عُرفت القهوة قبل فترة الحكم العثماني في بلاد اليمن والحبشة، ثم انتقلت إلى الحجاز وبلاد الشام والأناضول ومصر. وقد أثار دخول القهوة مدينة دمشق في مطلع القرن السادس عشر الميلادي الجدل الفقهي حولها. ويشير نجم الدين الغزي إلى كيفية انتشار القهوة في الحواضر الشامية، وينسب الفضل في انتشارها إلى الحجيج وتجار جنوب الجزيرة العربية، وإلى رجال الطرق الصوفية وتحديداً إلى الطريقة الشاذلية وأبو بكر العيدروس الشاذلي. وهناك من رأى أن الشيخ سعد الدين علي بن محمد العَرّاق هو الذي جلب القهوة إلى دمشق عام 1540م. ويشير ابن طولون في كتابه مفاكهة الخلان إلى أن القُضاة تجادلوا طويلاً حول مشروعية شربها، وأخذوا على عاتقهم تعقب شاربي القهوة، وقد أفتى مفتي دمشق قطب الدين محمد بن سلطان الحنفي بتحريمها. ولم يقتصر منع القهوة في دمشق فقط بل مُنعت بمدينة حلب، على يد القاضي صالح جلبي أيضاً. وكان وجه التحريم عندهم أنها تُقَدم بطريقةِ شرب الخمر آنئذ.
ويكشف ابن طولون عن انتشار عادة تناول القهوة في أكثر من مكان في دمشق، ويذكر محمد الأرناؤوط أن حوانيت القهوة بدأت تبيع القهوة خارج البيوت من بداية عام 1540م. ورأت المؤرخة الفرنسية بريجيت مارينو أن أقدم مقهى شُيد في دمشق هو الذي بناه والي الشام مراد باشا وضمنه ضمن وقفه عام 1595م قرب الجامع الأموي، فيما رأى الأرناؤوط استناداً إلى وقفية أحمد باشا أن تأسيس المقاهي سبق ذلك التاريخ، فكان موقع المقهى الأول في سوق الأروام. وفي النصف الثاني من القرن السادس عشر الميلادي، وحسب ما ذكر نجم الدين الغزي (توفي: 1651) بأن القهوة أصبحت تشرب خارج البيوت، ويعود الفضل في إشهارها بدمشق إلى علي بن محمد الشامي (ت: 1555م) الذي جاء في ترجمته أنه "أشهرَ شُرب القهوة بدمشق فاقتدى به الناس، وكثرت من يومئذ حوانيتها".
بدا أن القهوة لم تعد مسألة شرابٍ وأماكن مثيرة كما كانت سابقاً، ولم تعد تُطرح على أنها مشكلة أمام رجال الدين أو الأدب في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي، بل على العكس انصب اهتمام العلماء آنذاك على الجانب التاريخي لها، وخصوصاً لمن كانوا يبحثون في الميراث الشعبي العربي. وضمن هذا المنظور التاريخي أنشأ الشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي رسالة الدراسات العليا في تاريخ القهوة عام 1904. فهو يحكي أن القهوة وشربها المتكرر كان يسبب فقدان الشهية والأرق، وبدوره أكد تأثيرات شرب القهوة الحسنة، ولا سيما في إنعاش الفكر من أجل الدراسة أو الصلاة. فهو في النهاية رآها مشروباً مباركاً نتيجة خصائصها التي تُثير النشاط والتفوق في العمل الفكري، لذا فهي شراب أهل الأدب والمدرسين والعلماء وغيرهم.
أصبحت مقاهي دمشق مكانًا يجتمع فيه مختلف فئات المجتمع ويتجلى فيه الفعل اليومي بضوابط أخلاقية واعية، وعبر فضاءات المقاهي المفتوحة كان يتحول المكان إلى مجال بصري وسمعي يجد فيه أفراد المجتمع متنفساً يعبرون فيه عن ثقافتهم وحبهم للحرية والنقاش العميق والترفيه الاجتماعي.
وفي الربع الأول من القرن العشرين، أخذ رواد المقاهي تتنوع انتماءاتهم في حواري دمشق، وزالت تلك النظرة الجدلية لجلاسه، كما بدأت المرأة تظهر فيها، وبخاصة السائحات، إلى جانب المثقفين والسياسيين الدمشقيين أو من مدن سوريا الأخرى، وبخاصة في مقهى النوفرة خلف الجامع الأموي. ويؤكد محمد الرباط (صاحب المقهى) أنه ورث مقهى النوفرة عن والده، مشيراً إلى أن المقهى بقي يحتفظ بتقاليده القديمة منذ تشييده قبل ثلاثة قرون وحتى نهاية القرن العشرين، حيث يأتي الحكواتي كل مساء ليقص على الحاضرين سيرة عنترة بن شداد وأبي زيد الهلالي والظاهر بيبرس. وهناك مقهى الكمال الذي كان من أبرز رواده الشاعر العراقي أحمد صافي النجفي وخليل مردم بك، ومقهى الهافانا قرب جسر فكتوريا الذي اشتهر في عقدي الخمسينات والأربعينيات من القرن الماضي، وإلى جانب ذلك اشتهر مقهى الروضة قرب مجلس النواب السوري، والذي كان يجلس فيه النواب والأدباء وزعماء الأحزاب ورواد الأدب وأهل الفن والشعر وغيرهم.
فكانت فترة النصف الأول من القرن العشرين العصر الذهبي للمقاهي الأدبية والسياسية والترفيهية، وكان معظمها يقع على ضفاف نهر بردى الذي كان يخترق المدينة بأفرع سبعة. وغدا المقهى الدمشقي منتدىً ثقافيًا وسياسيًا واجتماعيًا كبيرًا لعددٍ كبيرٍ من الأدباء والمثقفين والسياسيين، واستطاع هؤلاء التعبير عن رأيهم بكل صراحة، وسط هامشٍ مدني وفرته الحياة السياسية بعد مرحلة الاستقلال الأولى لجميع التيارات التي برزت في مقاهي دمشق بتلك المرحلة، بالرغم من وجود عدد من الوشائين والمخبرين الذين استغلوا الظروف والأحداث التي مرت بها بسوريا منذ بدايات العهد الفرنسي ليعكروا المزاج الثقافي والذوق الترفيهي الرائع، وهؤلاء ظلوا يؤدون دورهم حتى يومنا هذا. السؤال هنا: كيف غدت المقاهي السياسية والشعبية المشهورة في وسط دمشق؟ هل لا تزال تقوم بدورها أم غاب صوت روادها وقاصديها؟
نعم لقد انتهى دور المقاهي السياسي والاجتماعي والثقافي مع وصول الأسد الأب لحكم دمشق، وتعرضت مقاهي العاصمة للسطو الأمني والمضايقات التشبيحية المستمرة. وبعد عام 2011 غلبت لغة النار والبارود وشوّشا المزاج العام، فكانت العقود الأخيرة السابقة إيذانًا بعقم المثقف والسياسي والوجيه في سوريا، واختفت تلك الأجواء واللقاءات الصباحية والمسائية العامرة التي تلذذ بها الشعراء والكتاب والسياسيون وأصحاب المهن والتجار والأعيان في دمشق العريقة عبر تاريخها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.