضمن أولويات الإدارة الأمريكية، وبحسب الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل في كتابه الشهير "خريف الغضب"، فقد قدمت المخابرات الأمريكية للسادات عدة نصائح بخصوص تشديد الإجراءات الأمنية المتعلقة بتأمين تنقلاته، مثل إغلاق المجال الجوي وقت تحليق طائرته، وصولاً إلى اعتماد مدينة شرم الشيخ كمقر إقامة أساسي، نظراً لسهولة تأمينها، كما دربت حراس السادات الشخصيين، وتواجد ضابط من الـ"سي آي إيه" في مقر الرئاسة المصرية للإشراف على إجراءات تأمين السادات، بل وسنجد ضمن قائمة مصابي حادث اغتيال السادات الواردة في أوراق القضية الخاصة بالحادث عدداً من حراسه الأمريكيين.
ورغم تلك الإجراءات التي توضح أهمية السادات ضمن السياسة الأمريكية آنذاك، نجد الصحفي الاستقصائي البارز بوب ودوارد في كتابه (الحجاب) يؤكد أن مدير الـ"سي آي إيه" كيسي ظل يؤكد للرئيس الأمريكي ريجان لمدة 3 ساعات بعد الهجوم على السادات في المنصة، أنه أصيب إصابات طفيفة، وأن تقارير الإعلام الأمريكي عن مقتله غير صحيحة، وذلك استناداً إلى إفادة محطة الوكالة بالقاهرة، وهو ما وضع كيسي في حرج لاحقاً أمام رئيسه.
وللجواب على اعتراض ربما يدور في ذهن البعض حول مدى مصداقية ودوارد أعود لمذكرات جورج تينت، حيث تحدث حول دوافع استقالته في عام 2004 من رئاسة الـ"سي آي إيه"، على خلفية نقل ودوارد تصريحات لمسؤولين أمريكيين ألقوا بالمسؤولية عليه في الزعم بامتلاك صدام حسين أسلحة دمار شامل، فقال: "شاهدت خبراً بالصفحة الأولى من الواشنطن بوست يروج لكتاب بوب ودوارد الجديد الذي يتحدث عن الفترة التي مهدت لحرب العراق.. طالما اُستخدمت كتب ودوارد التي اعتمدت على معلومات من مسؤولين داخل الإدارة الأمريكية لإلقاء اللوم وايجاد كبش فداء، وهذا قد حدث لي.. لم يكن بوسعي أن أترك منصبي على الفور بسبب شيء ظهر في كتاب، لكني لم أجد أي طريقة أستطيع من خلالها البقاء مدة أطول".
إن المعلومات الاستخبارية الأمريكية الخاطئة بخصوص وفاة السادات لم تكن الوحيدة من نوعها، إذ نجد الدبلوماسي الأمريكي زلماي خليل زاد يروي في كتابه المنشور باللغة العربية "السفير: من كابول إلى البيت الأبيض رحلتي عبر عالم مضطرب"، أنه خلال حضوره اجتماعاً لمجلس الأمن القومي الأمريكي بقيادة كونداليزا رايس، صبيحة يوم 11 سبتمبر/أيلول 2001، لمناقشة تداعيات اغتيال القائد الأفغاني المعارض لطالبان، أحمد شاه مسعود قبل يومين، تحدث كبار المسؤولين عن اصطدام طائرة بالبرج الشمالي لمركز التجارة العالمي في ظل افتراضهم أن تلك الطائرة صغيرة، ولم يدرك المجتمعون ما يحدث سوى عندما وصلهم خبر آخر بأن طائرة ثانية اصطدمت بالبرج الجنوبي لمركز التجارة.
بين التهويل والتهوين
نجد كبار الساسة المخضرمين يضعون الاستخبارات ضمن رتبة أقل بكثير مما يتصورها الجمهور العادي، فرئيس الوزراء الإسرائيلي السابق شيمون بيريز، الذي جاء للسياسة من بوابة الخدمة العسكرية، مزج بين العسكرة والسياسة، يوضح دور الاستخبارات في دراسة نشرتها كلية الدفاع الوطني بتل أبيب بعنوان "مزايا وعيوب الاستخبارات في أعين قادة الدولة" قائلاً: "كقائد للدولة، قرأت تقارير الاستخبارات بنفس الطريقة التي أقرأ بها تقارير الإيكونوميست أو اللوموند أو نيويورك تايمز؛ إذ يمكن للمرء أن يتعلم الكثير من قراءة الصحف… فمصدر الاستخبارات المفتوح يكون في بعض الأحيان أكثر فائدة من المصدر الخفي. ينبغي على قائد الدولة أن يسعى جاهداً للحصول على معلومات متنوعة قدر الإمكان، وفي النهاية عليه أن يثق في حكمه".
إن الأمثلة السابق ذكرها توضح أن أجهزة الاستخبارات ليست كائنات أسطورية تعرف الأحداث دوماً قبل وقوعها، بل تختلط عليها المعلومات، وترتكب ما يرتكبه البشر من أخطاء. وتوضح واقعة كيسي بخصوص السادات التي حدثت قبل أربعين سنة كيف أن وسائل الإعلام حتى قبل ثورة الاتصالات والمعلومات الأخيرة تمكنت من الوصول للخبر الصحيح قبل الـ"سي آي إيه". إن من المهم فهم أدوار تلك الأجهزة دون تهويل أو تهوين، فبالتأكيد مثلما لها إخفاقات فلها نجاحات، لكن من المهم استصحاب أنها في جوهرها نشاط بشري يصيب ويخطئ.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.