"لقد سلكت الصومال طريق الديمقراطية…"، هذا ما قاله الرئيس الصومالي السابق حسن شيخ محمود عقِب خسارته الانتخابات الرئاسية في عام 2016. وأكّد مبعوث بعثة الأمم المتحدة السابق ميشيل كيتنغ فحوى هذه الجملة في خطاب قال فيه إن الصومال عززت نظاميها الاتحادي والديمقراطي. كما عبر آلاف الصوماليين الخطوة بالنزول إلى الشوارع وأطلق جنود من الجيش الصومالي النار في الهواء. ولم يكن الاحتفال محصوراً بفوز الرئيس الحالي محمد عبد الله فرماجو بحد ذاته.
بل كانت أكثر بما تمثله الخطوة أو سمّها إمكانيات ما يمكن أن يقدمه الصوماليون لبلدهم بعد حرب أهلية طال أمدها، وليس فقط في احتمالية التخلص من نظام الانتخابات غير المباشرة، بل أيضاً تفكيك نظام "4.5" القبلي ونتائجه السياسية والاجتماعية السلبية على البلد. لكن بعد خمس سنوات، يبدو أن طموحات الشعب قد خابت في ظل سياسات السياسيين وفي مقدمتهم رئيس البلاد.
يتجه الصومال حالياً إلى انتخابات برلمانية معقدة، طويلة، وأقل نزاهة ومصداقية من سابقها في 2016، فضلاً عن وجود قلق حيال الرجوع إلى استخدام العنف لتصحيح المسار، وهو أمر خطير يجب تفاديه بكل السبل.
قانون الانتخابات الجديدة
في غضون أشهر من تشكيل الحكومة الفيدرالية بقيادة رئيس الوزراء السابق حسن علي خيري، تم تعيين لجنة فنية للنظر في النظام الانتخابي المناسب للصومال. بعد تشاورات طويلة، وقع اختيار اللجنة على نظام "القائمة المغلقة للتمثيل النسبي". في يونيو/حزيران 2018، التقى المجلس الاستشاري الوطني في مدينة بيدوا في إقليم الجنوب الغربي، وأعلنوا الاتفاق على جعل البلاد دائرة انتخابية واحدة في إطار نظام "القائمة المغلقة للتمثيل النسبي". ولكن في لقاء آخر لرؤساء الأقاليم في مدينة كيسمايو في سبتمبر/أيلول 2018 أصدروا بياناً دعوا فيه إلى دائرة انتخابات متعدد المناطق، متهمين الحكومة الفدرالية بعدم الجدية في الانتخابات والرغبة إلى العودة إلى النظام المركزي. على هذه الخلفية، قدم مجلس الوزراء مشروع قانون انتخابات جديدة بدون استشارة الأقاليم. تضمن المشروع الجديد فقرات تسمح بأن ينتخب الرئيس من الشعب، وليس من البرلمان الفدرالي. اعتبر كثيرون هذا انتهاكاً للدستور المؤقت والأعراف المعمول به في البلد منذ الستينيات من القرن الماضي. مما أدى إلى تسمم الأجواء السياسية. بجانبه عين رئيس الغرفة السفلى بالبرلمان الفدرالي محمد مرسال لجنة خاصة من 15 عضواً لمراجعة المقترح المقدم من مجلس الوزراء في 20 يوليو/تموز 2019. عدلت اللجنة المسودة وأعادت السلطة الحصرية للبرلمان الفدرالي لانتخاب رئيس الجمهورية. إضافة إلى ذلك، أعادت اللجنة تقديم صيغة تقاسم السلطة بين العشائر الصومالية، المعروفة باسم "4.5"، بحجة أن هذا النظام يشكل أساس المجتمع الصومالي، كما استبدلت اللجنة نظام القائمة المغلقة للتمثيل النسبي بنموذج الفائز الأول First Past-the-Post (FPP) فضلاً عن تقسيم الدولة إلى دوائر انتخابية عشائرية مكونة من 275، وهو نفس عدد مقاعد المجلس الشعبي من البرلمان الفيدرالي.
في 21 فبراير/شباط 2020، وقع رئيس الصومال، محمد عبد الله فرماجو على مشروع القانون الانتخابي الجديد. واحتفل قادة الحكومة الفدرالية باعتباره إنجازاً تاريخياً يسمح من الناحية النظرية، بإجراء انتخابات مباشرة لأول مرة منذ عام 1969. ومع ذلك، لقد كان واضحاً أن تطبيق القانون الجديد على الانتخابات التي كان يُخطط لها أن تجري في نهاية 2020 لم تكن بالأمر السهل. إلى جانب عدم وجود إجماع سياسي، كان قانون يعاني من أوجه قصور عدة، منها تمثيل أرض الصومال وإقليم بنادر، مقام العاصمة الصومالية في النظام الفدرالي، وضمان حصة المرأة وتوضيح دور الأحزاب السياسية. بالإضافة إلى ذلك، لم يكن هنالك وقت كافٍ لإقناع رؤساء الأقاليم بالقانون الانتخابي، إذ لم يكن يتبقى لفترة الحكومة الفدرالية سوى أشهر قليلة. نتيجة لذلك، اتهم الرئيس محمد فرماجو بدفعه نحو انتخابات مباشرة كتكتيك سياسي يمدد فترته الرئاسية. وعدم رؤيته للواقع السياسي الصومالي الذي يشير لصعوبة إجراء انتخابات يُشارك فيها الشعب، وذلك بسبب الأوضاع الأمنية، إضافة لوجود حركة الشباب (المرتبطة بالقاعدة) في مناطق عدة بالبلاد. كما ذهب البعض إلى أن رؤساء الأقاليم، خاصة رئيس إقليم بونتلاند سعيد عبد الله داني ورئيس إقليم جوبلاند أحمد إسلام مدوبي يدفعون باتجاه انتخابات غير مباشرة مستفيدين من الوضع السياسي والأمني الراهن لتحقيق مكاسب خاصة. إلا أن الواقع يشير إلى أن الجانبين قد فشلا في التوصّل إلى استراتيجية وطنية، تسمو فوق المصالح الشخصية الضيقة، وتعود بالصومال إلى الطريق الصحيح.
اتفاق 17 سبتمبر/أيلول ودور رؤساء الأقاليم
لقد أدى ضغط المجتمع الدولي واندلاع مناوشات مسلحة حرّكتها قوى المعارضة في العاصمة، إلى تغليب رأي رؤساء الأقاليم في التشاورات، فقرر المجلس الاستشاري الوطني التخلي عن فكرة الانتخابات المباشرة. وظهر بعدها اتفاق عُرف باسم "17 سبتمبر/أيلول" الذي مهد الطريق إلى انتخابات معقدة وغير مباشرة، تشبه إلى حد كبير تلك التي حصلت في 2016.
مكّن الاتفاق رؤساء الأقاليم من تحديد من يظهر في قائمة المرشحين للمجلس الأعلى من البرلمان الفيدرالي. بينما يحدد نائب رئيس الوزراء مهدي غوليد ورئيس المجلس الأعلى المنتهية دورته عبدي حاشي قائمة المرشحين من أرض الصومال (صوماليلاند) التي أعلنت انفصالها عن بقية الصومال في 1991، والتي لا تقبل أن تُقام الانتخابات الفيدرالية في أراضيها.
أما أعضاء المجلس الشعبي، فيتم انتخاب كل مقعد من خلال لجنة انتخابية مكونة من 101 مندوب بينهم ثلاثين امرأة. كما أن هناك حقاً لثلاثة من شيوخ العشائر وشخصين من المجتمع المدني تعيين المندوبين. وكُلِّف رئيس الوزراء محمد حسين روبلي بالإشراف على العملية، وبالتالي تم وقف أعمال لجنة الانتخابات الوطنية التي تلقت الدعم المالي والتدريب من المجتمع الدولي في أكثر من أربع سنوات مضت، وتولت مهامها لجنة انتخابات فيدرالية مؤقتة.
ظهر ضعف اللجنة الانتخابية المؤقتة في نفوذ رؤساء الأقاليم والحكومة الفدرالية، وزاد الخلاف بين أعضاء اللجنة بسبب ارتباطهم السياسي بالحكومة الفدرالية ورؤساء الأقاليم، عُزل رئيس اللجنة محمد حسن عيرو بعد أن اتهم بعدم الكفاءة والفساد والتدخل في السياسة. كما جرى طرد سبعة من أعضاء اللجنة. فجاء الرد من الرئيس الصومالي محمد عبد الله فرماجو الذي ألقى باللوم على رئيس الوزراء محمد حسين روبلي بعدم الوفاء بالتزاماته بإجراء انتخابات في موعدها.
في 27 من هذا الشهر (ديسمبر/كانون الأول)، أصدر الرئيس محمد عبد الله مرسوماً يوقف فيه رئيس الوزراء عن العمل باتهامات أخرى مرتبطة بالفساد، في المقابل رد رئيس الوزراء على الرئيس باستخدام صلاحياته لتعطيل إجراء الانتخابات، وتلت ذلك محاولة مجموعات من الجيش منع رئيس الوزراء من الوصول لمكتبه القريب من القصر الرئاسي. واتهمت المعارضة الرئيس عرقلة عمل رئيس الوزراء وطالبت منه إخلاء القصر الجمهوري فوراً. أعرب المجتمع الدولي عن قلقه إزاء تصاعد الصراع على السلطة بين رئيس الدولة ورئيس الوزراء، كما حث المراقبون الجانبين على حل الخلافات السياسية بطرق سلمية، وحذر مكتب إفريقيا التابع لوزارة الخارجية الأمريكية يوم الإثنين الماضية من أن واشنطن مستعدة للمعاقبة لما وصفته بـ"المعرقلين". وهذه التطورات الأخيرة قد تؤدي لتفاقم الأزمة السياسية في البلاد، وتحوّل الانتخابات التي كانت وسيلة لتفادي الصراع المسلح في السابق إلى تسلسل غامض، أكثر عرضة للتلاعب والمخاطر.
في الحقيقة لم تكن الانتخابات في هذا البلد نزيهة وشفافة تماماً. لكن ما يميز نسختها الحالية هو أن التلاعب واسع ومن كل الجهات. ويمكن القول إن هنالك ثلاث طرق جرى التلاعب بها. تضمنت الطريقة الأولى حصر المقاعد لمرشحين معينين، مع اختيار كل مرشح خصمه الذي يستقيل من السباق قبل لحظات من بدء التصويت. بالتالي يضمن هذا فوز المرشح المختار بأغلبية ساحقة. من بين 54 مقعداً في المجلس الأعلى، تم انتخاب 22 عضواً بهذه الطريقة. تتمثل الطريقة الثانية بحرمان مرشح غير مرغوب فيه من التصريح الأمني. أما الطريقة الثالثة فهي جمع ناخبين مزيفين لا يمثلون العشائر التي ينتمي إليها المقعد. تضمنت الطريقة الرابعة استخدام الحوافز المالية لضمان انتخاب المرشح المرغوب.
ولهذا فاز بغالبية المقاعد في المجلس الأعلى نواب موالون لحكام الأقاليم في جوبلالند وبونتلاند، في حين تمكن من الفوز نواب مناصرون للرئيس الحالي في أقاليم غلمدغ وهيرشبيلي والجنوب الغربي في انتخابات استغرقت أكثر من شهر ونصف. ولم يظهر نائب مستقل. ولم يكن هنالك أي منافسة في إقليم غرلمدغ بالذات. تم الاتفاق على أن تحصل النساء على 30% من التمثيل في المجلسين. وفاز أربعة عشرة امرأة بمقعد في المجلس الأعلى.
إن المجلس الشعبي، الغرفة الأخرى للبرلمان الفدرالي الذي يُعتبر أكثر تأثيراً وأكثر عدداً من المجلس الأعلى ويمثل القبائل الصومالية من خلال نموذج 4.5 الحصصي، لا تزال الانتخابات مستمرة بشكل متقطع وبطيء. وقد أفرزت ما يقارب من 10% من أعضائه حتى اللحظة، ومع ذلك، يلاحظ استمرار التلاعب السياسي الذي ظهر في المجلس الأعلى بنفس الهندسة. على سبيل المثال انتخب ياسين فاري، رئيس وكالة المخابرات والأمن الوطنية الصومالية عضواً في المجلس الشعبي، ولكن يجادل أعضاء من عشيرته بأن اختياره كان غير شرعي.
بالإضافة إلى ذلك، تبدو عملية شراء المقاعد مستمرة، حيث أشارت بعض التقارير إلى أن تكلفة المقعد في غالمودوغ وصلت إلى 202000 دولار، وفي إقليم الجنوب الغربي كانت تكلفة المعقد أرخص (15300 دولار لكل مقعد). ومع ذلك، يبدو أن معظم الأموال لم تصل إلى المندوبين المصوتين؛ تم دفع المال لوسطاء يمثلون قيادة الأقاليم. حصل المندوبون على جزء بسيط من الرشاوى الفعلية التي دفعها المرشحون.
في انتخابات صوماليلاند التي جرت في مقديشو، تم حصر ستة مقاعد من أصل 11 مقعداً لسياسيين معينين، حيث جلب المرشحون منافسين مزيفين، نظراً لعدم وجود رئيس الإقليم أو برلمان لأرض الصومال. وبلغت الرشاوى 1000 دولار لكل صوت، أي ما يعادل 54000 دولار لكل مقعد.
يتزامن هذا الفساد السياسي مع طلب اللجنة الانتخابية من المجتمع الدولي بما لا يقل عن 27.2 مليون دولار أمريكي، و3.7 مليون دولار كتكاليف إدارية إضافية إلا أن المجتمع الدولي يربط دعمه المالي بمواصلة الانتخابات في جو أكثر نزاهة ومصداقية. كما اشترط المجتمع الدولي أن تجري الانتخابات في كل الولايات، بالمقابل هنالك تعنت من الأقاليم والحكومة الفدرالية بدفع جزء من ميزانية الانتخابات.
الجفاف يفاقم حدة الأزمة الصومالية
إلى جانب ذلك، بلغت الحالة الإنسانية في البلد مرحلة حرجة. إذ ذكرت التقارير أن هناك 5.9 مليون شخص بحاجة إلى مساعدة إنسانية نتيجة لزيادة حدة الجفاف في أجزاء من الصومال. وذكر التقرير أن حوالي 80% من الأراضي في الصومال حالياً تعاني من جفاف شديد، حيث يستمر موسم الأمطار (أكتوبر/تشرين الأول – ديسمبر/كانون الأول) في انخفاض. ونتيجة لذلك، أثر الجفاف على ما يقرب من 2.6 مليون شخص بشكل عام، وأدى إلى تشريد 113000 شخص. يعاني الأشخاص المتضررون من نقص حاد في المياه والغذاء. كما أنهم يواجهون خطراً متزايداً للإصابة بالأمراض المنقولة بالمياه بسبب عدم كفاية الوصول إلى المياه الصالحة للشرب، فضلاً عن مرافق الصرف الصحي والنظافة. كما نفقت العديد من الماشية بسبب نقص المراعي والمياه، مما أدى إلى اضطراب سبل العيش. كما يعاني السكان من مشاكل أخرى مرتبطة بارتفاع معدلات الفقر وآثار النزاعات المتكررة والكوارث الطبيعية. كما تواجه المنظمات الإنسانية في الصومال قيوداً على الوصول إلى بعض المناطق المتضررة بسبب الصراع المستمر.
كما يأتـي هذا التلاعب الانتخابي في ظل صعود جديد لحركة الشباب وزيادة هجماتها على المدن الرئيسية ومحاولاتها لملء الفراغ الإداري والسياسي التي تتركه الحكومة الفدرالية نتيجة لخلافاتها مع الأقاليم ليس فقط في المدن المجاورة للعاصمة فحسب، وإنما أيضاً أحياء قريبة للقصر الرئاسي.
من جهة أخرى، صرحت كتلة المعارضة السياسية المعروفة باسم اتحاد المرشحين الرئاسيين في وقت سابق بأنها لن تعترف بالنتائج دون تغييرات جذرية. لم تعلن المعارضة بشكل جماعي عن خطوتها التالية، والتي قد تشمل مقاطعة رسمية، أو تشكيل حكومة انتقالية بديلة أو استئناف الاشتباكات المسلحة في العاصمة على غرار ما حدث في أبريل/نيسان 2021، إلا أن الأحداث الأخيرة قد تقلل ضغط المعارضة على الرئيس الوزراء وتكثف على الرئيس الدولة. ولكن لا أحد يضمن أن تتوقف الأزمة السياسية الصومالية بتهميش دور الرئيس. ولا تزال الخلافات ظاهرة بين المعارضة والرئيس في نزاهة ومصداقية الانتخابات.
الخلاصة
في النهاية، مع عدم اكتمال معظم انتخابات مجلس الشعب، ومع سعادة قادة الأقاليم بالطريقة التي تسير بها الأمور، وتلاعب الانتخابات دون خجل من شأنه أن يضعف ثقة الجمهور الضئيلة فيها، ومع تهديد بعض السياسيين والعشائر ببدء عملية موازية، تزداد فرص العنف، فمن المحتمل جداً أن ينزلق الصومال مرة أخرى إلى الصراع المسلح.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.