في تصريحات إعلامية لرئيس هيئة قناة السويس السابق إيهاب مميش في أغسطس 2016، قال إنه اتصل تليفونياً برئيس الجمهورية مساء أحد الأيام بشأن مشروع لتوسعة قناة السويس، وفي الصباح كلّمه الرئيس قائلاً له أن ينفذ المشروع، وهكذا وبدون أية دراسات تم تنفيذ مشروع التفريعة السابعة لقناة السويس في أغسطس/آب عام 2014، والتي سمّاها النظام المصري "قناة السويس الجديدة".
رغم أن طول التفريعة 35 كيلومتراً والتي يضاف لها تعميق مسافة 37 كيلومتراً من مجرى القناة بإجمالي 72 كيلومتراً، بينما طول المجرى الأصلي للقناة 193 كيلومتراً، فكيف تكون قناة سويس جديدة؟ وأصر الجنرال على تنفيذ المشروع خلال عام واحد ما اضطره لجلب شركات أجنبية بتكلفة أعلى.
ورغم بطء التجارة العالمية حينذاك، ما يعني حركة أقل للسفن بالقناة، فقد أصر على التنفيذ خلال عام، وكانت النتيجة أن إيرادات القناة بعد افتتاح التفريعة الجديدة قد تراجعت عما قبلها، ما جعله يقول إن غرض المشروع كان لبث الأمل فقط.
وعملاً بمنطق "الفهلوة" المصري المعروف أصدرت هيئة القناة بياناً بالإيرادات المتوقعة بعد افتتاح التفريعة – القناة الجديدة، تنبأت فيه بزيادة سنوية للإيرادات بنسبة 10%، حتى تصل الإيرادات إلى 13.226 مليار دولار عام 2023، وهو أمر لم يحدث بالمرة لارتباط حركة المرور بالقناة بحركة التجارة العالمية خاصة بين جنوب آسيا وأوروبا والتي لا يمكن أن تثبت على حالة واحدة لمدة 10 سنوات.
حيث أشارت التوقعات لبلوغ الإيرادات عام 2021 نحو 10.923 مليار دولار، بينما ما تحقق عملياً قد بلغ 6.3 مليار دولار فقط، أي بنسبة 58% مما تم إعلانه وقت حفر التفريعة، ونفس الأمر لتوقعات عدد السفن المارة وحمولات السفن العابرة.
مطار للعاصمة قبل سنوات من افتتاحها
وما حدث في تفريعة قناة السويس تكرر عند الإعلان عن بناء مليون وحدة سكنية خلال عام واحد بالتعاون مع شركة "أرابتك" الإماراتية، وحينذاك تحدى السياسي والمهندس الاستشاري ممدوح حمزة أن يتم المشروع، لأن هناك طاقة معينة من إنتاج مواد البناء والمعدات لدى شركات المقاولات والعمالة، لا تستطيع تنفيذ ذلك الحجم من البناء خلال تلك الفترة القصيرة وهو ما حدث بالفعل بعدم تحقق شيء.
وتكرر الأمر مع إنشاء عاصمة إدارية جديدة، فوجئ المصريون بالإعلان عنها في مارس 2015 لم تشارك الجهات المعنية بالتخطيط في أي نقاش حولها مثل معهد التخطيط القومي وجمعية المهندسين المصرية ونقابة المهندسين وغيرها، والتي لا تمثل أولوية لدى المصريين بالمقارنة بمشاكلهم المزمنة خاصة مع التعليم والصحة والسكة الحديد وغيرها، ليتم افتتاح فندق ضخم، ثم افتتاح مسجد كبير وكاتدرائية ضخمة قبل وجود سكان بالمدينة بسنوات.
وافتتاح مطار للعاصمة قبل اكتمالها بسنوات، وتوالي مشاهد البذخ في المنشآت الرياضية وغيرها من قطار كهربائي و"مونوريل"، ودار أوبرا ونهر أخضر وأرصفة طرق مضيئة، في مجتمع يعاني من العجز المزمن بالموازنة الحكومية.
وبالطبع وجد تسويق الوحدات السكنية بالمدينة صعوبة نظراً لقيمتها المرتفعة والتي يصل متوسطها 11 ألف جنيه للمتر، في بلد عجزت فيه آلاف من شركات القطاع الخاص عن الالتزام بالحد الأدنى لأجر العاملين بها والبالغ 2400 جنيه شهرياً، حتى الموظفين الذين سيعملون بالمدينة لن يستطيعوا شراء وحداتها السكنية وسيقيمون في وحدات سكنية بمدينة بدر المجاورة للعاصمة الجديدة.
فائض كهربائي صعب تصريفه
نفس الأسلوب العشوائي تم في علاج في مشكلة انقطاع التيار الكهربائي عام 2013، حيث تم شراء محطات إنتاج متنقلة، بالإضافة إلى سرعة إنجاز المحطات التي كان يتم إنشاؤها حينذاك، وتحويل محطات إنتاج للعمل بالدورة المركبة، ما أمكن سد الفجوة بين الكهرباء المنتجة وأقصى حمل للاستهلاك صيفاً.
لكنه رغم ذلك تمت الموافقة بالأمر المباشر ودون إجراء مناقصة لإقامة ثلاث محطات إنتاج من خلال شركة سيمنس الألمانية بطاقة تزيد على 14 غيغا وات، والتوسع في محطات إنتاج الكهرباء من خلال الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، والتوجه لاستخدام مصابيح كهرباء موفرة للطاقة ورفع سعر استهلاك الكهرباء ما قلل الاستهلاك.
والنتيجة فائض ضخم من إنتاج الكهرباء من الصعب تسويقه، رغم أن وزير الكهرباء صاحب مكتب استشاري في مجال الكهرباء، لكنه لم يتدخل لتقليل فوران الإنتاج من أكثر من مصدر رغم انتهاء الفجوة في الاستهلاك منذ سنوات، والنتيجة بعد الفائض الضخم البطء في مشروعات الطاقة الجديدة رغم أنها الأكثر جدوى، بقرار مرفق الكهرباء في مايو/أيار 2020 بوضع سقف لإنتاج الطاقة الشمسية للقطاع الخاص، وإلغاء مناقصة إنشاء محطة طاقة شمسية غرب النيل في أغسطس/آب 2020.
وتشغيل المحطات القديمة بنصف طاقتها أو وقف بعض الوحدات منها أو تشغيلها بكامل طاقتها لمدة 15 يوماً ثم وقفها ودخول محطات أخرى للإنتاج بالتبادل، وتكهين محطات قديمة وتأجيل المشروعات المخططة حتى عام 2027، والتجهيز لبيع محطات سيمنس الثلاث لكن شرط المشتري التزام الحكومة بشراء الكهرباء المنتجة منه، يعني استمرار مشكلة تصريف الفائض الضخم.
ونفس الأمر في كثافة إنشاء الكباري في الطرق المؤدية إلى العاصمة الإدارية بالقاهرة، والتي تم تنفيذها بشكل لم يراعِ احتياجات المشاة، مع منع وقوف السيارات بجوارها، ما يضطر السكان المجاورين للكباري إلى إيقاف سياراتهم في أماكن بعيدة.
لو كان هناك احترام للتخطيط لتمت مراعاة الأولويات، حيث إن احتياجات قرى ونجوع وأحياء مصر من الخدمات المختلفة، من مياه شرب وصرف صحي وكهرباء وطرق وكباري ومواصلات وإسكان وخدمات حكومة، مرصودة ومعروفة منذ سنوات فيما يُسمى دليل التنمية البشرية بالمحافظات، لكن عدم العدالة في توزيع التنمية يأتي على حساب تأخير تنفيذ تلك المشروعات الضرورية لتحسين المعيشة اليومية.
وكذلك المشكلة التي يواجهها القاصدون إلى مقار الخدمات الطبية والقانونية والمحاسبية والتجارية وغيرها الموجودة بجوار الكباري، واضطرارهم للوقوف على بعد مسافة طويلة من تلك الأماكن ثم العودة مترجلين مع عدم السماح لسياراتهم بالوقوف بجوار المباني المجاورة للكباري.
القانون الجديد لن يحل المشكلة
كل ما سبق يشير إلى غياب التخطيط، فالتخطيط في أبسط مفاهيمه يعني الاستعداد المسبق للاحتياجات المستقبلية، فمن خلال إحصاءات السكان معروف عدد المواليد المتوقعين كل عام، ومن هنا يتم التجهيز لإيجاد أماكن لهم بالمدارس عند بلوغهم السن القانونية، فلو كان هناك تخطيط ما حدثت مشكلة تكدس الفصول الدراسية، لتصل لأكثر من 80 تلميذاً بالجيزة، والحاجة لعمل المدارس أكثر من فترة دراسية خلال اليوم الواحد.
وهكذا في كل الأمور الصحية والخدمية، حيث إنه معروف متوسط عدد حالات الزواج السنوية، والتي تحتاج إلى كمّ معين من الوحدات السكنية، سواء من خلال الحكومة أو من خلال القطاع الخاص والتعاوني، فلا تنشأ مشكلة إسكان أو عشوائيات، أي أنه في غياب التخطيط ستنشأ العشوائيات ليس فقط في الإسكان بل في كل الأمور، فوجود مجتمع سكني جديد في منطقة ما يعني حاجته إلى خدمات تجارية معينة، فإذا لم يتم إنشاء سوق تجارية لخدمة ذلك الحي، فسوف يقف الباعة الجائلون بجوار البيوت بما يسببونه من ضوضاء وزحام وفضلات.
وإذا لم يتم توفير ورش مختلفة النوعيات في أماكن مخصوصة، سيقوم البعض بتحويل الوحدات السكنية إلى ورش منتجة بما تسببه من ضوضاء ومخاطر حريق وتأثير على سلامة المباني.
وهكذا كان يمكن منع مشكلات عديدة لو كان هناك تخطيط مسبق، فلو كان هناك تخطيط عمراني مسبق لعواصم المحافظات، ما حدث ما نراه من سعي لهدم منطقة الحي السادس بمدينة نصر بالقاهرة وغيرها من الأماكن، وما حدث من هدم للبيوت من أجل إنشاء الطريق الدائري بالقاهرة وطريق 26 يوليو بالجيزة وغيرهما.
الطريف في الأمر هو موافقة البرلمان مؤخراً على قانون جديد للتخطيط، وكأن القانون السابق للتخطيط كان هو المشكلة، فالقضية الأساسية هي عدم احترام التخطيط، وعندما تقول وزارة التخطيط إن القانون الجديد جاء بمجلس قومي للتخطيط برئاسة رئيس الجمهورية، فإن هذا المجلس القومي للتخطيط كان قد سبق الإعلان عنه عام 2006 ثم تم إهماله، والأهم هو احترام رأس النظام للتخطيط وهو الذي يجاهر بأن دراسات الجدوى معطلة للعمل.
فلو كان هناك احترام للتخطيط لتمت مراعاة الأولويات، حيث إن احتياجات قرى ونجوع وأحياء مصر من الخدمات المختلفة، من مياه شرب وصرف صحي وكهرباء وطرق وكباري ومواصلات وإسكان وخدمات حكومة، مرصودة ومعروفة منذ سنوات فيما يُسمى دليل التنمية البشرية بالمحافظات، لكن عدم العدالة في توزيع التنمية يأتي على حساب تأخير تنفيذ تلك المشروعات الضرورية لتحسين المعيشة اليومية.
والتخطيط لا يعني ترك المجال للحكومة وحدها، ولكنْ هناك شركاء آخرون يجب أن يشاركوا في التخطيط، أبرزهم القطاع الخاص والقطاع المدني بكافة صوره من نقابات واتحادات وجمعيات أهلية، وكانت هناك تجربة للتخطيط بالمشاركة في فترة وزير التخطيط الدكتور أحمد الدرش عام 2000 لكنها لم تستمر طويلاً.
لنصل إلى الواقع الحالي الذي تم فيه ليس فقط إبعاد القطاع الخاص والقطاع المدني عن المشاركة في التخطيط، بل وإبعاد الحكومة أيضاً عن التأثير الفعال في التخطيط، حيث إن وزارة التخطيط نفسها لم تشارك في إعداد المشروعات القومية وليس من سلطتها متابعتها، رغم رفع مخصصاتها بموازنة العام المالي الحالي 2021/2022 إلى رقم غير مسبوق تاريخياً، بلغ 86 مليار جنيه مقابل 13 مليار جنيه فقط بالعام المالي السابق بزيادة 73 مليار جنيه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.