مبدعة في التدمير، فاشلة في البناء.. هكذا أصبح الفشل عنوان النخب التونسية

عربي بوست
تم النشر: 2022/02/02 الساعة 14:40 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/02/02 الساعة 14:40 بتوقيت غرينتش
الرئيس التونسي قيس سعيّد في اجتماع مع المجلس الأعلى للجيوش

هذا اليوم الأسود على كل ظالم كان حلم كل تونسي يوم اندلعت أحداث الثورة التونسية ذات يوم في ديسمبر/كانون الأول من سنة 2010، وبدأ يتوهم تحقُّق حلمه حين غادر الرئيس السابق "بن علي" ذات يوم من شهر يناير/كانون الثاني 2011. لقد ظن الشعب التونسي أنه وصل إلى طريق الأمان من الظلم والقهر، ويحق له أن يقول: لا ظلم بعد اليوم، بعد أن كان هذا القول مجرد شعار في بيان استيلاء "بن علي" على السلطة. هكذا تصوَّر الشعب التونسي أنه حان وقت تجاوز سنوات الرعب، والقهر، والظلم، والطغيان، والعبودية، وأنه قد حانت سنوات العدل، والكرامة، والحرية، والحق، وأنه قد حان وقت التوزيع العادل للثروة وتحقيق العدالة الاجتماعية بعد التحرر من رموز الفساد الجاثمين على الدولة والمتحكمين في الثروة… هكذا ظن الناس في تونس.

لكن الرياح جرت بغير ما يشتهي الشعب التونسي. لقد تسلمت نخبة جديدةٌ السلطة مع نهاية 2011 كنتيجة لانتخابات المجلس الوطني التأسيسي، وكان الظن حينها أنه لا أحد سيحكم، بل سيتم تكليف حكومة كفاءات وطنية تركز على الناحية الاقتصادية، على أن يشتغل المجلس ونوابه على الدستور الجديد. ولكن هيهات للوافدين من المشارب الفكرية والأيديولوجية المختلفة أن يتركوا هوس السلطة الذي بدأ يؤثر على الجميع ويُثيرهم بالرغبة الوحشية في الحكم والتسلط.

وتشكلت حكومة أُولى من تحالف هجين بين الإسلاميين والعلمانيين، ومن هنا بدأ الصراع على السلطة بين الثالوث المُشكِّل لهذا التحالف قبل أن يمتد للقوى السياسية والاجتماعية خارجه، لتدخل البلاد في نفق مظلم من الصراع السياسي والأيديولوجي المحموم على الحكم والتسلط على رقاب الخلق. صراع كان من نتائجه الاغتيالات السياسية والإرهاب المسلَّط على القوات الأمنية والعسكرية، وانهيار المؤسسات الاقتصادية عبر عشرات الآلاف من الإضرابات التي لم تحدث طوال التاريخ البشري السابق، وانتهت هذه المرحلة المرعبة بالحوار الوطني والاتفاق أخيراً على الدستور وبداية الاستقرار السياسي بانتخابات 2014، أو هكذا ظن الناس في تونس.

في نهاية انتخابات 2014 تسلَّم المرحوم الباجي قائد السبسي الرئاسة، وتسلَّم حزبه "نداء تونس" الحكم بعد الفوز بالأغلبية. وحفاظاً على استقرار الحكومة تحالف الرئيس وحزبه مع حركة النهضة بحيث كانت لهما أغلبية نيابية مُريحة في مجلس النواب تسمح لهما بممارسة الحكم والبدء في حل المشاكل الحقيقية للشعب المتعلقة بالعدالة الاجتماعية وتحقيق الرفاه، بعد أن ظن الناس أن دولة القانون ستسود. بيد أن هذه النخبة التي كادت تصل بالبلاد للحرب الأهلية سنة 2013 عادت لعادتها القديمة في التكالب على السلطة والرغبة المهووسة في تقاسم كعكتها دون اعتبار للدوافع التي دفعت الناس إلى انتخابهم. وعوض خدمة الشعب أصبح همهم الوحيد خدمة مصالحهم الخاصة، وعادت ريمة لعادتها القديمة، ودخلت تونس من جديد في النفق المظلم نفسه للصراع حول السلطة والتقاتل المحموم بين الأيديولوجيات المختلفة التي تتوهم كل واحدة منها أنها تملك الحقيقة وأنها الأقدر على قيادة البلاد، في حين أنه ولا واحد منها يملك مشروعاً غير الرغبة المحمومة في السيطرة المطلقة على السلطة وإبادة الآخر المختلف.

وهذه النزعة التدميرية تتجلى في كل مؤسسة مهما كان حجمها، وُجد بها هؤلاء المتصارعون، فتعطلت المؤسسات الاستراتيجية للدولة وأُهدِرت المصالح الاقتصادية لتونس حتى فقدت الأسواق التقليدية لمنتجها من المواد الأولية والصناعية، وزادت ديونها، وأصبحت الحكومات المشلولة همّها التداين لخلاص أجور موظفيها واستيراد المواد الأساسية؛ حتى لا يجوع الناس. وهؤلاء دمروا أو ساهموا في تدمير كل مؤسسة، أو جمعية، أو حزب، أو حركة، أو جبهة مروا بها. كأنهم جراد منتشر لا يُبقي ولا يذر.

سنة 2019 أجريت انتخابات جديدة اختار فيها الشعب التونسي بأغلبية مريحة، رئيساً من خارج هذه النخبة، متوسماً فيه القدرة على تغيير الوضع والضغط على مجلس نواب الشعب والحكومة حتى تركز على المعضلة الاقتصادية التي بدأت تظهر بوادر تهديدها للأخضر واليابس. رئيس يعطيه الدستور جملة من الصلاحيات التي تسمح له بكل وسائل الضغط لدفع الحكومة- ومهما كانت أغلبيتها- إلى التركيز على الهم الاقتصادي ومحاولة إنقاذ مستقبل الأجيال القادمة. فالرئيس يسهر على احترام الدستور، وباعتبار أن الدستور يلزم الحكومة بالاهتمام بالتنمية، وإنتاج الثروة، والمحافظة على الثروات الباطنية، ويلزمها بتوفير الشغل، والحرية، والكرامة لشعبها. فإن الرئيس بصفته الساهر على احترام الدستور واستقلال الدولة واستمرارها، فإنه كان بإمكانه استعمال هذه الصلاحية لإجبار الحكومة على الاهتمام بالشأن الاقتصادي والاجتماعي، وليس البقاء في مربع الصراع السياسي المحموم على الحكم والتسلط. ولأنه من خارج الصندوق فإن هذه الصلاحية وحدها كافية لإجبار الجميع على العودة للاهتمام بالاحتياجات الحقيقية للشعب، والقيام بالإصلاحات الرئيسة في الاقتصاد والمجتمع، والتربية، والتعليم، والثقافة.

إن الصلاحيات الأخرى للرئيس، كرئاسة مجلس الأمن القومي مثلاً، تعطيه القوة اللازمة للضغط على أية حكومة مهما كانت الأطراف التي تشكلها، ومهما كانت قوتها في الميدان، فلا شيء في الحقيقة أقوى من الأمن القومي.

كما أن سيطرة الرئيس على السياسة الخارجية تسمح له بالقيام بالدبلوماسية الاقتصادية، والمساهمة المباشرة في جلب الاستثمار، والمساهمة في الحد من البطالة، وهو أمر سيُحرج أية حكومة، ويدفعها إلى العودة للأرض لتنقذ نفسها من الازدراء الشعبي، بل إن الدستور يعطيه حق حلها إن لزم الأمر. وللرئيس سلاحان مهمان: الأول أنه الوحيد الذي يختم القوانين بحيث يمكنه رفض أي نص قانوني يراه مناقضاً لعهد النواب مع الشعب التونسي، والثاني أن بإمكانه عرض القوانين على الاستفتاء، وهو سلاح مهم في إحراج الحكومة، ودفعها للركون إلى الحل الوسط مع الرئيس.

باختصار، لقد كان بإمكان الرئيس أن يقوم بكل ما يريد داخل الدستور، وفي إطار الحفاظ على الدولة وتحقيق الأهداف التي انتخبه الشعب لأجلها، ولكنه هو أيضاً دخل في لعبة الصراع المحموم على السلطة وترذيل الممارسة السياسية؛ لدفع الناس إلى الزهد في الحرية، والكرامة، والديمقراطية، أمام الحاجة للخبز.

لقد كانت النخب السياسية التي سادت بعد الثورة التونسية نخباً سياسية فاشلة، ولا تملك أي مشروع بنّاء، ولكنها كانت مبدعة في التدمير. ويوم 25 يوليو/تموز 2021، ظن الناس أن الأمر سيكون أفضل، ولكنهم اليوم اكتشفوا أن الفشل معمَّم… إن تونس تعيش اليوم عصر الفشل المعمَّم.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

الصحبي الماجري
أستاذ فلسفة ومدوّن تونسي
أستاذ فلسفة ومدوّن تونسي
تحميل المزيد