تحوز الأزمة الاوكرانية على تسونامي من التغطية الإعلامية وسيل جارف من المواقف اليومية يطلقها مسؤولو مختلف الدول بحيث يبدو أن لا أزمة في العالم سواها علماً أن جوهر هذه الأزمة واضح بالعين المجردة. وهو الرغبة الأمريكية الجامحة التي تستهدف إفشال مشروع أنابيب الغاز الروسي "السيل الشمالي-2" وتعتبره تهديداً استراتيجياً مباشراً. ولمواجهة هذا التهديد تعتمد خريطة طريق واضحة وصريحة؛ حيث تكون أوكرانيا هي الحجة وروسيا هي الضحية والصين هي الهدف النهائي حتى ولو أصبحت أوروبا شهيدة البرد. وبالمقابل هناك رغبة روسية ملحة تستهدف إعادة هيكلة النظام الدولي بحيث تستعيد دورها المحوري فيه بما يتشابه مع الدور الذي لعبه الاتحاد السوفييتي في النظام الدولي قبل انهياره؛ نتيجة تقديرها أن النظام العالمي ذا القطب الواحد ولَّى زمانه إلى غير رجعة.
لتحقيق تلك الرغبة رسمت روسيا خريطة طريق أيضاً تكون فيها أوكرانيا هي الحجة وأمريكا هي الزوج المخدوع والصين هي العشيق، ويبقى لأوروبا لعب دور الجوكر، لذلك يمكن الجزم بأن الأزمة الأوكرانية هي بالحقيقة عبارة عن صراع بين هاتين الرغبتين.
والسؤال البديهي الذي يطرح نفسه: لماذا أوكرانيا بالذات هي الساحة المناسبة للطرفين على حد سواء لتحقيق رغباتهم؟ هي بكل بساطة لعنة الجغرافيا؛ إذ تقع أوكرانيا بين فكي تمساح: فك موسكو وفك حلف الناتو، لذلك كلما اقترب الناتو من أوكرانيا هاج الدب الروسي.
والسؤال الثاني: هل هناك لعنة أخرى تضع أوكرانيا بين فكي كماشة إضافية؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بد من استعراض لمحة تاريخية موجزة تساعد على فك بعض الأحجيات التي سببت هذا الصخب الدولي حول أوكرانيا
أوكرانيا بين فكي الكماشة
أتى استقلال أوكرانيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي كقدر محتوم وليس نتيجة جهود الشعب الأوكراني، وبعد الاستقلال تطورت الأمور بشكل طبيعي مع حفظ حق روسيا في ممارسة الوصاية الأبوية. لكن بعد اندلاع الثورة البرتقالية سنة 2004 بدأت الحركة القومية الأوكرانية بالتبلور ووضعت خطة للتمايز عن روسيا بهدف بلوغ الاستقلال الناجز.
وبشكل متزامن تقريباً اكتملت ولادة مجموعة أوليغارشية مالية أوكرانية سطت في فترة المخاض الانتقالي على معظم ممتلكات الدولة؛ مما أتاح لها ولوج بوابة السياسة بقوة، واضعة نصب عينيها إنجاز الطلاق النهائي مع روسيا والدخول إلى جنة دول الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
خلال انتفاضة الميدان في كييف سنة 2014 ارتكبت هذه المجموعة الخطأ القاتل بالتحالف مع الحركة القومية المتطرفة الأوكرانية واستولتا على السلطة في كييف بعد هرب رئيس الدولة آنذاك. فأتى العقاب الروسي سريعاً وصاعقاً؛ حيث تم الاستيلاء على شبه جزيرة القرم وضمها إلى روسيا، ولحماية الأكثرية الروسية تم إعلان جمهوريتي "لوغانسك" و"دونباس" بعد سلخهما عن أوكرانيا.
وفي الانتخابات الرئاسية الأخيرة استعر الصراع بين أجنحة المجموعة الأوليغارشية وتحولت الانتخابات إلى معركة تصفية حساب بين الرئيس بيوتر بوروشينكو والملياردير إيغور كولومويسكي والذي نجح في إيصال مرشحه زيلنسكي إلى رئاسة الدولة، وبعد تسلم الأخير مهامه الرئاسية بدأ المناخ السياسي يتبدل تدريجياً، وإن كان ببطء شديد لصالح تيار قومي بدأ بالتفرد بالسلطة بعد إقصاء وزير الداخلية القوي آرسين أفاكوف الذي لعب دور عراب القومية الأوكرانية خلال الفترة الطويلة التي قضاها على رأس الوزارة.
خلاصة القول أن أوكرانيا بعد نجاح انتفاضة الميدان في كييف وقعت بين فكي كماشة داخلية دعمها الغرب، فكها الأول الأوليغارشية المالية وفكها الثاني النازية، ومؤخراً أصيب هذان الفكان بالصدأ؛ مما أعطى الرئيس الأوكراني قدراً أكبر من حرية الحركة.
وبالعودة إلى واشنطن، تعتمد أمريكا أسلوب الإغراء لتحقيق هدفين، الهدف الأول منع الغاز الروسي من الهيمنة على السوق الأوروبي، والهدف الثاني تحييد روسيا عن الصراع الصيني –الأمريكي.
فمن جهة تزود أمريكا أوكرانيا بأسلحة ومعدات متنوعة بكميات وفيرة ذات جودة عالية ظناً منها أن ذلك سيرفع من درجة الحماية في رأس الرئيس الأوكراني زيلينسكي؛ مما قد يدفعه إلى الذهاب للحرب بهدف إخضاع إقليمي "دونباس" و"لوغانسك" للسلطة المركزية، ومن جهة أخرى تطمئن روسيا بأنها في حال غزت أوكرانيا لن تتدخل أمريكا عسكرياً لنجدة أوكرانيا، وهذه الإشارات المطمئنة قد يتلقفها الرئيس بوتين ويبدأ الغزو. أما روسيا فلا تجيد الإغراء.. يقال إنه في زمن الاتحاد السوفييتي عندما كان مواطن يسأل عن طريقة ذهابه للسياحة في الخارج كان الجواب: على متن الدبابة.
خيارات أوكرانيا
فكيف يتصرف الرئيس زيلينسكي مع الإغراءات الأمريكية؟ الذهاب إلى الحرب أساسها الأول الثقة بالقدرة على تحقيق الأهداف والنجاح في الشفاء من كبرياء مجروحة.
وفي الحالة الأوكرانية، أي حرب لن تحقق أهدافها ولن يلتئم جرح الكبرياء فيها حيث الهزيمة وحدها ما ينتظر أوكرانيا.
أمام هذا الواقع يعيش الرئيس الأوكراني حالة من الارتباك الشديد تبدو جلية في مواقفه وقراراته ومنها التعديل الدستوري سنة 2019 الذي أضاف نصاً يضع الانضمام إلى الناتو كهدف، وهناك في الدستور ذاته نص يحظر على الجيوش الأجنبية إقامة قواعد لها على الأراضي الأوكرانية.
وفي نهاية العام المنصرم أيضاً أقر البرلمان الأوكراني قانوناً لصالح تمديد تواجد قوات حلف شمال الأطلسي على الأراضي الأوكرانية وأجاز لها زيادة عددها وعتادها.. فهل هذه القوات تعيش في الهواء الطلق أم في قواعد عسكرية؟
وفي الوقت الذي يتنصَّل فيه الرئيس الأوكراني من اتفاقية "مينسك"، أبدى رغبة في إجراء استفتاء شعبي في الأقاليم الانفصالية يلتزم بنتيجتها، وهذا يعني تخليه طوعاً عن "دونباس" و"لوغانسك" لأن نتيجة الاستفتاء معروفة سلفاً وقبل. أما الرئيس الروسي فيدرك تماماً مقدار تكلفة احتلال أوكرانيا؛ حيث يصبح مسؤولاً عن تأمين مستلزمات العيش والخدمات لـ40 مليون مواطن إضافي؛ وهذا يسبب له متاعب لا طاقة لروسيا على تحملها، ناهيك عن العقوبات الغربية، إضافة إلى ذلك لا توجد أسباب داهمة أو موضوعية كافية توجب غزو أوكرانيا.
استعراض عضلات مزدوج
والمحصلة أن نشر الرئيس بوتين لقواته هو مجرد لعبة لاستعراض العضلات وتوفير حماية إضافية لحوض الدونباس في حال هجوم أوكرانيا عليه.
لكن كل المعطيات تؤشر إلى أن الحرب بين روسيا وأوكرانيا ستبقى معاركها في العالم الافتراضي، ولن تنتقل إلى ساحات قتال حقيقية على الجبهات.
وبالتالي الخيار الوحيد المتبقي لتجاوز هذا النزاع سيأتي من أوروبا بعد تنشيط جهود "قمة النورماندي" ووضع خطة ملزمة لتنفيذ اتفاقية "مينسك" ذات الصلة بعد تعديلها بشكل يرضي الأطراف الموقعة عليها، وستذهب رغبات أمريكا وروسيا أدراج الرياح بعد ابتزاز العالم طويلاً من خلال تصوير أزمة أوكرانيا كأنه اليوم الأخير الذي يسبق يوم القيامة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.