ثمة علاقة واضحة بين النشاطات والجهود التي بذلتها السلطة الفلسطينية خلال الفترة الماضية، والخيط نفسه يصل بين لقاء رئيسها محمود عباس ووزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس، أواخر ديسمبر/كانون الأول الماضي، ومدير مخابراتها ماجد فرج، ثم مسؤول الشؤون المدنية فيها حسين الشيخ مع وزير الخارجية يائير لابيد في تل أبيب أيضاً، ثم زيارة عباس إلى شرم الشيخ، أوائل يناير/كانون الثاني الجاري للقاء نظيره المصري عبد الفتاح السيسي، وإرساله في نفس الأسبوع أمين سر مركزية حركة فتح جبريل الرجوب إلى دمشق، لنقل رسالة إلى بشار الأسد، ولقاء قادة الفصائل الفلسطينية هناك، ومن ثم انتقاله إلى بيروت للقاء حلفاء نظام الأسد في تكريس قواعد سيئة الصيت، تفيد بأن الطريق إلى استمالة الفصائل المعارضة يمر بنظام الأسد، كما الطريق إلى بيروت أيضاً، في استعادة لزمن الوصاية سيئة الصيت في عقد التسعينيات الماضي.
في الحقيقة لا يمكن فهم اللقاءات والمعطيات السابقة ووضعها في سياقها السياسي الطبيعي دون الانتباه إلى تآكل شعبية وحتى شرعية السلطة الفلسطينية، وبشكل متسارع خلال السنة الماضية. سياسياً إثر هروبها من الانتخابات الرئاسية والتشريعية رغم وضعها لمحددات وقواعد وشروط الانتخابات وانكشافها وعزلتها وانفصامها عن الشارع ومزاجه العام أثناء هبة القدس ومعركة سيفها. واقتصادياً واجتماعياً نتيجة أزماتها المتعددة العائدة إلى جائحة كورونا، وتراجع الدعم المالي العربى والغربي والدولي، والمحصلة أن السلطة عجزت عن دفع الرواتب كاملة لموظفيها، وتقديم الخدمات اللائقة للناس، وحتى عن حمايتهم في مواجهة انفلات المستوطنين وجيش الاحتلال، وباتت بالتالي في أسوأ وضع لها منذ تأسيسها، ووصلت فعلاً إلى حافة الانهيار، إثر انكشافها متعدد الأشكال والمستويات.
بناء عليه هبَّت قوى إقليمية ودولية مختلفة بقيادة أمريكية إسرائيلية -ومشاركة مصرية- لإنعاشها وإنقاذها، ووصل الأمر إلى درجة أن يقود وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس شخصياً لا (وزير الخارجية لابيد مثلاً) حملة سياسية ودبلوماسية لإقناع دول أوروبية باستئناف دعمها المالي للسلطة، لتفادي انهيارها السياسي والاقتصادي.
في هذا السياق جاءت اجتماعات عباس- غانتس، أغسطس/آب، ثم ديسمبر/كانون الأول، ولقاءات مساعديه ماجد فرج وحسين الشيخ مع وزير الخارجية يائير لابيد، حيث سعى عباس إلى إعادة الاعتبار للسلطة كقيادة شرعية للفلسطينيين، حتى مع خلوّ اللقاءات من أي ملفات أو أفق سياسي، وإقراره أو قبوله بدعم إسرائيلي أمني واقتصادي للسلطة، بدا "أبو مازن" هنا وكأنه يقبل ببقائها بحد ذاته حتى دون بصيص ضوء سياسي في آخر النفق، حسب تعبيره الشخصي، مع تخلٍّ تام فيما يخص الهدف الاستراتيجي النهائى لها، المتمثل في الانتقال من مرحلة السلطة إلى الدولة والاستقلال الناجز.
لقاء السيسي في شرم الشيخ أتى في نفس السياق، وللمرة الثانية تعمد عباس الذهاب إلى مصر عقب لقائه غانتس، بعدما كان قد فعل نفس الأمر أواخر أغسطس/آب الماضي، والهدف نفسه دائماً، ويتمثل بكسب شرعية خارجية للسلطة عبر اللقاء مع زعيم أكبر دولة عربية. وفي السياق، فرض نفسه كلاعب في غزة، ولو من بعيد، تحديداً فيما يخص حوارات التهدئة وإعادة الإعمار، ولا يقل عن ذلك أهمية فتح قناة مباشرة مع
إسرائيل، حيثما استطاع، بعيداً عن الوساطة المصرية، ثم طلب مساعدة القاهرة للجهود التي تقودها السلطة نفسها عبر قناة فلسطينية إسرائيلية مباشرة.
في هذا الصدد لا بد من الإشارة إلى أن عباس لا يثق كثيراً بالوساطة المصرية، لا في غزة ولا مع إسرائيل، ويعرف أن النظام يبحث عن مصلحته مع أمريكا تحديداً بعد الحرب الأخيرة التي أعادته ولحسابات فئوية ضيقة إلى المشهد الإقليمي، وهو يتذكر جيداً الضغوط المصرية عليه، لدرجة احتجازه وتأخير سفره من العاصمة المصرية ذات مرة، لإجباره على التصالح مع منافسه رجل القاهرة وأبوظبي، القيادي الفتحاوي المفصول محمد دحلان، وأخيراً اضطر عباس للتعاطي مع توسيع الوساطة المصرية بناء على طلب أمريكي كي لا تقتصر على غزة، وإنما تشمل الملف الفلسطيني بشكل عام، علماً أنه ولأسبابه الذاتية لا يقبل بما تقبل به حماس (لأسبابها الخاصة ولواقع غزة)، ويحاول التصرف بصفته القيادة الرسمية للشعب الفلسطيني، ناهيك طبعاً عن تساوق القاهرة مع خطه ونهجه القائم على العمل السياسي والدبلوماسي.
سعى عباس بوضوح لاستجداء الشرعية الحزبية والرسمية، حتى من نظام بشار الأسد، الفاقد الحيلة، وبدا الطريق إلى استمالة الفصائل وجذبها إلى صفّه وكأنه يمر عبر إرضاء ومغازلة الأسد، بينما جاء الانتقال إلى بيروت، ولقاؤه حلفاء النظام وكأنه اجترار للقاعدة القائلة إن الطريق إلى بيروت يمر بدمشق، كما كان الأمر زمن الوصاية سيئة الصيت، التي تركت البلد الصغير والجميل مدمراً ومنقسماً وعلى حافة الحرب الأهلية.
أما طلب مساعدة دعائية من النظام المصري فيما يخص خلق مسار يؤدي إلى استئناف المفاوضات وعملية التسوية مع إسرائيل -كما جاء فى إعلان الناطق باسم الرئاسة المصرية- فخداع للنفس وتذاكٍ ليس إلا، وعباس يعرف كالسيسي ألا فرصة لحدوث ذلك، وهو ما سمعه مباشرة من غانتس ولابيد، وعبر تصريحات علنية لأركان الحكومة الإسرائيلية، بينما وصل لابيد إلى حد القول إنه لا مفاوضات مع السلطة حتى مع استبداله نفتالي بينيت في رئاسة الوزراء بعد عامين تقريباً.
عشنا نفس المشهد أيضاً مع إرسال أمين سر مركزية فتح، جبريل الرجوب، إلى دمشق وبيروت، لنقل رسالة إلى الأسد ولقاء حلفائه الفلسطينيين واللبنانيين. بدا اللقاء مع بشار ومحور الممانعة فجاً، وهدف لتبييض لقاءات عباس ومساعديه مع غانتس ولابيد، وحتى تبييض صفحة السلطة نفسها المنفصلة، العاجزة عن حماية ونجدة مواطنيها وقبولها بمجرد البقاء دون أفق سياسي، بل والمضي قدماً في التنسيق الأمني ضد المقاومين، خاصة في الضفة الغربية.
هنا أيضاً سعى عباس بوضوح لاستجداء الشرعية الحزبية والرسمية، حتى من نظام بشار الأسد، الفاقد الحيلة، وبدا الطريق إلى استمالة الفصائل وجذبها إلى صفّه وكأنه يمر عبر إرضاء ومغازلة الأسد، بينما جاء الانتقال إلى بيروت، ولقاؤه حلفاء النظام وكأنه اجترار للقاعدة القائلة إن الطريق إلى بيروت يمر بدمشق، كما كان الأمر زمن الوصاية سيئة الصيت، التي تركت البلد الصغير والجميل مدمراً ومنقسماً وعلى حافة الحرب الأهلية.
في جولة الرجوب، خاصة الشق اللبناني منها، رأينا محاولة لمماحكة واستفزاز حماس بعد الزيارة الأخيرة لمسؤولها في الخارج خالد مشعل إلى بيروت، ومقاطعة حزب الله وحلفائه للزيارة سياسياً وإعلامياً، مع الزعم بأن الأمر لا يتعلق بحماس غزة، وإنما بمشعل فقط أو حماس الخارج "الإخوان"، كما قالت مصادر حزب الله ومنابره الإعلامية.
وهنا أيضاً تبدت السوريالية في ظهور جبريل الرجوب المنسق مع إسرائيل على طريقته ولو -بتصريح vip- والقيادي في سلطة أوسلو أقرب إلى محور الممانعة من مسؤول الخارج بحركة المقاومة الإسلامية وأحد مؤسسيها ورئيس المكتب السياسي العام سابقاً.
في كل الأحوال تعبر نشاطات ولقاءات السلطة الأخيرة وسعيها اليائس لتبيبض صفحتها والبحث عن شرعية وهمية زائفة لها في الخارج عن الأزمة لا الحل، وببساطة واختصار يبقى الأهم والحاسم دائماً فيما يجري بالداخل الفلسطيني، حيث احتضار، بل موت، مشروعها السياسي "ولو سريرياً"، وعجزها عن توفير الحد الأدنى من الحياة الكريمة للناس، حتى في السياق الاقتصادي والاجتماعي الذي قبلت به، علماً أنها لا تريد أن تفهم أن هذا لا يمكن تحقيقه دون مشروع سياسي يضمن زوال الاحتلال، الأمر غير المتاح بالنهج الحالي شكلاً ومضموناً، ما يعني حتمية التغيير، كون قيادة عباس وصلت أصلاً إلى نهاية طريقها ورحيلها بات مسألة وقت فقط.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.