ما إن يهلَّ موعد معرض القاهرة للكتاب حتى أتذكّر حرْص أبي الشديد على اصطحابنا إليه منذ كنا أطفالاً. كان الأمر شاقاً، فنحن نقطن في محافظة دمياط، البعيدة عن القاهرة، لكن رغم ذلك استمرّ أبي في عادته على اصطحابنا إلى المعرض.
ومن أجل ذلك كان يتعيّن علينا قضاء ساعاتٍ خمس في المواصلات نتنقّل فيها من عربة لأخرى حتى نصل إلى مقر المعرض القديم في مدينة نصر، والذي واظبتُ على حضوره منذ أن وعت عيناي على الدنيا وحتى فترة قريبة جداً.
أرض الفوضى الممتعة
لمن لم يزُر مسبقاً معرض الكتاب في أرض المعارض في مدينة نصر، فقد فاته الكثير والكثير. هناك جملة ساخرة شهيرة لسعيد صالح في مسرحية "العيال كبرت" وصف فيها سيارة والده بعد تحطمها بأن "كل حاجة سليمة.. بس لوحدها"، وهو ما ينطبق بشدة على ما كان يجري في تلك المناسبة المباركة.
مساحة المعرض هائلة تتناثر فيها صالات العرض هزيلة البناء، بشعة التصميم، وأمام حدائقها الغنّاء مترامية الأطراف حدّث ولا حرج، كان يجري فيها ما لا يخطر على ذهن بشر.
لفترة طويلة جداً كانت تذكرة المعرض بجنيه واحد فقط، وغالباً ما كان حرّاس البوّابات يتقاعسون عن مراجعة تذاكر جميع الداخلين، وهو ما مثّل فرصة كبيرة لِمَن لا فرصة له، ليحظى بـ"قعدة" مريحة في حديقة واسعة، يلعب أطفاله وأطفال جيرانه بين أشجارها الكرة حتى تنتهي أمهم من طهي المحشي وإعداد أكواب الشاي للأهل والأقارب والأحباب!
وهو ما كان يفسّر الإقبال الهائل الذي كان يُصاحب المعرض، حتى لو كانت نسبة لا يُستهان بها من الجمهور لا علاقة لها بالقراءة أو الكتب من قريب أو من بعيد، وهو ما يفسّر أيضاً انتشار باعة متجوّلين في كافة الأرجاء يعرضون بضاعتهم على الجمهور بداية من الشرابات والفانلات الداخلية وحتى البطاطين وملاءات الأسرّة!
لكل هذا وأكثر، كانت أكثر الأوقات التي تضايقني خلال زيارتي للمعرض هي الدقائق الأولى التي نقطع فيها عشرات الأمتار من البوابة الرئيسية وحتى صالات بيع الكتب، حيث لا يتوقّف مندوبو المبيعات عن محاولات جذب اهتمامك- ولو بالعافية- وتتصاعد رائحة طشّات الملوخية والبطاطس المقلية حتى عبّقت الأجواء.
فيما عدا تلك الأمتار، كان يومي السعيد يبدأ بلا منغّصات تقريباً؛ الصالات جميعها مزدانة بكتبٍ لا نهاية لها، حفظتُ من صغري أسماءها وأهم إصداراتها، لم يبخل أبي الحبيب عليّ أبداً بشرائها. وإن حظي الجناح الكبير الذي كانت تقيمه المؤسسة العربية الحديثة بنصيب الأسد من اهتمامي؛ لأنه كان نافذتي الرئيسية لاقتناء أعداد سلاسل "ما وراء الطبيعة" للدكتور أحمد خالد توفيق و"ملف المستقبل" و"رجل المستحيل" للدكتور نبيل فاروق.
كنتُ أعرف أنه يوم لن يتكرّر إلا مرة في السنة، لذا كنّا نحرص على البقاء فيه أطول فترة ممكنة منذ طلوع الشمس وحتى غروبها، وكنت أحسد أهل القاهرة لأن بإمكانهم زيارة المعرض مرات عديدة، وكنت أتعهّد لنفسي بأنّي لو سكنتُ في القاهرة يوماً سأزور المعرض يومياً طوال أيام إقامته، وهو ما لم أفعله مطلقاً.
أطرف موقف أتذكّره خلال تلك الفترة أننا ذات يوم بعد قضاء ساعاتٍ طوال اقترح عليّ أبي حضور ندوة للكاتبة سلوى بكر- ولم أكن أقرأ لها حينها عن جهلٍ منّي-، دخلنا الندوة وقضينا ساعة من الكلام يروح ويجيء عن العولمة وأزمات الإنسان المعاصر، بينما أنا ألتقط من فوق البوفيه ما لذ وطاب من المأكولات والمشروبات، وحين انتهت الندوة، سألني أبي خلال طريقنا للخروج "عجبتك الندوة؟"، فأجبته بحماس "جداً، عصير البرتقال يجنّن".
حسنات المعرض على طفولتي أكثر من أن تُحصى رغم الثغرات التنظيمية التي كانت تشوبه، إلا أن زيارته كانت "يوم عيد" لا أكفَّ عن سرد أحداثها لأصحابي في المدرسة لعدة أيامٍ لاحقة، وكنت الوحيد سعيد الحظ الذي ينال هذه الفرصة.
الكتاب الأول: حُزني وفرحة مصر!
حينما أصبحتُ على مشارف عامي الـ21 وقّعت عقد كتابي الأول (عام 2011م). كنتُ متحمِّساً للتجربة بشكلٍ كبير لذا وافقت على عرضٍ يشوبه الكثير من العوار من إحدى دور النشر أملاً فقط في نيل فرصتي الأولى، وأن يصدر لي كتابٌ يحمل اسمي. لم أشترط إلا أمراً واحداً؛ أن يصدر العمل في المعرض، وحينما ظفرتُ به شعرتُ بسعادة غامرة وكأنني حزتُ الكون وضممته بين دفتيْ يدي، ولهذا كان حزني غامراً حين عجزت دار النشر عن الوفاء بوعدها، وأخبرتني أن الكتاب لن يتواجد في المعرض!
بسبب بعض التعقيدات التي رافقت التعاقد مع الكتاب، ضاعت أحلامي في رؤية كتابي على الأرفف في ذلك الحدث الثقافي الأكبر. وقتها كنت حزيناً بشدة لدرجة قررتُ معها ألا أذهب للمعرض لأول مرة منذ 13 عاماً.
المفارقة أن هذا المعرض تحديداً كان استثنائياً في فعالياته، التي تعطّلت كثيراً بسبب اندلاع ثورة يناير/كانون الثاني، وحالة الاضطراب السياسي التي انتشرت في أرجاء مصر حينها، وهو ما هوّن عليّ لاحقاً حتى كنت أردّد لنفسي جملة "صحيح انتَ زعلان، بس مصر كلها فرحانة".
ناشر.. ما وراء المعرض
دارت عجلة الأيام، والتحقتُ بالعمل محرراً فنيّاً في إحدى دور النشر المصرية، ورغم أني كنت مسؤولاً بالأساس عن تقييم الأعمال الفنية فقط وإجازتها للنشر من عدمه إلا أنّي كنت شغوفاً بخوض تجربة العمل كعارضٍ للكتب، مسؤولاً عن جناح الدار في الصالة.
حينها كنّا لا نزال في الموقع القديم بمدينة نصر، المليء بالعبث الباعث على المرح في بعض الأحيان حينما عشتُ أدقَّ كواليس صناعة ذلك الحدث الكبير، وفي التفاصيل دوماً تكمن كل المتعة والتعب. من خلال هذه التجربة علمتُ أنني خلال زياراتي الكثيرة السابقة لم ألمس من المعرض إلا جانباً صغيراً منه، وأن وراء هذه الصالات الممتلئة بالكتب والأجنحة التي تموج بالعاملين كثيراً من الحكايات التي لم تكُن لتروى لو لم أخُض التجربة بنفسي.
بدايةً من انتقاء الكتب التي ستُعرض، وشحن مئات النُّسخ منها في الكراتين. ما إن تصل سيارتنا إلى باب المعرض حتى يتكالب العمّال علينا، كلٌّ منهم يسعى على رزقه يسعون لحمل الكراتين على ظهورهم وحتى داخل صالة العرض. هؤلاء العمّال كانوا مقدِّمة لجيش من الأرزقية الذين يشكّلون اقتصاداً موازياً لبيع الكتب، مثل الكهربائي الذي يُدخل الكهرباء إلى الجناح، لأن المصابيح العملاقة المعلّقة في سقف الخيمة لم تكن تكفي، ومثل مُعدِّي المشروبات الذين لا يتوقفون عن المرور على الأجنحة لتزويد أصحابها بالقهوة والشاي، مروراً برجال الديلفري الذين كانوا يزوّدوننا بالأكل يومياً. كنتُ أحتاج لكلِّ هؤلاء لأني بحُكم عملي في الجناح، وكوني مسؤولاً عن آلاف الكتب المعروضة، لم أكن أستطيع التحرُّك من مكاني خوفاً من تعرض بعضها للسرقة.
تواكبت تلك الدورة مع ذيوع أسماء لامعة في سماء المعرض- أتحدّث من ناحية المبيعات لا القيمة الفنية- مثل وليد ديدا وحسن الجندي ومحمد إبراهيم، والذين تمتّعوا لحظتها بشعبية ساحقة جذبت عشرات الآلاف على اقتناء أعمالهم. كانت كُتب وليد تابعة للدار التي كنت أعمل فيها، وكنت مسؤولاً- بطبيعة الحال- عن تنظيم حفلات توقيعه، والتي عادةً ما كانت تتسبّب في الكثير من الاضطرابات التي لا تتحمّلها جدران الأجنحة الضعيفة أصلاً، وأتذكّر في إحدى المرات كاد الجناح بأسره يتهدّم فوق رؤوسنا من فرط الازدحام.
وبعدما حدث في حفلة وليد، فضّلت دار النشر التي تُنتج كتب الشاعر محمد إبراهيم في الهواء الطلق، وأمام منضدة بسيطة جلس عليها وقف أمامه المئات من جمهوره في طوابير حاشدة.
حينما طالعتُ فيما بعد أعمال جميع الأسماء الأكثر مبيعاً في المعرض، وجدتُ أغلبها سيئاً لا يصلح أبداً للقراءة، وهو ما أعلمني أن عصر "السوشيال ميديا" ألقى بظلاله بشدّة على الوسط الثقافي، حتى بات الوسيلة المُثلى لأن تكون كاتباً حتى لو لم تكن كذلك!
لماذا لم أحب المقر الجديد للمعرض؟
هذا سؤال وجّهته لنفسي مراراً وتكراراً، لم أجد حقّاً إجابة مُقنعة. ربما لأنه أنيق، متكلّف، منظّم أكثر من اللازم، جدرانه لا تتداعى مع عواصف الهواء، وسقفه لا ينخره الماء كلما هطلت السماء فوق رؤوسنا بمطر يناير/كانون الثاني الشهير.
هذا ليس عيباً بكل تأكيد، لكنه يبدو أنه أصبح كذلك عند شخص تربَّى على زيارة المقر القديم للمعرض بعبثه وعشوائيته وسوء تنظيمه حتى تشرّبها واعتبرها من مُسلّمات الزيارة شأنها شأن شراء الكتب. مثلي مثل شخص اعتاد الأكل الرديء فلما قدّموا له طعاماً جيداً كره مذاقه.
يبقى المعرض القديم شاهداً على ذكريات طفلٍ عاش بين جنباته، ومثّلت له مجرد زيارته عيداً بعد عيد، وهو ما أفتقده بشدّة حالياً.
وقد يكون سبب كراهيتي لـ"المقر الجديد"، بكل بساطة، أنني كبرتُ وصرتُ أذهب إليه وحدي، ولم يعد أبي يصطحبني إليه، ربما سيتعيّن عليّ التضرّع إليه ليصحبني في الزيارة المقبلة، فقد يعيد للمعرض شيئاً من متعته.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.