من أين نبدأ الرحلة؟
لقد مر أحد عشر عاماً ولا أدري لماذا توقفت ذاكرتي عند هذا التاريخ، حتى أصبحت ذكرياتي السابقة له تتلاشى خلف ذكريات يناير الأثيرة.
تهل البشائر من كل عام بحلول ذكرى شتاء يناير، الذي حمل في طياته آمال وأحلام الحالمين بالحرية لوطن مستنزف لعقود تحت نير الديكتاتورية العسكرية التي وارت أحلام وأبدان كثير من الشعب المصري تحت الثرى.
كل الطرق كانت تؤدي إلى "25 يناير" ككرة الثلج التي راكمت ثليج نضال وكفاح فئات شتى، قاومت انحدار الأمة نحو الهاوية، هاوية التوريث والفساد والاحتكار وطغيان المصالح واستبداد التهميش والقتل والتعذيب، حتى أصبحت مقدرات الشعب المصري تحت سيطرة قلة مالكة كانت وما زالت هادمة لأي طريق إلى الحرية حتى أتى طريق "25 يناير".
"فعلتها تونس"
دعوة على مواقع التواصل الاجتماعي أطلقتها حركة "شباب 6 أبريل" وصفحة "كلنا خالد سعيد"، للنزول يوم 25 يناير/كانون الثاني 2011 لجميع أطياف وفئات المجتمع المصري للمشاركة والتعبير عن رفض الممارسات الممنهجة للتعذيب من قبل وزارة الداخلية وجهاز أمن الدولة.
على إثر ذلك قمت بمشاركة زملائي في حركة "شباب 6 أبريل" بتوزيع منشورات الدعوة لليوم من خلال إلقائها من أعلى الكباري وفي المواصلات العامة وفي الأزقة والأحياء، ودسها بداخل الجرائد وبين المساحات الأمامية للسيارات. كانت تملؤنا الرغبة في عهد جديد خال من الديكتاتورية نحو نسيم الحرية. ولم يقتصر الحشد على المنشورات الدعائية لليوم فقط، بل اشتمل على مجموعات متفرقة في جنح الليل تنتشر بعلب "الإسبراي" للكتابة على حوائط القاهرة "انزل 25 يناير"، ولصق الملصقات الدعائية غير عابئين بخفافيش الظلام من زبانية حبيب العادلي وزير الداخلية وحسن عبد الرحمن رئيس جهاز أمن الدولة آنذاك.
كان شغلنا الشاغل الوصول إلى أكبر عدد من المواطنين وحثهم على المشاركة، ودفعهم إلى ذلك من خلال عرض ما حدث في تونس، وأن كل شيء ممكن، وأن باستطاعة الشعوب انتزاع حريتهم.
كرٌّ وفر
اليوم: الثلاثاء الموافق الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني لعام 2011
الساعة: الثانية بعد الظهيرة
مكان التجمع: دوران شبرا أمام كلية الهندسة بشبرا
وضعت خريطة التظاهرات والتجمعات حينذاك من مجموعة من الرفاق وكان محدداً سلفاً تواجدي برفقة صديق في التجمع الخاص من منطقة دوران شبرا، أحد الأحياء العتيقة بالقاهرة. انطلقنا باكرا لاستطلاع مكان التجمع فوجدنا تعزيزات أمنية مشددة وأعداداً مهولة من أفراد الأمن المركزي والعديد من الرتب الشرطية، ثم بدأنا التحرك في المكان لرصد أوجه الرفاق. كنت أحمل علبة اسبراي لرش زجاج المدرعات في حالة الفض وتحسباً لمحاولات الكر والفر.
وحين دقَّت عقارب الساعة الثانية ظهراً قمت برفع علم مصر، وهتف صديقي يسقط يسقط حسني مبارك، فوجدنا بعض الرفاق قد التحموا معنا كجسد واحد، وبدأت مسيرة الحرية حتى حاوطتنا تشكيلات الأمن المركزي أمام بعض المحال التجارية، ولم يكن لديهم أمر بالتعامل العنيف في البدء، فاستطعنا المرور من خلالهم، حيث قمنا بخرق في كتلة الأمن المركزي وانطلقنا في أزقة شبرا، ندعو الجميع للنزول ومساندتنا، وكانت الأعداد تتزايد، ومن شرفات المنازل نجد دعم الأهالي.
لا أنسى وجوه أهالي شبرا من شرفاتهم وملامحهم الممتزجة بالاستغراب والتخوف والابتسام والتأييد، لا أنسى وجه رجل كبير السن يقف في شرفة منزله يهتف بهتافنا ويكاد الدم ينفجر من عروقه تأييداً لنا. كانت النشوة تحيط بي، لم أكن أعرف أين أنا، فكانت مشاعري خليطاً من الحماس والحلم والرهبة والانطلاق. كنت خفيفاً كفراشة تحلق مسرعة في الفضاء الرحب تستمتع بالحرية. كنت أستنشق الهواء حتى تمتلئ رئتاي بالهواء المحمل بنسيم الحرية، فتلك المرة الأولى التي أشعر بكل فخر وامتنان أنني حر.
استمرت المسيرة بهتافات تعلو من كل جانب، واستمر انضمام والتحاق الجماهير وكان صوت الجماهير صائحاً:
"يا حرية فينك فينك، الطوارئ بينا وبينك
يا أهالينا انضموا لينا
يسقط يسقط حسني مبارك
بالروح بالدم نفديك يا وطن
انزل انزل انزل
مش هنسلم مش هنطاطي، احنا كرهنا الصوت الواطي"
كانت هناك محاولات مستمرة لتفريقنا، ولكن كان كل شغلنا الشاغل أن نسير في كل شوارع مصر صائحين بالغضب الكامن بداخلنا حتى يصل صوت الحرية إلى أهالينا. وفي تمام الساعة الرابعة عصراً كنا على مشارف ميدان التحرير، حيث تتجمع المسيرات في نقطة الالتقاء بداخل الميدان. كانت مسيرات أخرى قريبة من نقاط تجمع أخرى قد وصلت قبلنا بدقائق، وكشر الأمن المركزي عن أنيابه بإلقاء قنابل الغاز المسيل للدموع. كانت قنابل الغاز تحلق فوق رؤوسنا، تصيب الجميع بحالة الاختناق وعدم الرؤية. كنت مجهزاً للصمود أمام ذلك بإحضار قنينة الخل حتى أغسل بها وجهي كمحاولة لعدم الاختناق. ولمتابعة ومساعدة من يتعرض للاختناق جراء الغاز. وقمت مع مجموعة من الأصدقاء بإخبار من نستطيع الوصول إليه باستخدام الخل وغسل الوجه المستمر، كنا نقاوم إطلاق الغاز بالدخول لبعض المقاهي والمحال التجارية، وبشجاعة الرفاق في المقدمة من شارع محمد محمود وشارع القصر العيني في صد ومقاومة جحافل الأمن المركزي واستمرار الحشد على ميدان التحرير، توقف إطلاق الغاز بعد بضع ساعات وأصبح الميدان ملكاً لنا.
كان الجميع في حالة من النشوة والفخر بتوافد الرفاق والجماهير إلى الميدان، وانحصر تواجد الأمن على حدود شارع محمد محمود وشارع القصر العيني. كانت هناك أخبار متداولة عن التشويش على خطوط الهواتف المحمولة وعن قطع الإنترنت. وكان التحرير في أبهى صوره بتواجد الجماهير، وكانت الألباب متعلقة بالآمال، وأن حلمنا قابل للتحقق. كان الجميع يبتسم في وجه الآخر، وكانت الوجوه تتساءل هل هذا حقيقة؟ كانت الأحضان والابتسامات والميدان لوحة لطالما سعينا إليها. كان الجميع يستشعر ذلك النسيم، ودارت المناقشات بين الحركات والمجموعات والأفراد الحاضرين عن ماذا بعد التحرير. كان البعض يقترح الاعتصام والبعض يقترح استمرار الحراك الاحتجاجي على مدار الأيام. ثم بدأت الأعداد تقل حتى أصبح تجمع الرفاق منحصراً في مجموعات وكتل أمام تشكيلات الأمن المركزي الرابض على مدخل شارعي محمد محمود والقصر العيني وكانت هناك تشكيلات أخرى بداخل الميدان تحاوطه. ثم اقتحم ذلك الجمع صوت سرينة المدرعات، وذلك في تمام الساعة الثانية عشرة من صباح اليوم التالي. وهنا انتفض المتظاهرون للدفاع عن ميدانهم، وبدأ إطلاق قنابل الغاز المسيلة للدموع. واستمر الحشد في محاولة صد عملية الفض، ولكن كان قد تم اتخاذ قرار بتفريقنا بالقوة فتم استخدام الغاز وقنابل الصوت والرصاص المطاطي فتفرقنا مهرولين من ذلك العنف، ولكن مع الإصرار على استكمال المسيرة تم الانفصال في مجموعات متفرقة تجوب حواري وأزقة منطقة وسط البلد في مناطق باب اللوق وحي عابدين والمناطق المجاورة، فكنا عبارة عن مجموعات صغيرة تجوب الحواري بعد منتصف الليل، نهتف وندعو الأهالي في الاستفاقة والانضمام لنا. وكانت قوات الأمن تطاردنا في تشكيلات بداخل المدرعات وسيارات الميكروباص، واختطف الرفاق من جوانب الحارات. واستمرت محاولات الكر والفر واختطافنا في الساعات الأولى من فجر يوم الأربعاء السادس والعشرين من يناير/كانون الثاني. كانت ملحمة مستمرة فداء لحرية مشتهاة تُبذل من أجلها الدماء والأرواح.
وحين اشتد الخناق وكثُرت الكمائن البوليسية ووصلت حالة الإرهاق إلى ذروتها وبدأ الرفاق يتساقطون، لم يكن هناك من مفر غير النجاة والتقاط الأنفاس لاستكمال نضال يوم جديد. حينها التقيت بصديقي مرة أخرى وكنا محاصرين، وكنت على وشك الاعتقال حين قام بائع عربة الفول بالنداء علي وعلي صديقي، وجعلنا نختبئ تحت عربة الفول حتى تختفي سيارات الأمن، وقام بتقديم بعض أرغفة الفول لنا مع الدعاء لنا بالسلامة والتوفيق. حينها شكرت بائع الفول على كرمه، وانطلقت أنا وصديقي في رحلة العودة إلى المنزل لكسب بعض الراحة والعودة مرة أخرى.
وكان لنا يوم آخر..
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.