بعدما انكسر أحمد عرابي وانهزمت الثورة العرابية باحتلال الإنجليز لمصر، وقع جيل شباب الثورة العرابية في "سنوات التيه والحيرة". فلا هم طاولوا حلمهم ولا هُم حقَّقوا أمانيهم، وانتهى الحال بالزعيم المغلوب المغدور وأصدقائه منفييّن في سريلانكا.
كان سعد زغلول قد هاجر من قريته في كفر الشيخ قبل سنوات إلى القاهرة، متقلِّباً في أحشاء ودروب العاصمة من الدراسة في الأزهر إلى "قهوة متاتيا" بميدان العتبة التي كانت مقرّ بعض جلسات جمال الدين الأفغاني وتلاميذه وعلى رأسهم محمد عبده. وقد عمل سعد زغلول مع محمد عبده صحفياً في "الوقائع"، ثمّ لمّا قامت ثورة عرابي انضمَّ لها سعد زغلول بكامل وجدانه، وتلكَّأ الشيخ محمد عبده قليلاً، ومع حصار الإنجليز لمصر انضمّ الشيخ نهائياً للثورة العرابيّة. لكن مع الهزيمة هناك شيء ما فقده سعد زغلول وجيله.
انطوى الجيل على نفسه أكثر مع مرور الزمن، وأصبح الجيل التائه أمام واقعٍ لا يرحم: فإمّا الاندماج في مجتمع السراي والإنجليز أعداء الوطن الذين احتلُّوه بمساعدة الخديوي توفيق الخائن، أو الارتكان إلى مبادئهم الثورية والوطنية التي مضى عليها الواقع وتجاوزها.
ما إن انهزمت الثورة العرابية ونُفِيَ الزعيم، حتّى قرَّر سعد زغلول الانتقام -وهو آنذاك في الثالثة والعشرين- ممّن هزموا عرابي أو خانوه، وشارك في تأسسس جمعيًّة سريّة سماها "جمعيّة الانتقام"، سُرعان ما قُبض على أعضائها، ونفي البعض وسجن آخرون، ومن بينهم سعد، وفُصِلَ من وظيفته.
حلّ التيه على جيل الشباب الذين شاركوا في ثورة عرابي وأصيبوا بالاكتئاب السياسي. وهذا ما يظهر في رسالةٍ كتبها سعد زغلول وكان في العشرينيات من عمره حينها، كتبها للأستاذ الإمام محمد عبده الذي كان في منفاه في بيروت. كتب سعد: "مولاي: ذكرتُ لحضرتك أنّ الضّعف أَلمّ بفكري فبالله ألَا ما قوّيته بتواصُلِ المُرَاسَلة غير تاركٍ فيها ما عوّدتنا على سَمَاعِه من النّصائح والحكم الذي نهتدي به إلى سواء السبيل، ونتمكّن بها من السّيرِ في العالم المصري الذي اختبرت حقائقه وعرفت خلائقه، وما يناسبها من ضروبِ المُعاملة".
انطوى الجيل على نفسه أكثر مع مرور الزمن، وأصبح الجيل التائه أمام واقعٍ لا يرحم: فإمّا الاندماج في مجتمع السراي والإنجليز أعداء الوطن الذين احتلُّوه بمساعدة الخديوي توفيق الخائن، أو الارتكان إلى مبادئهم الثورية والوطنية التي مضى عليها الواقع وتجاوزها. ويظهر هذا التيه الحقيقي والحيرة المُمِضَّة من تلك الرسالة التي أرسلها سعد زغلول للإمام محمد عبده.
فعلاوةً على نفي القائد عرابي نُفِي أيضاً رموز الوطنية المصرية أمثال البارودي وعبدالله النديم، وهكذا أصبح الجيل بلا قائدٍ ثوريّ وبدون غطاءٍ روحيٍّ أيضاً بغياب الشيخ محمد عبده. صاروا بلا وجهة، ولا بوصلة إلَّا بوصلة الماضي متمثِّلاً في الثورة العرابيّة المجيدة.
أحمد فتحي زغلول، الأخ الأصغر لسعد زغلول، كان أحد خطباء ثورة عرابي وعندما فشلت الثورة أُقِيل من المدرسة بقرارٍ من الوزارة، فالتحقَ بمدرسة الألسن بعدما غيَّر اسمه ثمّ سافر إلى أوروبا ليدرس القانون، وعندما عاد بعد 4 سنوات عُيِّنَ في القضاء وتدرّج في مناصبه حتّى وصل إلى منصبٍ حسّاسٍ وكبير: رئيس محكمة مصر الابتدائية.
ترافع الهلباوي، أشهر محامٍ في برّ مصر حينها والذي كان المصريون يستخدمون اسمه في أمثالهم الشعبية فخراً به، ترافع الهلباوي ضدّهم وساهم في العسف الإنجليزي ضدّ بلاده. وتراجع هو لاحقاً عن موقفه ودافع عنه بأنه أراد أن يخفِّف الأحكام على المتهمين، وأن يدافع عن الخديوي عباس حلمي الثاني.
ومن أعاجيب الزمان وتقلّباته أن صار أحمد فتحي زغلول الثائر وأحد خطباء الثورة العرابية قاضياً في محكمة دنشواي يحكم على المصريين إلى جانب سلطات الاحتلال!
لم يكن أحمد فتحي زغلول هو الوحيد في هذا الموقف، فإذا كان منصبه الرسميّ يُحتِّم عليه أن يكون ضمن القضاة الأربعة لمحكمة الاحتلال الهزليّة، فلم يكن هذا موقف رجلٍ آخر اسمه إبراهيم الهلباوي، ذلك الرجل "الوطنيّ" الذي سمّاه المصريون "جلّاد دنشواي".
وقف الهلباوي في المحكمة مدافعاً عن الضبّاط والجنود الإنجليز في مواجهة أبناء وطنه المظلومين من أهل دنشواي المنكوبة، وقف يقول في مرافعته: "الوجود الإنجليزي لمصر حرَّر المواطن المصري وجعله يترقَّى ويعرف مبادئ الواجبات الاجتماعية والحقوق المدنية.. هؤلاء السفلة وأدنياء النفوس من أهالي دنشواي قابلوا الأخلاق الكريمة للضباط الإنجليز بالعصيّ والنبابيت، بعد أن مضى على الإنجليز بيننا 25 عاماً ونحن معهم في إخلاصٍ واستقامة".
هكذا ترافع الهلباوي، أشهر محامٍ في برّ مصر حينها والذي كان المصريون يستخدمون اسمه في أمثالهم الشعبية فخراً به، ترافع الهلباوي ضدّهم وساهم في العسف الإنجليزي ضدّ بلاده. وتراجع هو لاحقاً عن موقفه ودافع عنه بأنه أراد أن يخفِّف الأحكام على المتهمين، وأن يدافع عن الخديوي عباس حلمي الثاني.
تحوّلت البوصلة أو صارت من الماضي. فقد تاهت ذكريات الثورة العرابية والنضال من أجل الوطن في دوّامة الألقاب الفخريّة والمناصب الكبرى والعلاقات بالخديوي والسراي أو حتّى بالإنجليز أنفسهم.
وحتّى سعد زغلول باشا الذي بالطبع صُدِم عندما تغيّر موقف أستاذه محمّد عبده من الثورة العرابية بعدما عاد من منفاه، اندمج أكثر وأكثر في الوَسط السياسي اللاوطني. فقد تزوّج صفيّة مصطفى فهمي، وهي ابنة رئيس الوزراء مصطفى فهمي باشا، وهو رئيس وزراء الاحتلال، تولّى رئاسة الوزراء 13 عاماً. ويعتبره المؤرخون "أطوع" رئيس وزراء مصري للاحتلال. ناسبه سعد زغلول باشا عام 1895.
وفي أوساط النخبة تعرّف سعد زغلول على الأميرة نازلي فاضل، وانضمّ إلى صالونها الثقافي الذي كان يحضره أحياناً اللورد كرومر، المندوب السامي البريطاني والحاكم الفعلي لمصر في تلك الفترة. وفي لحظات الفراغ التي عاينها سعد زغلول لعب القُمار في قصور "أولاد الذوات" والباشاوات، بعدما أصبح واحداً منهم.
وبعد حادثة دنشواي قرّر اللورد كرومر أن يقفز خطوةً للأمام بتعيين سعد زغلول وزيراً للمعارف (التعليم)، وكان بهذه الخطوة يحاول أن يُضمِّد جراح القوى الوطنية جرّاء ما أصابها بعد حادثة دنشواي الآثمة.
نعم قَبِلَ سعد زغلول باشا أن يكون وزيراً في وزارة للاحتلال بقيادة رئيس الوزراء بطرس غالي باشا الذي اغتالته لاحقاً رصاصات البطل الوطني إبراهيم الورداني. صار سعد وزيراً للمعارف. لكنّه استطاع خلال وزارته أن يفرض خطّته لتوسيع نطاق التعليم في مصر وبناء كوادر مصريّة في الوزارة، وكذلك التضييق على "مستر دنلوب" مستشار وزارة المعارف الإنجليزي. ثمّ لاحقاً صار وزيراً للحقانية (العدل)، وأيضاً في وزارة الاحتلال.
لكنّ أبرز موقِفَين له اعتبرته بعض القوى الوطنية الأخرى مقترباً من الاحتلال والنخبة السياسية الفاسدة، أنه دافع عن "قانون المطبوعات" الذي يضيّق ويَحُدّ من حريّة الصحافة. والموقف الآخر عندما ضغط الاحتلال على الحكومة (التي هو أحد أعضائها) لمدّ اتفاقية الانتفاع بقناة السويس 40 سنة أخرى مقابل مناصفة الحكومة المصرية في الإيرادات.
كانت الاتفاقية تنتهي عام 1968، ومدّها يعني أنّ بريطانيا ستظلّ تنتفع من قناة السويس حتى عام 2008.
ثارت الصحافة والقوى الوطنيّة، ما جعل الحكومة تقرّر عرض القرار على الجمعية العمومية (ما يشبه البرلمان) لإقرارها أو رفضها، وأرسلت الحكومة بالنيابة عنها وزيرها المفوّه سعد زغلول ليدافع عن مدّ الامتياز أمام الجمعية العمومية التي رفضته بالطبع، ولم يتمّ القرار. ونال سعد زغلول من النقد والتوبيخ الكثير في الصحافة الوطنية.
ويحكي العقّاد تبريراً لموقف سعد، أنه كان رافضاً لتمديد الاتفاقية، ودفع زملاءه في مجلس الوزراء لعرضها على الجمعية العمومية على أن ترفضها الجمعية العمومية فتكون الوزارة مجبرة بهذه المناورة على الرفض فلا يظل في يد الاحتلال ورقة يلعبها. وقد كان.
لكنّ هذا "الاكتئاب السياسي" في سنوات التيه، والانخراط شبه الكامل في الواقع والقواعد الفاسدة التي أرساها، لم يُنسِهِ أبداً أنه "قد مسّه الحلم مرّة"، وعندما حان الوقت وتحرّك الشعب أصبح سعد "زعيم الأمة"، بعد 37 عاماً من ثورة عرابي المهزومة. وصار بذلك "الرجل الكبير" الذي يخشاه الخديوي والإنجليز معاً، وتعشقه الجماهير عشقاً لا مزيد عليه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.