هذا المقال هو الجزء الثاني من مراجعة كتاب "حياتي من النكبة إلى الثورة" للسياسي الفلسطيني نبيل شعث
في بيروت حصل نبيل شعث على وظيفة أستاذ في الجامعة الأمريكية بمساعدة أصدقاء منهم سليم الحص رئيس الوزراء اللبناني فيما بعد.
طبّق في محاضراته أسلوب التجريب الذي تعلمه من فؤاد شريف مديره في المعهد القومي، وصارت لدروسه حظوة، وبحكم أنه غير طائفي في مجتمع طائفي فقد كسب شعبية إضافية، أيام الحرب اللبنانية كان يتدخل لإطلاق سراح طلبته المسيحيين الذين يعلقون على الحواجز في بيروت الغربية، ويأسف أنه لم يكن يستطيع التدخل لنفس السبب في بيروت الشرقية التي كانت تسيطر عليها الكتائب، يقول إنه لم يكن يفرق بين طلبته بسبب الطائفة أو الدين.
وقد تدخل أحياناً لحماية حق طلبته في التعبير عن ميولهم السياسية واستفاد من ذلك الفتحاويون وكان هذا سبباً في تأخير علاواته. وتقديراً من الجامعة لخبراته التدريبية أُوكل إليه عقد دورات تدريبية عادت بالفائدة المادية على الجامعة. بعد عامين أصبح مديراً لإدارة الأعمال، وانتخب عضواً في مجلس شيوخ الجامعة، ممن درسهم فؤاد السنيورة وسلام فياض وريما خلف وبسام أبو شريف.
في فتح أصبح مسؤولاً عن الإعلام الخارجي، ثم دعاه يوسف صايغ لعضوية مجلس التخطيط الفلسطيني وشارك في أنشطته. كما دُعي لكتابة أبحاث في مجلة شئون فلسطينية وأصبح من مستشاري تحريرها. كما كتب بحثاً في مجلة الدراسات الفلسطينية عن دور القيادات العليا في فلسطين وجد أن الذين يحصلون على شهادات الدكتوراه من الفلسطينيين تفوق نسبتهم الحاصلين عليها من الدول المجاورة.
أصبح رئيساً لمجلس التخطيط الذي بصدر التقرير السياسي الفلسطيني، حيث يضع القيادة في صورة الأحداث وتحليلها، وقد تنبأ قسم التخطيط التقني بحملة الاغتيالات التي نفذتها إسرائيل قبل وقوعها. كان المركز يوظف صفوة العقول الفلسطينية، إدوارد سعيد وإبراهيم أبو لغد ومنير شفيق، ومعهم مجموعة من الكفاءات العربية مثل الدكتور رؤوف نظمي واسمه الحركي محجوب عمر، وكذلك حنا ميخائيل أبو عمر الفلسطيني الحاصل على الدكتوراه في التاريخ الإسلامي من جامعة هارفارد، كان حنا قد ترك موقعه كأستاذ جامعي ليعمل براتب لا يزيد على مئة دولار مع الثورة.
قسم التخطيط التربوي في المركز أخذ يحاول بناء فلسفة التربية للشعب العربي الفلسطيني والتي تمت ترجمتها إلي مجموعة من المؤسسات التربوية مثل رياض الأطفال في المخيمات، وهذا فتح الباب للتفكير في مشروعات أشمل لخدمة المخيمات، كان بؤس المخيمات الفلسطينية في لبنان ظاهراً، وفي إحدى دراسات مركز التخطيط وُجد أن هناك مرحاضاً واحداً لكل ٢٦٤ من سكان المخيم.
قامت حرب ١٩٧٣ وانتصر العرب بتنسيق مصر وسوريا واجتماع العرب خلفهما وقطع النفط. انتهت الحرب إلى مباحثات السلام، بعد الحرب مباشرة قابل السادات وفداً فلسطينياً وسألهم هل تقبلون بالاشتراك في مؤتمر للسلام، احضروا واطرحوا وجهة نظركم المهم أن تكونوا حاضرين. وأخذ منهما وعداً بعرض اقتراحه على القيادة الفلسطينية والرد بأقصى سرعة، في الاجتماع الفلسطيني لمناقشة ذلك وجد شعث نفسه لأول مرة في موقف المعارضة لياسر عرفات الذي يدفع باتجاه المشاركة، معارضة نبيل كما سيتبين لنا هي موقف لكل من يعتمد على التقدير العقلي السليم،لا على الآمال والأمنيات.
رأي نبيل كان معارضاً وحيثياته التي ساقها تضمنت ما يلي: التغيير الذي أنتجته الحرب في موازيين القوي ليس كافياً، وخصوصاً بعد حدوث انتكاسة على الجبهة السورية وثغرة الدفرسوار، وعليه فإن محصلة التغيير ستكون نتيجتها القصوى الانسحاب الإسرائيلي من أراضي مصر المحتلة، هذا أمر منطقي لا نستطيع أن نعارضه، ولكن السادات سوف يدفع الثمن باستبدال أمريكا بالسوفييت والقبول ضمنا بتأجيل الانسحاب من سوريا، وتأجيل الحل الشامل للقضية الفلسطينية.
أما استمرار العرب في الحظر النفطي فمرهون بتثبيت وقف إطلاق النار وتحقيق فصل جزئي للقوات على الساحة السورية، ولكن العرب لن ينتظروا حل القضية الفلسطينية كلها قبل رفع حظر النفط.
إن تثبيت وقف إطلاق النار وتحقيق انسحاب إسرائيلي يسمح بعودة سكان مدن القناة، ثم عودة الملاحة لقناة السويس، وبعدها تستعيد سوريا القنيطرة، كل تلك الخطوات ستوصلنا إلى نزع فتيل الحرب ما سيخفف الضغط عن الأسرة الدولية.
إسرائيل لن تقبل بمشاركة الفلسطينيين في مؤتمر جنيف، وأمريكا ستوافقها لأن أولويتها ستكون لمصر ثم لسوريا طرفي النزاع العسكري الرئيس مع إسرائيل.
السؤال الثاني الذي طرحه نبيل، ما الذي سنأخذه كفلسطينيين من حضور المؤتمر وما كلفة المشاركة؟ حضور المؤتمر سيوفر موقعاً دولياً لمنظمة التحرير يساعد في تثبيت حقوقنا وتقرير مصيرنا، وستتوقف مطالبة الآخرين بحق تمثيلنا، ولكن ترجمة ذلك إلى دولة مستقلة وتنفيذ حق العودة أمر يحتاج إلى زمن طويل ونتيجتها غير مضمونة، أما تكلفة الإصرار عليه فستكون باهظة، سيكون علينا الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود دون اعتراف مقابل منها بحقنا في دولة فلسطينية مستقلة، وسيكون علينا التضحية بالدولة الديمقراطية على كامل التراب الفلسطيني لنقبل بوعد غير مضمون بإعطائنا دويلة على ٢٢% من أرضنا.
كما أن أمريكا وإسرائيل لن تقبل بذلك كحل مرحلي، وإنما سيصرون على أنه حل نهائي ويتخذون من الإجراءات ما يعطل سعينا إلى حل كامل، وبالطبع كان رأي نبيل صحيحاً.
الحلول السياسية التي جاءت بعد حرب أكتوبر أدت إلى انشقاقات مهولة في الصف الفلسطيني، وبدأت المقالات تهاجم نبيل بأنه يعمل في الجامعة الأمريكية الإمبريالية، هو ومركز التخطيط كلاهما يتبع المدرسة الماوية الصينية المنحرفة، وهو الاتهام الموجه لمنير شقيق ومحجوب عمر أبرز العاملين في مركز التخطيط. ترافق ذلك مع صعوبات مالية للجامعة الأمريكية بسبب كثرة إضرابات الطلبة، ولم يرضَ شعث بأن ينتقل للعمل موظفاً لدى منظمة التحرير بدلاً من صفته متطوعاً، فاستقال من منصبه في الجامعة الأمريكية ليؤسس مع زملاء لبنانيين ومصريين برنامج الخبراء العرب في الإدارة والتنمية "تيم".
في الانطلاق الأول لمؤسسة تيم حققت المؤسسة ربحاً تبرع نبيل وشركاه بنصفه أي خمسين ألف دولار لفتح، ثم قرر الشركاء تقديم ثلث الأرباح مساهمة عينية في صورة برامج تدريبية.
وبالعودة إلى مذكرات شعث فإن أصل مشروع الدولتين إنما جاء باقتراح من البروفيسور روجر فيشر أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفرد، أتي فيشر لإقناع القادة الفلسطينيين بالفكرة قبيل انعقاد مؤتمر فتح في دمشق عام ١٩٧١، ويعلق نبيل أن الموضوع قد نوقش بتعمق في مجلس التخطيط وكان أبو اللطف قريباً من هذه الفكرة فيما كان نبيل رائداً لفكرة الدولة الفلسطينية الديمقراطية اللاطائفية، وهي التي تحدث عنها عرفات في خطبته الشهيرة بالأمم المتحدة التي رتب لها نبيل.
قراءة مذكرات الدكتور نبيل توحي بأنه أحد من كانوا وراء هذا المشروع. يذكر د. نبيل أنه في أول يوم وصل فيه لجامعته الأمريكية دعي لصالة القهوة حيث قوبل بعاصفة من الاستنكار والأسئلة، تبين له أن غالبة الحاضرين هم من أبناء رجال الأعمال اليهود الأمريكان. بعدها دُعي من قبل اتحاد الطلاب الأمريكان للمشاركة في مناظرة عامة في مواجهة اتحاد الطلاب الإسرائيليين، كان أيامها حضور مثل هذه المناظرة يعد تطبيعاً لكنه حضر، وكانت الكفة تميل لصالحه ووقف مَن في القاعة يهتفون لفريق فلسطين، بعد ذلك ناظر القنصل الإسرائيلي في فيلادلفيا في برنامج إذاعي يشارك فيه المستمعون، وكانت المرة الأخيرة التي يناظره فيها إسرائيليون، فقد صدرت للإسرائيليين تعليمات برفض أي مناظرة مشتركة معه.
مع الوقت تبين له أن عدداً كبيراً من طلاب الجامعة التي يدرس بها ونسبة أعلى من الأساتذة هم من اليهود الأمريكان، وكذلك ملاك البيوت الثلاثة التي سكنها، ونسبة عالية من الطلاب في الفصول التي قام بتدريسها أيضاً كانوا يهوداً. يقول إنه لم يظلم طالباً بسبب دينه، ويعتقد بأن الأساتذة اليهود أيضاً كانوا حريصين على العدالة فيما يتعلق بطلابهم العرب.
في دراسته للاقتصاد والتمويل كان معلمه وكذلك صديقه في الفصل كليهما يهودي من التقدميين المناهضين للاستعمار والعنصرية، وكان سهلاً إقناعهم بعدالة القضية الجزائرية. ولكن عند القضية الفلسطينية يقولان: نعم لقد ظُلم الفلسطينيون بطردهم من بلادهم، ولكن إسرائيل أمر واقع، وعودة يهود إسرائيل إلى بلادهم الأصلية أمر بات مستحيلاً.
جمعته بعدها أستاذته المفضلة كروكيت بعدد من الأساتذة اليهود في الجامعة ويسميهم، اقتراحاتهم تدور حول دولة فلسطينية في غزة والضفة، وعودة بعض اللاجئين إلى الكيان الفلسطيني، وتوطين الباقين في الدول العربية وغيرها، وكانت حلولهم تأتي بعد مناقشة طويلة للتاريخ اليهودي والمحرقة النازية. كان نبيل يرد عليهم بأنه يتعاطف مع من تم اضطهاده من اليهود ولكنه يرفض حل مشكلتهم بطرد الشعب الفلسطيني واحتلال أرضه. ثم أخذ يفكر لماذا لا يعود اللاجئون الفلسطينيون إلى فلسطين التاريخية في إسرائيل والضفة وغزة، ويعيشون في دولة واحدة ديمقراطية لا طائفية، لا تفرق بين المسيحيين والمسلمين واليهود، باعتبارهم كلهم فلسطينيين عرباً كانوا أم أوروبيين. على أن تنتهي يهودية الدولة، وتقف الهجرة اليهودية نهائياً، وينتهي التمييز ضد العرب ويعود اللاجئون الفلسطينيون. في ظل اتفاقية سلام. طرح هذه الفكرة على من يناظرونه فلاقت ترحيباً كبيراً، بل أخذوا يناقشون المصاعب المتوقعة وكيفية حلها.
بالطبع واضح جداً أن الفكرة قد جاءت لتكون مناسبة لما يريده الغرب. ولكن المسألة هنا لم تعد فكرة نبيل وحده، بل المتتبع لهذه السيرة يرى أنها كانت في تفكير منظمة التحرير مبكراً جداً قبل أن يطرحها عرفات على منبر الأمم المتحدة عام ١٩٧٤. ففي أكتوبر ١٩٦٨ أعلن القائد الفتحاوي صلاح خلف في مؤتمر صحفي أن الهدف الاستراتيجي للثورة الفلسطينية هو دعم إنشاء دولة فلسطينية ديمقراطية على امتداد فلسطين التاريخية يعيش فيها العرب واليهود في وفاق ودون تمييز عنصري. إنها نفس الفكرة ودون ترتيب مسبق.
في مؤتمر نصرة الشعوب العربية بالقاهرة يناير ١٩٦٩، رأس نبيل وفد فتح، وقاد فريقاً من الناشطين من شباب الإعلام الخارجي للإعداد والمشاركة في إطلاق فكرة الدولة الفلسطينية الديمقراطية، وجد قبولاً من الشباب وأعضاء الوفد للفكرة، فقام بإعداد كلمته، ومقترحاته للبيان الختامي للمؤتمر وقراراته ترتكز على فكرة التحرير الذي يطرح حلاً إنسانياً تقدمياً(!) كما يقول وبغض النظر عن التقييم فالفكرة استوحيت من المجتمع الغربي الأمريكي تحديداً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.