من أغرب الفصول الدراسية التي درّستها في ألمانيا فصل دراسي عن أم كلثوم!
بدايةً كنت أظن أن عدد الطلبة لن يزيد -كالعادة- عن عشرة من شباب المستشرقين، لكن وُجد من عرف من برنامج الجامعة بأن هناك من سيدرس أم كلثوم لمدة ساعتين أسبوعياً، فتضاعف العدد لدرجة أزعجتني!
وكنت قد قضيت الإجازة في الاستماع لأم كلثوم واختيار الأغاني وترجمة نصوصها وطباعتها، بل اخترت أيضاً المقاطع التي سنستمع إليها ونحللها. ولكن زيادة العدد تقتضي شرحاً أطول وطباعة أكثر ولن يتبقى وقت كافٍ للاستماع والاستمتاع، وهذا بالضبط ما أزعجني.
المهم كنا ندرس كلمات وتراكيب كل أغنية ونتعرف على شاعرها وملحنها، وبعد أن نفهم النص لغوياً وبلاغياً نختم بالاستماع لأم كلثوم والتعليق على طريقتها في الأداء، وربما غنينا معها إذا كان لدينا وقت ومزاج، ثم ننتقل لأغنية أخرى وهكذا.
تقريباً بعد ثلاثة أسابيع جاء رجل ألماني من أصل تركي وهو منزعج لأنه لم يعرف منذ البداية، ولكنه كما قال كان سعيداً لأنه وجد أخيراً من سيشرح له -بشكل منظم- ماذا تغني أم كلثوم. عرفت فيما بعد أنه مؤلف ومترجم بين الألمانية والتركية، وأنه لم يدرس العربية بشكل منظم، ولكنه رغم ذلك كان مجنونا بأم كلثوم!
وقد أصر على أن يوثق علاقته بي ودعاني إلى بيته خارج مدينة بامبرج. وكان يا للعجب متزوجاً من شابة يونانية جميلة وتملك طبعة كاملة من أعمال كفافي وزارت الإسكندرية مرة واحدة ورأت متحف كفافي! أما الرجل المجنون نفسه فلديه مكتبة كاملة عن أم كلثوم، كتب وأغان وبرامج عنها بالتركية، والإنجليزية، والفرنسية، والألمانية. ولك أن تتخيل ما حدث؛ حيث ظل طوال زيارتي له يستعرض كل ما لديه بالتفصيل ويتكلم بفتنة شديدة عن أم كلثوم وأنا مبتسم فخور.
وفي هذه الدروس كانت "الأطلال" لإبراهيم ناجي مسك الختام، فبعد أن قرأنا كلمات الأغنية وشرحناها، وبعد الاستماع كانت التعليقات، وفي العادة لا توجد تعليقات كثيرة ولذا كنا نسمع مرة أخرى وربما نغني أيضاً! لكن هذه المرة اختلف الوضع فأحدهم سأل عن سبب خلود الأطلال وقوة تأثيرها على العرب المعاصرين؟
بالطبع توجد احتمالات كثيرة. القصيدة ليست عاطفية بالمرة، حتى اسمها يدل على النهاية والموت، ورغم ذلك نجحت الأغنية بشكل منقطع النظير منذ أن غنتها أم كلثوم للمرة الأولى في أبريل/نيسان 1966 وحتى الآن. فلماذا قررت أم كلثوم آنذاك، أو قرر أحمد رامي العمل على شعر إبراهيم ناجي وتقديم هذه الأغنية في هذا العام بالتحديد؟ لا أعرف هل كانت صدفة أم أرادوها أن تكون مرثية جميلة لحقبة ناصر التي كانت قد أوشكت أن تتحول إلى أطلال!
وقال مجنون أم كلثوم التركي: أظن "الأطلال" أكثر تأثيراً لأنها معبرة جداً عن روح الثقافة العربية كما يفهمها، فالأطلال ابنة ثقافتها وتمثلها شعراً وموسيقى وأداءً، فهي رمز كبير للشعرية العربية القديمة المفتونة بالوقوف على الأطلال والبكاء عليها.
وكان لدينا طالب مبتدئ في دراسة العربية اسمه "رومان"، كان مواظباً على كل الحصص يسمع كل شيء ويسجل ملاحظاته ولا يشارك في النقاشات كثيراً. كان شديد بياض البشرة وأي إحراج يظهر على وجهه مباشرة. وهو الطالب الذي سأله الطيب صالح في حكاية سابقة: لماذا يتعلم العربية؟ فقال آنذاك إنه "شبَّ مع أسرته في إسبانيا، وإنه كان مبهوراً بجمال المعمار والموزاييك هناك، ولم يكن يعرف لماذا تختلف إسبانيا عن كل أوروبا؟ وعندما كان في السادسة عشرة من عمره، أي قبل سنتين فقط، ذهب مع أمه إلى فاس في المغرب وهناك فقط عرف إجابة سؤاله القديم عن سر تميز إسبانيا، وفرح أنه وجد الإجابة بنفسه وقرر أن يعرف هذه الحضارة ويدرس لغتها".
وكما ذكرت من قبل أنني بعد هذه الإجابة انكسفت أن أزعجه، وقررت أن أتركه في سلام يفعل ما بدا له. المهم أنه لم يكن يتحدث إلا إذا سألناه، وكان إذا تحدث لا يطيل. وفقط في هذه المرة طلب هو الكلمة، وقال إنه درس الموسيقى الكلاسيكية وكان يعزف في كورال الكنيسة. وقال إنه لا يعرف شيئاً عن الموسيقى العربية، ولكنه شعر أن أم كلثوم تُنوع كثيراً في المقامات الموسيقية، وهي في الغالب مقامات حزينة، وهذا يناسب جو الأغنية. وهي بالفعل دائرية وتشبه قصائد الشعر الجاهلي التي درسها في العام الماضي.
"فهي تبدأ بالبكاء على الأطلال ثم تحكي عن الحب الذي كان، وكيف ضاع، وأنه أمر يستحق البكاء عليه. ثم تأتي فقرة الرحلة فتصحبنا بين المروج والهضاب المزهرة، وتتحدث عن جمال الحب ورقته، وعن الأشجار والطيور وعزة المحبوب وسحره وفتنته، ثم تصف لنا طريق الحب المقمر والفرحة المتوثبة والضحكات البريئة. وهكذا ظلت تسير ونحن خلفها تائهون بين الخيالات والأوهام، وفجأة انتبهنا أننا في نهاية الأغنية، وأفقنا وتيقظنا لنكتشف ضياع الحب، وتفرق الأحبة، وأن الأطلال جرداء خالية، وأن الحياة دون حب صحراء قاحلة، ولم يعد أمامنا إلا الحزن، ومحاولة التأسي وتعلم النسيان، والرضا بالحظوظ والأقدار. وهنا لابد أن ننتبه إلى "الإجرام" الموسيقي الذي يبدأ من كلمة "وانتبهنا". بداية جديدة مفاجئة، ولكنها حزينة أيضاً.
ومع الوقت تتصاعد النبرة وتزيد الشحنة فيبدأ الجمهور في التجاوب من جديد لقد وقعوا في الفخ، ومن ثم يبدأ الحماس في التصاعد وتشارك أم كلثوم في الجريمة بآهاتها المغرية. وفجأة تتحول لمعلمة حاسمة تطالبنا بالتأسي والإيمان بالقدر، وتدق الطبول حولها متصاعدة ثم تكون النهاية الفجائية، كالسكتة الفنية، التي تقضي على كل شيء، وهنا يشعر المستمع باضطراب وحيرة فتنفجر طاقاته المختزنة في تصفيق حاد متواصل".
صراحة كنت منبهراً بما قاله وتفاعلت معه لدرجة لم أعد أدري معها إن كان ما قاله هكذا حقاً. ولكن ما أن انتهى من كلامه حتى صفقنا له جميعاً، وحاولنا إقناعه أن يتخصص في الموسيقى العربية، لأنه بالتأكيد سيفهم المعمار والموزاييك بشكل أفضل لو فهم الموسيقى العربية.
المهم عندما انتهى هذا الفصل الدراسي شعرت بارتياح كبير، ولم أعد لأم كلثوم مرة أخرى. ولكن بعد ذلك تيقنت أنه كان من أجمل الفصول الدراسية التي قضيتها آنذاك، وأنني بالفعل كنت أول المجانين!
وبعد عدة أشهر كنت أزور طبيباً شهيراً للعيون، وهو بالمناسبة من أصل مصري لكن زوجته ألمانية وأبناؤه ألمان. وكنت أشعر أن غربته تزداد بمرور الزمن، وكان يتأسف لأن أولاده لا يعرفون العربية. وكان ما أن يراني حتى يرحب بي بطريقة تلفت أنظار الجميع. وبعد أن كشف على عيني اليسرى التي كانت تؤلمني سألني فجأة إن كنت سأدرّس أم كلثوم مرة أخرى، فتعجبت لأنه يعرف، فقال: "زوجتي كانت تواظب على الدروس وتنتظر أن أكررها أو أدرّس شيئاً مشابهاً، عبدالوهاب مثلاً"، فضحكت كثيراً على هذا التوجيه ولم أعلق.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.