لا يمكن أن نعتبر الحديث عن المركزية الغربية تَرَفاً فكرياً قد يروق لمفكر ما ويرفضه غيره، إذ إن هذه المركزية النظرية قد غدت منذ أمد بعيدٍ أمراً مسلّماً به في الفكر الغربي ومفروضاً في وسائل الإعلام العالمية وغدت ظاهرة في الطابع اليومي لوسائل التواصل الاجتماعي، ومن ثم فإن الحديث عنها مسؤولية نقديّة ينبغي تحمّلها وتبيانها وأداؤها
أثناء قراءتي لكتاب "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" لعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، لفت انتباهي ما مهّد به الكاتب كتابه حين قال: "باستثناء الغرب، فإنه ما من حضارة تمتلك كيمياء عقلانية، وكذلك الأمر بالنسبة للفن، فربما كانت شعوب أخرى تتمتع بحسّ موسيقي، غير أن الموسيقى المتكاملة عقلانيّاً وائتلاف الأصوات، كل ذلك لا يوجد إلا في الغرب" [الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية: ص 5-6]، بل إن كثيراً من المثقفين الغربيين يرون أن الحضارات إنما جاءت ممهّدةً لقدوم الحضارة الغربية.
كيف تسللت هذه الفكرة؟
نجد هذه النظرة الأحادية والفكرة الإقصائية عند كثير من المستشرقين الذين درسوا الحضارات الأخرى، بمنهج عقلاني من جانب أو بعقدة النقص من جانب آخر، إلا أن هذه النظرة ليست حكراً على الغرب وأهله، بل هي إرث يشترك فيه الكثيرون، فثمة أناس كثيرون -من بني جلدتنا وأفكارنا ومدننا- ينفون عن المسلمين الحضارة، بل ويصفونهم بأنهم أمة الجهل والتخلّف.
لنعد قليلاً إلى كتاب "وعود الإسلام" للمفكر الفرنسي روجيه غارودي، حيث يقول فيه: "الغرب عارض، وثقافته مسخ فقد بترت من أبعاد جوهرية، ومنذ قرون ادعت هذه الثقافة بأنها تنحدر من إرث مزدوج: يوناني – روماني، ويهودي – مسيحي، في الحقيقة لقد انبثقت أسطورة "المعجزة الإغريقية" لأن هذه الحضارة بُترت عمداً من جذورها الشرقية. [وعود الإسلام، ص: 15].
بهذا القدر من التعمّد أيضاً، يحاول كثيرون قطع التاريخ الإنساني من سياقه ومحو التراكم الذي جرى فيه واقتلاعه من جذوره، في محاولة لتعزيز وتدعيم النظريات التي تحوم حول تفوق العرق الأبيض على باقي الأجناس الأخرى، والتأكيد على أن الإنسان الغربي هو الأكثر تطوراً من الناحية العقلية والنفسية.
أين الإنصاف؟
يلقى هذا الخطاب صدى متكرراً لدى المستلبين ذهنيّاً، كما أنه يلقى الرفض لدى الباحثين المنهمكين بالبحث في التاريخ الإنساني والمستشرقين المنصفين الذين يجدون في كشف الحقائق متعتهم، ومن هؤلاء نذكر المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون والألماني شبنجلر والبريطاني كارين وغيرهم.
قبل مدة من الزمن انتشر مقطع مصوّر لأحد المدونين الذين يبسّطون العلوم المعاصرة، تحدث فيه عن موضوع معين، وفي معرض حديثه قال: "لقد أسس فرنسيس بيكون المنهج التجريبي"، وفي هذا مصيبة لا تخفى!
قد يسلّم شخص لم يدرس التاريخ بهذا الأمر، إلا أنه بالنسبة لمن درس التاريخ وخاصة تاريخ العلوم -ليس بتاريخها الذي يراد له أي التاريخ الإغريقي وحسب- بل التاريخ الإنساني، فإنه أمر عسير التقبّل؛ حيث يدرك أن فرنسيس بيكون لم يسبق أبداً العالم المسلم ابن الهيثم، بل العكس؛ إذ للعالم المسلم فضل السبق في المنهج التجريبي، ولا يحتاج ذلك منا سوى الرجوع إلى كتب القوم واستحضار الشهود، بل إن الأمر أبين من ذلك، فقد احتفلت اليونسكو بالعالم المسلم ابن الهيثم باعتباره مؤسس المنهج التجريبي.
يشير الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه "من تاريخ الإلحاد في الإسلام" إلى موضوعنا هذا، فيبدي رأيه لأولئك الذين يعتبرون أن المسلمين لم يخرجوا من عباءة الحضارة اليونانية وأنهم مجرد مقلدين، قائلاً -غفر الله له-: "يجب ألّا نُخدَع إذاً -بعد فشل الادعاءات- بتأثير الحضارة في الحضارات، بل يجب أن نقوّمه التقويم الصحيح على أساس أن لكل حضارة روحها الخاصة، وأن الاشتراك في التراث لا يدل على شيء بالنسبة إلى روح من يشتركون هذا التراث.
لكن ليس معنى هذا أن الحضارة الإسلامية حضارة قائمة بذاتها تكون دائرة حضارة مغلقة، وإنما هي جزء من حضارة كبيرة، الحضارة العربية هي أهم جزء في هذه الحضارة الكبرى" [من تاريخ الإلحاد في الإسلام، ص 24].
ضياع الهوية الثقافية!
أعتقد أن فكرة الدكتور عبد الرحمن تغلق كل المنافذ على المتهافتين من مختلف الجهات، حيث يناقش هنا آراء مؤرخين أوربيين لا آراء المتعلمين الجدد -كما يقول مالك بن نبي رحمه الله- سواء كانوا من الجانب الذي يقول: إن الحضارة الإسلامية نسخة من الحضارة اليونانية، أو الجانب الذي يرى أنها حضارة خرجت من اللا شيء.
على كل حال، فإن ما يهمنا هنا هم أصحاب القول الأول الذي ينتشر في فضاءات الميديا ويقول به كثير من مبسطي العلوم في العالم العربي، وقد يتضاعف أثر هذا الأمر حين نرى بعض شباب المسلمين والعرب ينافحون عن هذه العقيدة وكأنهم أحد أبناء الأوربيين المتعصبين لأوطانهم وما حيك حولها من نظريات التمجيد للغرب، وربما احتقر هؤلاء ذواتهم وتاريخهم، حتى بات الواحد منهم يعلنها صراحة ويجاهر بعدائه لمجتمعه وأبناء بلده، فيحتقر كل شيء يذكره بنفسه فهو لا يريد اسم "مجيد" راغباً عنه في أن يسمى "جورج"، ولعله كان يرغب في أن يصبح ذات يوم صاحب شعر أشقر وعيون خضراء ووجه جميل، وحين لا يحدث ذلك يلعن صباحه ومساءه، ويفرغ حقده على نفسه وأبناء قومه.
الغزو الفكري
تظهر السذاجة -أو الجهل- التي يمارسها مبسطو العلوم سواءً عن إدراك واستثمار مربح، أو عن غفلة لا مقصودة، حين نقف عند تعريف الغزو الفكري:
فهو -بحسب الشيخ عبد الرحمن حبنّكة الميداني- "كل فكرة أو معلومة أو منهج يستهدف صراحة أو ضمناً تحطيم مقومات الأمة الإسلامية: العقَديّة والفكرية والثقافية والحضارية، أو يتحرى التشكيك فيه، والحط من قيمتها، وتفضيل غيرها عليها، وإحلال سواها محله، في برامج الإعلام والتثقيف، أو النظرة الكلية للدين والإنسان والحياة" [الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام، مؤتمر الفقه الإسلامي في الرياض عام 1396هـ، ص 507]
إذا ما تمعّنّا جيداً في المحتوى الذي ينشره بعض مبسطي العلوم الذين لا يؤمنون بالقيمة التي قدّمتها حضارتهم الإسلامية للبشريّة، فإننا نرى السير نحو تعزيز الغزو الفكري والسير لدعمه سيراً جاداً، ولهذا نقول: إن مبسّط العلوم يجني على نفسه -حين يمسي بمثابة العميل الفكري عن علم أو جهل- وعلى مجتمعه ودينه بتشكيك الناس في نظم المجتمع وتعاليم الدين، والأدهى من ذلك أنه يزيّف التاريخ فيعلي تاريخ الغرب المستحدَث، ويتغافل عن تاريخ الإسلام المبهر والعظيم، والذي لولاه لما وصلت البشرية إلى ما وصلت إليه، فلولا جهود الخوارزمي الرياضية -مثلاً- ما كتبتُ هذه الأسطر ولا قرأتَها أنت.
شواهد وأمثلةٌ
نستشهد بسبق المسلمين على العالم الغربي ببضع أسطر هي عندنا تعادل كتاباً، يقول روجيه غارودي في كتابه وعود الإسلام: "وقد مارس العرب التلقيح ضد الجدري بإدخال قليل من قيح دمل متجرثم بمرض الجدري قليلاً، من شرطه في الجلد وذلك قبل جيينر Jenner بعشرة قرون، ودرس الطبيب الجراح الأندلسي أبو القاسم (المتوفى 1013) مرض السل في الفقرات "مرض بوت"، قبل بيرسيفال بوت (1713-1788) بسبعة قرون ونصف ومارس ربط الشرايين في حالة البتر قبل امبرواز باريه Ambroise Paré (1517-1590) بتسعة قرون.. لقد استند علماء الطبيعية الكبار في العصور الوسطى إلى أعمال العرب" [ص: 107]
إن كثيراً من الناس لا يحب أن يسمع حقيقة كون الإسلام بانياً لحضارة عظيمة، فهم لا يعرفون عنه سوى وجود بعض التنظيمات العنيفة التي يصوّرها الإعلام وكأنها المسيطرة على العالم الإسلامي، أما فلسفته وشريعته ونظمه السياسية والاقتصادية التي لا ينكر فضلها المنصفون من الغربيين، فإنهم يكادون لا يعلمون عنها شيئاً.
لقد بنى الإسلام مجتمعات متماسكة وقوية ودولاً تحكُم ولا تسيطر، وذلك مقابل الدولة العلمانية التي خنقت الإنسان وأمسكت بزمام الأمور وانتهت بمجتمعات هي أوهن من بيت العنكبوت، هذا ما لا يعرفونه أو يتجاهلونه.
إننا بحاجة لإعادة تشكيل العقل المسلم، وبرمجته بما يتناسب وتراثه العريق وتاريخه التليد، رغم أن الحال كما قال ابن خلدون: "المغلوب مولع بتقليد الغالب".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.