لم يُثر الفيلم العربي الأول ذو الإنتاج الأصلي لشبكة Netflix، أصحاب ولا أعزّ، الجدل كما اشتُهر عنه، فالجدل هو شدٌ وجذبُ بين مؤيدٍ ومعارض، وإنما ما يبدو ظاهراً لي الآن أكثر أنّ الفيلم أثار عاصفة كبيرة من السخط، والرفض والتحقير، وتسبّب في موجة انتقادات مُهينة لممثلي الفيلم، وعلى رأسهم النجمة المصرية منى زكي، وذلك وسط قلة قليلة تكاد لا تُرى من المُنادين بحرية الإبداع وممن يؤمنون بأنّ الفنّ عليه أن يكشف خبايا الواقع، مهما كان فسادها لا يُحتمل.
كانت عاصفة الغضب هذه -إن لم أكن مُخطئة- مصرية خالصة، فلم أرَ احتجاجات لبنانية أو انتقادات عربية أخرى، فالفيلم مسّ المصريين أكثر من غيرهم، رغم وجود ممثلة مصرية واحدة فيه، ورغم عرضه على منصة غير مجانية، وأنا كامرأة مصرية عادية جداً، أتفهّم جميع الأسباب التي دعت لكل هذا الهجوم تفهمّاً كاملاً، وأعرف تماماً لماذا انفجر كل هذا الغضب، وإن كنت أرى أنّ ثورة الأخلاق المتفجّرة هذه كان يُمكن إخمادها بنهاية مختلفة للفيلم، نهاية يلقى فيها كل فرد ممن كانوا حاضرين في هذه الليلة الغبراء جزاءه المُستحق، جزاءً يليق بشناعة جُرمه في حق نفسه، وفي حق المجتمع، الذي يعتبر نفسه وليّاً على من أخطأ.
عُذراً.. ليس على جميع من أخطأ، على بعضهم فقط.
تخيل معي لو حدث هذا؟ نهاية مختلفة، يُجازى فيها كل واحدٍ بما يستحقه. ألم تكن ستهدأ حدة الانتقادات حينها ولو قليلاً؟ ولكن قبل أن نصل لذلك، دعونا في البداية نتطرق لسؤالٍ مهم: لماذا كل هذا السخط على فيلم أصحاب ولا أعزّ؟
قالوا عن أصحاب ولا أعزّ.. انتقادات بعضها حقيقي وبعضها خاطئ
"فيلم مسروق ومتقلّد بالحرف"
لمن لا يعرف، فالفيلم تم تسجيله في موسوعة غينيس للأرقام القياسية في عام 2019، كأكثر فيلم أُعيد تقديمه على مستوى العالم في تاريخ السينما، وذلك بعد صدور نسخته الإيطالية الأصلية Perfetti sconosciuti بثلاثة أعوامٍ فقط في عام 2016.
إذاً نحن نتحدث عن قصة شهيرة جداً، لفّت العالم كله من شرقه لغربه فيما يُقارب الـ20 نسخة، منها نسخ أصلية اشترت حقوق الفيلم، وأعلنت أنها Remake أو نسخة مكررة من قصة الفيلم الأصلية، كالنسخة العربية من الفيلم، أصحاب ولا أعز، وهو ما يبدو في اسم الفيلم بالإنجليزية Perfect Strangers، ومنها نُسخ لم يُعلن صُنّاعها بشكلٍ رسمي أنها مأخوذة عن القصة الإيطالية الأصلية لصاحبها Paolo Genovese.
إذاً دعنا نعترف أنّ هذه القصة المثيرة قد لاقت نجاحاً في العالم أجمع لأسبابٍ حقيقية، من بينها أنّها تحدث وأنّنا نعيشها فعلاً باختلاف التفاصيل، مهما أنكر البعض ذلك، ومهما أرادوا أن يُصدّقوا ذلك فعلاً.
قالوا إنّه "لا يُعبّر عن واقعنا، ولا يُناسب قيم مجتمعنا"
هذا حقيقي، ولكن دعنا نتمهل قليلاً، عن أي مجتمع تتحدث؟ المجتمع المصري أم العربي ككل؟
الفيلم يعرض أحداث ليلة يجتمع فيها مجموعة من الأصدقاء القُدامى في بيت أحد أصدقائهم في ليلة خسوفٍ قمرية.
الآن.. دعنا نسأل الأسئلة المهمة:
ما جنسياتهم؟ الجميع لبنانيون كما يبدو، فيما عدا الزوجين المصريين المُتمثلين في إياد نصّار ومُنى زكي.
أين المكان؟ في لبنان، على ما يظهر أيضاً، وهي واحدة من أكثر البلاد العربية تحرّراً وانفتاحاً.
ما المستوى المادي والاجتماعي للحاضرين؟ من الواضح أنّ أغلب الموجودين من طبقة اجتماعية راقية، ومستوى ماديٍّ ممتاز، لذلك لم يكن غريباً أن نُشاهد هذا النوع من الانفتاح البادي في وجود المشروبات الكحولية، والحوار الجريء قليلاً ذي الإيحاءات، والقُبلات والأحضان فيما بين الأصدقاء وبعضهم وأمام الأزواج، فكل هذه الأشياء تعتبر طبيعية لجزءٍ وليس لجميع من ينتمون لهذه الطبقة..
إذاً هذه المجموعة من الناس لا تُمثلني أنا ولا كثيرين غيري، الذين ينتمون للطبقة المتوسطة. وكونها تُمثل فئة محدودة من مجتمعنا العربي لا يعني أنّها غير موجودة، ناهيك عن فكرة أنّ الفن لا ينبغي بالضرورة أن يخرج عن الواقع، إذاً لماذا صُنع الخيال؟ وما معنى الإبداع؟
هذه المجموعة موجودة جميعها في عالمنا شئنا أم أبينا، بشكلٍ محدود، وليس نادراً كما يتوّهم المعترضون على الفيلم. ربما باستثناءٍ واحد، الأب الذي يترك لابنته الحرية في أن تُمارس الجنس إن أرادت، مُكتفياً بأن يُذكّرها على استحياءٍ بأنّ ذكرى هذه اللحظة ستبقى معها طيلة العمر، فعليها أن تُفكر جيداً، حتى لا تندم فيما بعد.
أعتقد أنّ صُنّاع النسخة العربية قد أخطأوا بإدراج هذا المشهد، لأنّه يبقى الجزء الأصعب من بين القصص جميعها، والذي لن يقبله -تقريباً- أحدٌ على الإطلاق في عالمنا العربي.
لذلك أنا لم أشعر بالغضب لأني أعلم أنّ هذا الفيلم لا يُمثلني، ومُخطئ من يظن أنّ صُنّاع الفيلم يُريدون القول بأنّ هذا الفيلم يُمثل الأغلبية في مجتمعنا.
ما أضحكني من بين الانتقادات الأخرى هو تعليق يقول عن الفيلم إنّه: مُمّل.
مُمّل؟!
أتفهم أنّ البعض قد يشعرون بالملل من الأفلام التي تُجرى في مكانٍ واحد، ولكن ذلك لأنهم لا يُقدّرون فعلياً معنى أن يكون الحوار هو البطل الحقيقي للفيلم، وهو ما صنع أفلاماً عظيمة لا تُنسى، مثل فيلم 12 Angry Men مثلاً.
في أصحاب ولا أعزّ سبعة أصدقاء يجتمعون في ليلة مميزة، يُقال عنها إنّها تؤثر على الجميع بشكلٍ غريب، ويُقررون أن يلعبوا لعبة ما عن طريق هواتفهم المحمولة، أشبه بلعبة "الصراحة" التي كنا نلعبها قديماً، والتي لم تكن تنتهي على خيرٍ في كثيرٍ من الأحوال، وهي اللعبة الأكثر خطورة لسبب وجيهٍ واحد، وهو أنّ الهواتف المحمولة لا يُمكنها أن تكذب.
فكيف يُمكن اعتبار هذه القصة، بأي شكلٍ كان، قصة مملة؟
هذا إذا كان المُشاهد يهتم بأن يُصغى بالطبع..
الشيء المشترك بيننا وبين الأصدقاء السبعة.. وسر نجاح فيلم أصحاب ولا أعزّ
في رأيي أنّ هذه القصة بشخصياتها ما هي إلا صورة جديرة بالتأمل، المثير فيها أنّنا نتشارك مع أصحابها في شيءٍ محوري، هو أنّنا نحن أيضاً لدينا أسرارنا التي لا نُريد لأحدٍ أن يكتشفها أبداً. ولدينا أخطاؤنا التي نخجل من أن يعرفها أقرب المقربين، وأنّنا نُخفي أشياء لو عرفها من حولنا لانقطعت صلتهم بنا بلا رجعة، وأنّ من حولنا يفعلون نفس الشيء بالضبط.
ليس بالضرورة أن تكون هذه الأشياء مدمرة كالخيانة والمثلية كما في الفيلم، وإنما الشيء الوحيد الذي يجمعنا جميعاً هو أنّنا لسنا من يظنّ الآخرون حقاً، وأنّ الآخرين ليسوا من نظنّ نحن حقاً.
لأننا كما يقول الشعار الدعائي للفيلم الأصلي، لدينا ثلاث حيوات، حياة عامة، وحياة خاصة، وحياة ثالثة بها أسرار لا يعرفها سوانا.
وكاتم أسرارنا هو ذلك الجهاز الذكي، الصندوق الأسود كما تم وصفه بالفيلم. ذلك الجهاز الصغير، هو من يعرفنا حقاً.
ومن يفلت من هذه القاعدة هو استثناء نادر فعلاً.
لهذا نجح الفيلم في العالم أجمع، ولهذا صُنعت منه كل هذه النسخ، فرنسية وإسبانية وتركية وروسية ومكسيكية ومجرية وهندية وكورية وصينية ويابانية ورومانية وألمانية وغيرها…
نهاية أصحاب ولا أعزّ.. ماذا لو؟
أتت نهاية فيلم أصحاب ولا أعزّ ضبابية لبعض المشاهدين، الذين اختلط عليهم الأمر، ولم يفهموا ما حدث في النهاية، حيث كانت الخمس دقائق الأخيرة من الفيلم هي ما حدث فعلياً حينما رفض الأصدقاء أن يلعبوا تلك اللعبة الخطرة، وعلى رأسهم صاحب المنزل الذي استضاف الأصدقاء فيه، وأنّ مشاهد اللعبة كانت بالكامل عبارة عن إجابة سؤال: ماذا لو؟ ماذا لو انكشف السرّ؟
هل سيستطيع أحدنا أن ينظر في وجه أخيه من جديد؟
وهو ما دعاني أنا لأسأل نفسي أسئلة أخرى:
ماذا لو كانت النهاية مختلفة؟ هل سيرضى الجمهور الغاضب؟ والذي أغلبه من الذكور كما أعتقد، مثلاً بأن يُعاقب "إياد نصّار" زوجته "منى زكي" على خيانتها الإلكترونية بالطلاق أو الضرب أو القتل ربما؟
وأنا طبعاً غير ناسية أنّ "نصّار" نفسه هو رجلٌ خائن، ولا أعرف حقيقة هل يعترف الرجل بحق زوجته في محاكمته بالطريقة التي ترتضيها هي، أم أنّ ذلك الحق قد سقط عنها بفعلتها المُشينة؟
وماذا لو قام الأصدقاء باحتقار صديقهم الذي أعلن مثليته وتوجيه خطاب من اللعن والكراهية له، ونبذه أمام الجميع، أو ربما فعل ما هو أكثر من هذا بإراقة دمه مثلاً، هل سيرضى الغاضبون حينها؟
ماذا لو واجه "جورج خبّاز" امرأته "نادين لبكي" بخيانتها، بدلاً من نظرات الشك التي بدت على وجهه قرب النهاية؟ ماذا لو قام بتطليق زوجته مثلاً وانتقم من صديقه بأي شكلٍ من الأشكال، وهو الصديق الذي خانه مرتيّن؟ هل سيُشفى غليل الجمهور حينها؟
أعتقد أنّه لن يُشفى، لأنهم يُريدون له نهاية أخرى مُفجعة رغم ذلك، لكونه أباً ديّوثاً، ارتضى بأن تُمارس ابنته الجنس إن أرادت، لهذا فهو يستحق نهاية ربما ينبغي لها أن تكون النهاية الأكثر شناعة من بين الأصدقاء جميعهم.
ربما لو لقى كل مخطئ جزاءه المُستَحقّ جرّاء أفعاله في الفيلم لتنفس الجمهور الصعداء مع النهاية، ولشعروا بالارتياح، وكأنّه بهذه النهاية انتهت الشرور من الدنيا جميعها بغير رجعة.
هذا هو حالنا نحن العرب.. نكره النهايات المفتوحة، ونُريد دائماً إجابة شافية لكل الأسئلة..
أخيراً.. لفت نظري شيء في النسخة التركية من الفيلم، والتي كانت بعنوان Stranger in My Pocket في عام 2018، وهو أنّ الزوج الذي قام بدوره الممثل جورج خبّاز، والذي نعرف أنه ليس خائناً لزوجته ولله الحمد، يعطي لزوجته هاتفه في نهاية الفيلم كي تتصفحه كما تحب، ويخبرها بأنّه لا يستخدم كلمة سر من الأساس، وبينما تبتسم زوجته -الخائنة- في رضا، نراه وهو يطمئن سريعاً على هاتفه الآخر، المُخبّأ في درجٍ سري لا تعلم عنه زوجته شيئاً.
وهي لقطة تدعو للتأمل حقاً..
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.