بعد وفاة الإبراشي والهجوم الضاري عليهم.. كيف بات الأطباء “أعداء” النظام المصري؟

عدد القراءات
502
عربي بوست
تم النشر: 2022/01/27 الساعة 10:02 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/01/27 الساعة 10:54 بتوقيت غرينتش
iStock

أحد أبرز "التريندات" إثارة للجدل خلال الأيام الماضية في مصر، كان سباق التفاعل مع خبر وفاة الإعلامي المصري المحسوب على النظام وائل الإبراشي. 

تنوعت زوايا النظر إلى الحدث والتفاعل معه، بين من رأى ضرورة تناوله من منظور أخلاقي فقهي يتناول جواز إبداء بعض الارتياح بعد موت شخص كان ضالعاً في التحريض على، وتسليم، خصومه السياسيين، ما أدى إلى قيام الفريق المؤيد للإبراشي بتلبُّس دور الضحية والمظلومية، ومحاولة التمترس خلف موقف أخلاقي، في سابقة غير معهودة بالنسبة لهم على طريقة: "ضربني وبكى". 

بينما كانت الزاوية الأخرى، والتي لا تقل أهمية عن سابقتها، بخصوص حدود الدور الطبي في التعامل مع المريض، وعواقب الخروج على "القواعد الإرشادية"، فيما بدا أنه ضربٌ من الاحتجاج على الأقدار "وفش الغل" في الحلقة الأضعف دائماً، وهي الكادر الطبي. 

أياً كان فإن تلك النقاشات على الرغم من بربريّتها أحياناً وغياب آليات واضحة للفصل فيها، هي وليدة الحالة المصرية، اجتماعياً وسياسياً، في هذا الظرف التاريخي، بعد أحداث الـ3 من يوليو/تموز 2013، وهي لا بد أن تكون موضعاً للاهتمام لدى المشتغلين بحقل "الاجتماع السياسي" والمهمومين بالحالة المصرية.

وائل الإبراشي
الإعلامي المصري الراحل وائل الإبراشي – مواقعه التواصل

غير أن ما يهمنا هنا، على وجه التحديد، هو محاولة تسليط الضوء على "موقع" الأطباء في النقاش التقني وحدود المهام المتوقعة منهم في الحالة المصرية. 

ما قبل كورونا 

كما هو معلوم وملموس، فإن النظام الصحي في مصر يعاني من مشكلات جوهرية آخذة في التفاقم منذ عقود. وعلى الدوام يتجلى ذلك الوضع المتردي في نظرة صانع القرار إلى هذا المجال، فالقطاع الطبيّ الحكومي في مصر في نظر المسؤولين قطاعٌ خدمي غير مدرّ للربح، ومن ثم فإننا أمام احتمالين: إما تركه خراباً بكافة عناصره مع إلقاء اللوم على ضعف الميزانية والثقافة الشعبية التي تسعى إلى الحصول على كل شيء بالمجان، أو التحريض الدائم على خصخصته، وكأنه لا حلول وسط. 

في مفارقة دالّة على نظرة صانع القرار المصري إلى القطاع الطبي الحكومي منذ عهد مبارك، فإن المسؤولين في المساحة بين القانوني/ السياسي والتقني، كانوا يقومون بحيلة غريبة جداً لكي يخرج الرقم الخاص بموازنة الصحة في الأوراق الرسمية مطابقاً للرقم المفروض في الدستور، وهي إضافة بند "الصرف الصحي"، الخاص بموازنة وزارة الإسكان وملحقاتها إلى موازنة الصحة، في تحايل فجٍّ ومزر، ندر أن تجد مثله خارج مصر. 

تلقائياً، وفي أحد تطبيقات الداروينية السياسية ربما، كان هذا القطاع بهذه الحالة ينتقي مرتاديه، فمن سيذهب إلى تلك "المجالات الحيوية" (منشأة مقتطعة من الفضاء العام لممارسة دور اجتماعي وتقني مفترض، وهو الطب والتعامل مع الجسد)، ولكنهم في تلك الحالة الرثة هم الفقراء، الذين تسوء حالتهم عادة بعد دخول تلك الحظائر المسماة مجازاً "مشافٍ". فيما يسافر ذوو القدرة مباشرة إلى الخارج، كل حسب تفضيلاته وقدراته، ولكننا نتحدث عموماً عن المفاضلة بين ألمانيا وسويسرا. 

في تلك الظروف يلجأ ذلك المواطن العادي، عادة، ذلك غير القادر على السفر إلى الخارج أو الحصول على خدمة طبية متميزة في الداخل، والتي تقدر بالساعة أو باليوم في المشافي الخاصة، إلى "فشّ غله" وتفريغ كبته في الحلقة الأضعف؛ الطبيب وفريقه المعاون. فالمثل المصري معروف: "من له ظهر لا يُضرب على بطنه"، والأطباء في مصر بلا ظهر إلى حد كبير. 

كجزءٍ من تردّي كل الخدمات العامة نهاية عصر مبارك، وكأيقونة ثابتة حاضرة على الدوام في برامج "التوك شو"، على غرار اعتداء بعض الطلاب في إحدى المدارس الصناعية على المعلم، أو العكس، لو كانت المدرسة ابتدائية طبعاً. فقد كان لدينا مشهد دالّ متكرر، وهو قيام الأهالي من ذوي المرضى بضرب الأطباء في المشافي الحكومية، لأي سبب كان. أحياناً يكون السبب هو حث الأطباء بالقوة على إنقاذ المريض على نحو يرضي أهله، بغض النظر عن السياق والإمكانات الطبية المتاحة.

الصحة في عهد السيسي: الشكل أولى من المضمون 

يقول صناع القرار في مصر إنهم أنفقوا ما يزيد على 6 تريليونات جنيه خلال الأعوام الأخيرة، بمعدل يصل إلى تريليون جنيه كل عام، وذلك من أجل إحداث طفرة في شكل ومستوى الحياة في مصر، تجنب البلاد والمجتمع تكرار المغامرات المتهورة على غرار ما حدث في 25 يناير/كانون 2011. 

في الواقع، يعلم المطّلع على الشأن المصري أن هذه الفاتورة، بعد خصم نسبة المهدور منها للفساد أو لغيره، ذهبت إلى قطاعات محددة بعينها هي بالترتيب: المقاولات والإنشاءات، وصفقات الجيش، والنقل، والطاقة. قناة السويس الجديدة والعاصمة الإدارية والطائرات والغواصات والحاملات والقطارات السريعة ومحطات الطاقة ومصانع البتروكيماويات. 

السيسي مصر الأطباء
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي/ رويترز

يمكن لمس ذلك بوضوح في افتتاحات الرئيس، الحريص دائماً على استظهار إنجازاته بصرياً أمام المجتمع؛ فبينما تركز تلك الافتتاحات على الطرق والجسور ومشروعات الجيش فإنها تكاد تخلو تقريباً من البنية التحتية الصحية، أو توجيه الأموال لإحداث طفرة شاملة في هذا القطاع. 

في هذا السياق، لا يقر السيسي بأن البنية الصحية في مصر ما زالت متهالكة أمام أصدقائه الأوروبيين فقط. وإنما يبرر ذلك للداخل بأن إدارته رأت أن أفضل ما يمكن تقديمه للقطاع الصحي المصري هو: "المبادرات الرئاسية"، المدعومة، عادة، من أموال المؤسسات الدولية المانحة، وذلك على غرار مبادرة التعامل مع فيروس سي ومبادرات صحة المرأة وطلاب المدارس، جنباً إلى جنب مع إرساء نظام تأمين صحي جديد، يحتاج أعواماً طويلة لإنجازه، يعتمد على زيادة المساهمة التكافلية من المواطن قياساً على النظام القديم. 

وفي أفضل الأحوال كانت الحكومة تتعامل مع البنية الصحية الطبية باعتبارها "مجرد منشآت" (مقاولة)، فالمسؤول بداية من الرئيس وحتى وزيرة الصحة التي افتتحت مقراً طبياً فارهاً، تشعر بالراحة والزهو لمجرد رؤيته، ثم تُفاجأ بعد أيام أن ذلك المبنى المنيف شاغر، إما من الأطباء أو الأجهزة، أو كليهما، كما تكشف التحقيقات الاستقصائية في الصحف المحلية. 

فأولويّات الحكومة المصرية تجاه القطاع الصحي منذ صعود السيسي ونظامه إلى الحكم كانت مختلفة عما ينبغي اتخاذه لتطوير القطاع تطويراً حقيقياً. تركزت تلك الأولويات على الشكل لا على المضمون، وعلى محاولة "عسكرة" ذلك القطاع بأكبر قدر ممكن، من خلال إسناد إدارة كثير من كياناته الكبرى إلى لواءات/ أطباء، واستحداث مؤسسات جديدة تستلهم طرق الإدارة العسكرية في المجال الطبي، على غرار الهيئة القومية للشراء الموحد وكلية الطب العسكرية.

 بالإضافة إلى استغلال تلك المبادرات "لتجميع بيانات طبية" عن المواطنين، تطورت لاحقاً إلى التوسع في إجراء التجارب السريرية الخارجية على المصريين، ومحاولة استيفاء الديون المعنوية للأشقاء الخليجيين في صورة نفوذ اقتصادي على القطاع الطبي المصري (الإمارات خاصة)، وهو ما انعكس على أداء السلطات في التعامل مع جائحة كورونا، التي عرّت تلك الأولويات وكشفت انهيار القطاع الصحي الحكومي.

في أكثر من مناسبة، اعترف السيسي بشكل مباشر، أن أحد أغراض تلك المبادرات، التي اعتمد عليها النظام بديلاً عن تبني القطاع الصحي قطاعاً ذا أولوية مثل القطاعات الأخرى كالإسكان والنقل والطاقة، تهدف إلى تجميع بنك بيانات صحي عن المواطنين، فيما يُعرف في الحقول الثقافية خارج السرديات الرسمية بأنه أحد أشكال "السياسات الحيوية". 

على سبيل المثال، فإلى جانب المبادرات التي استهدفت فئات محددة مثل النسوة وطلبة المدارس، وجدنا مشروعات غريبة عن الاحتياجات الرئيسية لتطوير قطاع الصحة الحكومي في مصر، مثل مشروع مشتقات البلازما، ومشروع الجينوم المصري الذي يشرف عليه الجيش. 

لا مشكلة في أن تقوم الدولة بتأسيس بنك معلومات صحي عن المواطنين، فهذا يحدث بشكل أو بآخر في كثير من دول العالم، ولكن المشكلة في أن يقوم أحد أسوأ الأنظمة المهووسة بتوظيف التكنولوجيا والبيانات في الضبط الاجتماعي بتلك المهمة، بمعزل عن الحدود الدنيا للقواعد الأخلاقية المفروضة لتنظيم مثل تلك الممارسات. ناهيك طبعاً عن اعتبار تلك الطريقة، هي الأولوية الرئيسية في تطوير القطاع الصحي، عوضاً عن الطرق المعروفة، وهي الارتقاء بالكادر البشري وضخ استثمارات كبيرة في تطوير المنشآت والتقنية.

كورونا وانكشاف القطاع الصحي 

في إحدى المناسبات العسكرية ذات الطابع القومي، تحدث السيسي عن ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، بازدراء، واصفاً إياها في معرض التحذير من محاولات تكرارها بأنها أدت إلى أن قامت مصر "بتعرية كتفها وكشف ظهرها" أمام العالم. 

ربما يجدر بنا استعارة ذلك التعبير القاسي من السيسي، وإعادة توظيفه توظيفاً صحيحاً لوصف ما حدث للقطاع الطبي المصري نتيجة تعامل الحكومة غير المهني وغير الأخلاقي مع المواطنين في إدارة أزمة كورونا.

بحكم التعريف، فإن "فيروس كورونا" كان اختباراً لكفاءة المنظومة الصحية العالمية والمنظومات المحلية، إذ نحن أمام حالة مرضية ذات طبيعة وبائيّة، سريعة الانتقال، لأحد الفيروسات الجديدة التي لم تعتد الأطقم الطبية وشركات الدواء على التعامل معها، خلافاً لأنفلونزا الخنازير والطيور مثلاً، وهو ما يعني أن الادعاءات الرسمية لكل دولة عن قدرتها على التعامل مع الأزمات ستكون موضعاً للتقييم. 

طالبة مصرية يتم فحص درجة حرارتها بجامعة القاهرة – رويترز

أخذ الفيروس مساراً معيناً في انتقاله وانتشاره بين دول العالم، فمع أنه، وفقاً للسرديّة الشائعة، بدأ من الشرق الآسيوي، الصين تحديداً، إلا أنَّ أكثر المناطق التي تأذَّت منه بشكل مباشر كان الغرب الأوروبي، وبالأخص دول مثل إيطاليا. 

ومع ذلك ورغم كون الجغرافيا المصرية كانت أقل تضرراً على نحو مباشر بمسارات انتقال المرض، فإن تعامل النظام المصري مع الأزمة كان مثيراً لدهشة الكثير من المراقبين على مستوى العالم؛ فقد:

1. تأخرت السلطات على نحو ملحوظ في اتخاذ قرار إيقاف الرحلات الجوية مع الصين، خلافاً لمعظم دول العالم. 

2. تأخر السيسي أيضاً بشكل ملحوظ في الظهور على الإعلام لمخاطبة الناس حول الأزمة، عكس معظم الزعماء الذين سارعوا في التواصل مع مواطنيهم، فيما ترجح التقارير أنه كان مصاباً وقتها بالفيروس، بعد اختلاطه بحشد من الضباط في اجتماع كبير، أدى لاحقاً إلى وفاة قياديين كبيرين في الجيش جراء العدوى. 

3. بدا أن هناك تلاعباً مقصوداً في البيانات الرسمية حول الأزمة، نتيجة تعمد السلطات عدم إجراء المسحات الطبية على نطاق واسع، وهو ما ظهر في الكمّ الكبير للحالات المكتشفة في دول أجنبية، بعد قدومها من مصر، دون أي إجراء من السلطات المحلية، وهو ما ظهر أيضاً بشكل موثق في عدد من التحقيقات التي أعدتها "بي بي سي" عن طريقة تعامل السلطات مع الأزمة.

4. ذهبت معظم الجهود الحكومية الرسمية إلى مسارعة التعاقد على تصنيع، واستيراد، أكبر كمّ ممكن من اللقاحات الأجنبية، وذلك فيما يبدو، لأنه أرخص الحلول في ذلك المضمار، ومع ذلك فقد واجهت السلطات تأخيراً ملحوظاً في كثير من مراحل الأزمة في تسلم وتوطين اللقاحات، بالمقارنة بمنافستها الإفريقية في هذا المضمار؛ المغرب. 

5. بالرغم من العجز في تدبير المستلزمات الطبية الأساسية، والذي ظهر بوضوح في الاستغاثات الواسعة على مواقع التواصل لتدبير متطلبات منع انتقال العدوى للكوادر الصحية، فقد كانت السلطات تمارس سخاءً شديداً في إرسال تلك المساعدات إلى الخارج مثل إيطاليا والولايات المتحدة، لأسباب سياسية، تتعلق غالباً بتحسين صورة النظام عالمياً، باعتباره طرفاً مهماً في المنظومة الدولية. 

6. مع التجهيل الإعلامي الرسمي المتعمد بإلقاء المشكلة على عاتق المواطنين، أو الترويج لنظريات مؤامرة وعلاجات غير فعالة، كان دور الجيش أبعد ما يكون عن التعامل العلمي مع الأزمة، إذ اكتفى سلاح الحرب الكيمائية "بتطهير الأسطح" في الأماكن العامة، رغم أن المرض في الأساس ينتقل عبر الاختلاط والسعال "والعطس" بين الناس. 

وبطبيعة الحال، لم تحتمل المنظومة الطبية، التي لم يتم تطويرها للوفاء بالتزاماتها الأولية تجاه المواطنين خلال الأعوام الماضية، كالعمل على مضاعفة حجم الأسرة وتحسين الوضع الاجتماعي للكوادر الطبية، لصالح قطاعات أخرى أكثر ربحية وأكثر أهمية بالنسبة للدولة، ما أدى إلى الانفجار والانكشاف، الذي كان سيؤدي في أي مجتمع آخر لموجة من الإقالات والمحاكمات للمسؤولين عن هذا الوضع.

"الحِيطة المايلة" والحلقة الأضعف

تحتاج السلطة إلى من تحمّله أمام المواطنين مسؤولية ذلك التدهور، ويحتاج المواطنون إلى تفريغ تيارات المشاعر السلبية، من هلع وغضب خوفاً على ذويهم المرضى، في طرف يمكن التعامل معه، فمن ذلك الطرف؟ 

اعتمدت الحكومة على المقاربة الأمنية في التعامل مع استغاثات الأطباء التي لو لم يتم إخمادها سريعاً قد تؤدي إلى مشكلات اجتماعية خطيرة، تهدد استقرار النظام السياسي، وذلك عبر إحالة كل من يتذمر منهم على نطاق واسع إلى التحقيق والاحتجاز في مقرات أمن الدولة، عصا دون جزرة. 

وزيرة الصحة المصرية السابقة هالة زايد مع مجموعة من مساعديها

كذلك، طلب السيسي من الأطباء سرعة إنهاء أي مشكلات فئوية تتعلق بضرورة تحسين أحوالهم في ذلك الظرف الصعب، على حد قوله، لأن ذلك مناف للوطنية، بعد أن قام بزيادة أجورهم "بملاليم" أثبت العاملون في مجال الحسابات الطبية أنها قد تتضمن خصومات أكثر من كونها زيادات، لاعتبارات تتعلق بطريقة حساب الضرائب على الشرائح المختلفة للرواتب في القطاع الحكومي المصري، فبعض الزيادات قد تؤدي إلى وضعك في شريحة ضريبية مرتفعة تؤدي إلى خصم الزيادة وبعض الجنيهات فوقها. 

بدلاً من تعزيز وضع الكوادر الطبية وتحفيزهم وطنياً، هدد النظام بتحويل "الصيادلة" إلى أطباء، وهو ما لاقى استهجاناً كبيراً من النقابة، وحمّل رئيس الوزراء مصطفى مدبولي الكادر الطبي، الذي غادر البلاد إلى الخارج أو فضل العمل في المشافي الخاصة، على حد زعمه، مسؤولية تردي أحوال القطاع الطبي وعجزه عن تقديم خدمة جيدة للمواطنين في الأزمة.

في نفس الوقت، فضلت شريحة معتبرة من الجمهور الخائف من سياط النظام أن تفرغ غضبها منه في وجه الحلقة الأضعف؛ الأطباء، ما أدى ليس فقط لارتفاع الوفيات في صفوف "الجيش الأبيض" كما أطلق عليهم إعلام النظام، نتيجة غياب المستلزمات وضعف النظام الإداري، ولكن أيضاً إلى ظواهر مثل رفض الأهالي دفن الأطباء المتوفين بسبب العدوى في قراهم بذريعة الخوف من انتقال العدوى، ما طرح سؤالاً بديهياً مشروعاً: هل كان الأهالي سيفعلون ذلك أيضاً لو كان الضحية ضابطاً أو شخصية مرموقة؟

كما استقوى عدد من المشاهير بشكل واضح على القطاع الطبي، مثل شقيق الكاتب المعروف في الأوساط الشبابية أحمد مدحت الذي أقسم بأغلظ الأيمان أنه لن يترك حق أخيه المتوفى بسبب إهمال الأطباء، على حد قوله، وذوي اليوتيوبر المعروفة "ماما سناء"، الذين قالوا إنهم سيسلكون مساراً قضائياً ضد الأطباء لأنهم لم يستطيعوا توفير مكان لها في المستشفى الحكومي!

وائل الإبراشي من جديد 

بعيداً عن كورونا قليلاً، ولكن في نفس السياق، فقد حاول بعض "الإنفلونسرز" ممارسة نفس اللعبة غير الأخلاقية بحق الكادر الطبي في أحد المستشفيات الخاصة، بعد وفاة اليوتيوبر مصطفى الحفناوي؛ إذ تعمَّد زملاء المتوفى نصب شرك لأحد الأطباء عبر تصوير لقاء بينهما يجري خلاله استنطاقه بما يؤدي إلى إدانته طبياً بالإهمال، ولكن الطبيب كان مهنياً كفاية للرد المفصل عن تساؤلات زميل المتوفى، وموفقاً كفاية لملاحظة أن الشاب يسجل الحوار بينهما. 

ما يجري مع الطبيب المعالج للإعلامي الراحل وائل الإبراشي من تحريض وتصعيد ممنهج ضده من أسرة الإبراشي تارة، ومن محبيه تارة أخرى، والاتهامات بالأخونة، وتعمد القتل، والتجريب غير المحسوب، لا يمكن اعتباره إلا فصلاً جديداً في مسلسل الاستهانة بالوضع الاجتماعي للأطباء. 

بطبيعة الحال، ليس ذلك دفاعاً مسبقاً عن ذلك الطبيب، فكل إنسان معرض للخطأ، والأطباء بشر، ولكن تسلسل الأحداث كذلك يشي بهذا الحكم؛ فلدى محبي الإعلامي الراحل غضب من "شماتة" خصومه فيه بعد وفاته، وهو نفس الشعور الذي بدا موجوداً لدى كل زملائه الإعلاميين ولدى المؤسسات الرسمية في الدولة. 

في تلك الحالة، حيث يكون المتوفى مشهوراً، فإلى من ستوجه أصابع الاتهام؟ للأطباء، أعداء النظام، ولكن المظلمة ستكون أكبر لأن المتوفى ليس مواطناً عادياً وإنما إعلامي محسوب على السلطة، توفي ضمن مجموعة من رجالها، مثل تهاني الجبالي وإبراهيم حجازي، وهو ما بدا واضحاً في حوار الطبيب المتهم مع الإعلامي عمرو أديب وشعوره بالغبن والظلم، طبيب في مواجهة تحريض دولة! 

لن تؤدي سياسة الاستهانة بالأطباء، من السلطة والمواطنين، إلا إلى مزيد من التحسس لدى الكادر الصحي من التفاني في العمل، لصالح نظرية "العمل على قد الفلوس"، ما داموا هم الحلقة الأضعف في المعادلة، وموضع الاتهام دائماً، وهو ما يقوله الأطباء أنفسهم، ولن تؤدي، على المدى الطويل، إلا لزيادة حالات الهجرة إلى الخارج، وهو ما سيدفع ثمنه المواطنون في المقام الأول، لأن النخبة ستذهب للعلاج لدى نفس الأطباء، ولكن خارج البلاد، حيث يحظى الطبيب بما يليق به من تقدير مادي ومعنوي.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد سلطان
كاتب مصري مقيم بأستراليا
كاتب مصري مقيم بأستراليا
تحميل المزيد