إذا كان الاستبداد لا يُرجى منه خير كما تبيّن من خلال بسط وتفصيل آثاره ومساوئه وخطورته على الإنسان والأمم، فما السبيل إلى التخلص منه؟ وهل يكفي فقط التخلص منه دون تحضير بديل له تصنعه الأمة وتنال به حريتها؟
قواعد الكواكبي لرفع الاستبداد
يقدم الكواكبي هذا السؤال بجملة قواعد أساسية لرفع الاستبداد، ويلخصها في ثلاث:
1- الأمَّة التي لا يشعر كلُّها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحقُّ الحريّة.
2- الاستبداد لا يقاوَم بالشِّدة إنما يُقاوم باللين والتدرُّج.
3- يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ما يُستَبدَل به الاستبداد.
1- القاعدة الأولى الأمَّة التي لا يشعر كلُّها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحقُّ الحريّة
إن مقدمة أي فعل مسؤول، إرادة قوية تحركه، ومقدمة هذه الإرادة القوية وعي يصنعها، ويؤسس للاقتناع بضرورة الفعل الذي بعدها، ومن هنا كان تركيز الكواكبي رحمه الله عن شرط وعي الأمة بمساوئ وأضرار الاستبداد ومحاسن التحرر منه، إذ بدون هذا الشرط يختل ميزان قواعد رفع الاستبداد، وقد لا تتذوق حلاوة التحرر، مادامت لم تعِ وتُشعره بقيمته عليها وعلى كرامتها وعزتها، يقول الكواكبي رحمه الله تعالى بهذا الصدد: "إنَّ الأمَّة إذا ضُرِبَت عليها الذِّلَّة والمسكنة، وتوالت على ذلك القرون والبطون، تصير تلك الأمَّة سافلة الطِّباع حسبما سبق تفصيله في الأبحاث السَّالفة، حتى إنَّها تصير كالبهائم، أو دون البهائم، لا تسأل عن الحرية، ولا تلتمس العدالة، ولا تعرف للاستقلال قيمة، أو للنظام مزية، ولا ترى لها في الحياة وظيفة غير التابعية للغالب عليها، أحسنَ أو أساء على حدٍّ سواء، وقد تنقم على المستبدِّ نادراً، ولكنْ، طلباً للانتقام من شخصه لا طلباً للخلاص من الاستبداد، فلا تستفيد شيئاً، إنما تستبدل مرضاً بمرض؛ كمغصٍ بصداع. وقد تقاوم المستبدَّ بسَوق مستبدٍّ آخر تتوسَّم فيه أنَّه أقوى شوكةً من المستبدِّ الأول، فإذا نجحت لا يغسل هذا السائق يديه إلا بماء الاستبداد، فلا تستفيد أيضاً شيئاً، إنما تستبدل مرضاً مزمناً بمرض حد، وربما تُنال الحرية عفواً، فكذلك لا تستفيد منها شيئاً؛ لأنَّها لا تعرف طعمها، فلا تهتمُّ بحفظها، فلا تلبث الحرية أن تنقلب إلى فوضى، وهي إلى استبدادٍ مشوَّش أشدُّ وطأةً كالمريض إذا انتكس، ولهذا قرَّر الحكماء أنَّ الحرية التي تنفع الأمَّة هي التي تحصل عليها بعد الاستعداد لقبولها".
2- القاعدة الثانية الاستبداد لا يقاوَم بالشِّدة إنما يُقاوم باللين والتدرُّج
ولأن الحرية التي تنفع الأمة كما قال الكواكبي هي التي تحصل عليها بعد الاستعداد لقبولها، نرى الكواكبي متناغماً في نظريته لرفع الاستبداد ولحصول التحرر، حيث ركز الكواكبي على شرط اقتناع الأمة بضرورة رفع ضرر الاستبداد، وهو أمر لا يحصل إلا بالارتقاء بالأمة بوعيها إلى مستوى شهودها، يقول الكواكبي رحمه الله: "الوسيلة الوحيدة الفعّالة لقطع دابر الاستبداد هي ترقّي الأمَّة في الإدراك والإحساس، وهذا لا يتأتى إلا بالتعليم والتحميس. ثمَّ إنَّ اقتناع الفكر العام وإذعانه إلى غير مألوفِه لا يتأتّى إلا في زمنٍ طويل، لأنَّ العوام مهما ترقّوا في الإدراك لا يسمحون باستبدال القشعريرة بالعافية إلا بعد التّروي المديد"[3]، إن إلحاح الكواكبي على شرط الارتقاء بوعي الأمة تحقيقاً لقابليتها لتقبل الحرية يُعد خيطاً ناظماً في فكره حتى يفلح التغيير المنشود في التخلص من ربق الاستبداد وحصول التحرر المرتجى للأمة، حيث نجده يرفض فكرة المقاومة العنيفة للاستبداد باعتبارها مقاومة متسرعة ولا تأتي بخير للأمة، ويؤكد على ترك الاستبداد يأخذ مساره الطبيعي نحو التفكك والأفول، يقول الكواكبي بهذا الصدد: "الاستبداد لا ينبغي أن يُقاوَم بالعنف، كي لا تكون فتنة تحصد الناس حصداً. نعم؛ الاستبداد قد يبلغ من الشدَّة درجة تنفجر عندها الفتنة انفجاراً طبيعياً، فإذا كان في الأمَّة عقلاء يتباعدون عنها ابتداءً، حتى إذا سكنت ثورتها نوعاً وقضت وظيفتها في حصد المنافقين، حينئذٍ يستعملون الحكمة في توجيه الأفكار نحو تأسيس العدالة، وخير ما تؤسَّس به يكون بإقامة حكومة لا عهد لرجالها بالاستبداد، ولا علاقة لهم بالفتنة".
3- القاعدة الثالثة يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ما يُستَبدَل به الاستبداد
وهي قاعدة جوهرية في نظرية التغيير المنشود، إذ ما ذا يعني استبدال استبداد باستبداد آخر؟، وما الفائدة التي يجنيها المجتمع بهذا الاستبدال الذي لا يأتي لا بتحرر ولا حرية؟ والأمة التي تقبل بهذا الاستبدال السيئ هي أمة بدون كرامة ومتمرغة في وحل العبودية وترفض التخلص منها، والكواكبي قد أصاب كبد الحقيقة في هذه القاعدة في نظرنا، وفي انسجامها مع القواعد الأخرى السالفة الذكر، يقول الكواكبي رحمه الله: "إنَّ الأمَّة إذا ضُرِبَت عليها الذِّلَّة والمسكنة، وتوالت على ذلك القرون والبطون، تصير تلك الأمَّة سافلة الطِّباع حسبما سبق تفصيله في الأبحاث السَّالفة، حتى إنَّها تصير كالبهائم، أو دون البهائم، لا تسأل عن الحرية، ولا تلتمس العدالة، ولا تعرف للاستقلال قيمة، أو للنظام مزية، ولا ترى لها في الحياة وظيفة غير التابعية للغالب عليها، أحسنَ أو أساء على حدٍّ سواء، وقد تنقم على المستبدِّ نادراً، ولكنْ طلباً للانتقام من شخصه لا طلباً للخلاص من الاستبداد، فلا تستفيد شيئاً، إنما تستبدل مرضاً بمرض؛ كمغصٍ بصداع.
وقد تقاوم المستبدَّ بسَوق مستبدٍّ آخر تتوسَّم فيه أنَّه أقوى شوكةً من المستبدِّ الأول"، لذا فتعبيد طريق تحرر الأمة ووضح مسارها يبتدأ أول ما يبتدأ لدى الكواكبي بضرورة تهييء البديل المنشود، الذي لا يحمل في جيناته بذور الاستبداد بقدر ما تكون بذور الحرية والانعتاق هي بذوره الأصلية، وهذا التهييء يفترض إشراكاً للأمة في صناعته، حتى يحظى بالقبول لديها ولدى الرأي العام، يقول الكواكبي رحمه الله: "إنَّ معرفة الغاية شرطٌ طبيعي للإقدام على كلِّ عمل، كما أنَّ معرفة الغاية لا تفيد شيئاً إذا جهل الطريق الموصل إليها، والمعرفة الإجمالية في هذا الباب لا تكفي مطلقاً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.