يمثل صعود الصين تحدياً للولايات المتحدة التي ترى نفسها القوة المهيمنة عالمياً، من ناحية أخرى، يُنظر إلى الصين على أنها قوة استبدادية حازمة وخصم عسكري محتمل، على الرغم من ارتباط الولايات المتحدة والصين ارتباطاً اقتصادياً قوياً. يقول الدبلوماسي الأمريكي المخضرم هنري كيسنجر: على أمريكا عدم استعداء روسيا، لأنها سوف تحتاج قوتها في المستقبل لمواجهة الصين وتذكروا مقولة نابليون بونابرت قبل 200 عام "دع الصين تنام، لأنها عندما تستيقظ، ستهز العالم".
ففي الولايات المتحدة يُنظر إلى صعود الصين على أنه تهديد لمكانة أمريكا الدولية؛ حيث إن الإدارة الامريكية تعتمد تصور الصعود الاقتصادي والعسكري للصين الذي لا يمكن وقفه والانحدار النسبي في القوة الأمريكية على افتراضات مشكوك فيها، ومع ذلك فإن الصين هي القوة العظمى الوحيدة التي يمكن أن تهدد مكانة الولايات المتحدة، كما يمكن لتحولات القوة أن تعرض استقرار النظام الدولي للخطر إذا فشلت القوة المهيمنة والصاعدة في الاتفاق على قيادة النظام الدولي.
هذا ما تقترحه نظرية انتقال القوة والتي تمت مناقشتها في الولايات المتحدة والصين والمعروفة باسم "مصيدة ثيوسيديدس"؛ هذه النظرية المثيرة للجدل تؤثر على التصورات الأمريكية والصينية، وتعمل على توعية صانعي السياسات بمخاطر المنافسة الصينية الأمريكية.
فيعتبر ثيوسيديدس أحد أهم رواد نظرية القوة أو الواقعية التي تفسر لنا قوانين الحرب التي تحكم علاقات الدول، وهو من توصل لنظرية حتمية الحرب بعد دراسة الحرب بين أثينا وأسبرطة قبل أكثر من 2500 عام قبل الميلاد، وخلص إلى أن منطق العلاقات الدولية لم يتغير منذ ذلك الوقت، وهذا المنطق هو منطق العداوة وأن معضلة الأمن هي التي تحكم السلوك السياسي للدول وذلك في ظل نظام يقوم على الاعتماد على الذات، فبقيت سياسات الأحلاف وموازين القوى والمفاضلة بين الحروب والمهادنة ثابتة عبر آلاف السنين.
لقد أصبح التنافس الاستراتيجي مع الصين هو الحالة المهيمنة في السياسة الخارجية والأمنية للولايات المتحدة، ولقد تصاعد هذا الصراع في السنوات الأخيرة، وهناك الآن إجماع من الحزبين في الولايات المتحدة على الحاجة إلى زيادة الضغط الدبلوماسي والاقتصادي والعسكري على الصين كما ستتخذ إدارة بايدن وتيرة أكثر صرامة مع روسيا من سلفه.
من ناحية أخرى، لقد فقد الشرق الأوسط أهميته على الأجندة الأمريكية، فالتدخلات طويلة المدى المعروفة باسم "الحروب إلى الأبد" أي الحروب التي لا تنتهي تستمر في فقدان الدعم الدولي للولايات المتحدة، لكن لا تزال النزاعات والحروب الأهلية من أفغانستان إلى سوريا إلى اليمن وليبيا تشكل تحديات أمنية مستمرة للولايات المتحدة الأمريكية، ومع ذلك يحاول بايدن تقليل المشاركة العسكرية في دول الحروب الأهلية، ومع ذلك يظل الحد من القدرات النووية لإيران وكوريا الشمالية أولوية قصوى وسيستمر استخدام العقوبات في لعب دور مهم في ممارسة السياسة الخارجية.
الصراع مع الصين: لماذا أصبحت تايوان مشكلة للولايات المتحدة؟
في الآونة الأخيرة زادت التوترات على مضيق تايوان بشكل ملحوظ؛ حيث بلغ عدد الطائرات العسكرية الصينية التي دخلت منطقة المراقبة الجوية التايوانية ذروته في أوائل أكتوبر عام 2021، بينما دعا رئيس الدولة وزعيم الحزب الصيني شي جين بينغ إلى إعادة ضم تايوان لحدودها، فيما أكدت رئيسة تايوان تساي إنغ ون أن الدولة لن تخضع لضغوط بكين.
تطرح التطورات الحالية في مضيق تايوان العديد من التحديات الصعبة للولايات المتحدة، فعلى الصعيد المحلي تتزايد الدعوات في واشنطن بأن أمريكا يجب أن تقف إلى جانب تايوان بشكل أكثر قوة من ذي قبل.
أما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية والأمنية أصبح من الصعب تحقيق الأهداف التقليدية الثلاثة للولايات المتحدة الأمريكية وهي أولاً الدفاع عن أمن تايوان، وثانياً الحفاظ على العلاقة المستقرة مع الصين، وثالثاً عدم اتخاذ خطوات بإعلان تايوان دولة مستقلة.
من وجهة نظر الولايات المتحدة هناك تطوران رئيسيان يعملان على تعقيد عمل التوازن الأمريكي الخارجي والداخلي فيما يتعلق بتايوان، من ناحية أخرى يأخذ الصراع الصيني-الأمريكي بُعداً معيارياً لا يسمح بالتنازلات.
في واشنطن ساد تصور بأن التنافس مع الصين هو صراع ملحمي بين نظام اقتصاد السوق والديمقراطية في الغرب والنموذج المضاد للدولة الرأسمالية والاستبدادية في الصين.
على الجانب الصيني، أكد الرئيس الصيني مؤخراً على مدى ارتباط قضية تايوان بشكل وثيق بهدف التجديد الوطني للصين، في الوقت نفسه مع ذلك، أوضح تحطيم المؤسسات الديمقراطية في هونغ كونغ أخيراً أن عرض جمهورية الصين الشعبية "لدولة واحدة ونظامين" لتايوان ليس له مصداقية على الإطلاق.
ثانياً: العناصر التقليدية لسياسة الولايات المتحدة بشأن تايوان خارجة عن السيطرة؛ لأن تصورات واشنطن للتهديدات في تزايد، حيث يتزايد التوقع بتحول ميزان القوى العسكري في القضية التايوانية لصالح الصين، وقد تحاول الصين عاجلاً وليس آجلاً ضم تايوان إليها.
ففي منتصف عام 2021 أثارت تصريحات رئيس قيادة القوات المسلحة الأمريكية آنذاك، ضجة عندما أخبر الكونجرس الأمريكي أن الصين قد تحاول ضم تايوان بصورة مسلحة في غضون ست سنوات، صحيح أن الولايات المتحدة أنهت علاقاتها الرسمية واتفاقية الدفاع الرسمية مع تايوان في عام 1979، ولكنهم بموجب العلاقات الأمريكية-التايوانية تعهدوا بدعم تايبيه في الدفاع عن النفس من خلال الدعم التسليحي.
فبين عامي 2016 و2020، باعت الولايات المتحدة ما يقرب من 16.7 مليار دولار من الأسلحة إلى تايوان كجزء من برنامج المبيعات العسكرية الأمريكية الخارجية في ميزانية عام 2020 فكانت تايوان في الواقع أكبر عميل للأسلحة الأمريكية بقيمة 11.8 مليار دولار.
تحالفات الولايات المتحدة مع اليابان وكوريا الجنوبية.. نقاط القوة وخطوط الصدع
تعتبر الولايات المتحدة وحلفاؤها الآسيويون المشكل من التحالف الذي تقوده أمريكا منذ الحرب الكورية (1950-1953) ضامناً للسلام والاستقرار في المنطقة، حيث تحتفظ الولايات المتحدة بتحالفات دفاعية رسمية مع أستراليا والفلبين وتايلاند واليابان وكوريا الجنوبية كما يتركز الوجود العسكري الأمريكي في كوريا الجنوبية واليابان مثلاً مهماً على مدى الأهمية لهذين البلدين بالنسبة للولايات المتحدة.
لكن من ناحية أخرى، تثير تطورات السياسة الأمنية في المنطقة أسئلة جديدة للتعاون، لا سيما صعود الصين عالمياً ووضع كوريا الشمالية كقوة نووية بحكم الأمر الواقع، حيث أظهرت السنوات القليلة الماضية أن الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وكوريا الجنوبية لا تسعى دائماً لتحقيق نفس الأهداف والاستراتيجيات تجاه الصين وكوريا الشمالية.
حيث ترى واشنطن التحالفات كأداة لاحتواء الصين وينطبق هذا الأمر أيضاً على الإدارة الجديدة بقيادة بايدن، على الرغم من أنها تعامل شركاء التحالف بصورة أكثر تقديراً وتوليهم مزيداً من الاهتمام.
وبالإضافة لذلك سنجد كوريا الجنوبية تقاوم تركيز التحالف المناهض للصين وأملاً في أن تلعب الصين دوراً بنّاءً في عملية السلام المستقبلية في شبه الجزيرة الكورية مع كوريا الشمالية.
في ظل هذه الخلفية، يبقى السؤال: ما مدى استدامة تحالفات الولايات المتحدة مع اليابان وكوريا الجنوبية وما الأهمية السياسية والأمنية لكل منهما بالنسبة للدول الثلاث؟ فسنجد أن الولايات المتحدة تتبع استراتيجية مرنة في التحالفات، حيث يتم استخدام ثلاثة معايير لتقييم أداء تلك التحالفات:
1- درجة الاتفاق في تصور التهديدات ووجهات النظر والأهداف الاستراتيجية.
2- المساهمات السياسية والعسكرية والمالية للتحالف
3- الدعم السياسي للتحالفات في العواصم الثلاث.
أثبتت التحالفات الأمنية الثنائية للولايات المتحدة مع اليابان وكوريا الجنوبية أنها مرنة بشكل كبير في مواجهة التحديات السياسية الرئيسية والتغيرات الأساسية في البيئة الأمنية، وهذا ليس بسبب حقيقة أن وجهات النظر الاستراتيجية ومصالح الشركاء الثلاثة متشابهة.
فهناك اختلافات واضحة بين شركاء التحالف، هذا ينطبق بشكل خاص على الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، فغالباً ما ينظر ما يسمى بالمعسكر التقدمي لكوريا الجنوبية في عهد الرئيس الكوري الحالي مون جاي إلى المواقف الأمريكية بأنها عقبة أمام مبادرات المصالحة بين الكوريتين، وإن التحالفات مثل الناتو المكرسة لمجموعة واسعة من مشاكل السياسة الأمنية لديها المزيد من الفرص لتحقيق توازن في المصالح بين شركاء الحلف.
فإن درجة إضفاء الطابع المؤسسي في تحالفات الولايات المتحدة مع اليابان وكوريا الجنوبية منخفضة، فلكل من الولايات المتحدة واليابان هياكل قيادة منفصلة، وعلى الرغم من أن القوات المسلحة للولايات المتحدة وكوريا الجنوبية لديها هياكل قيادة متكاملة، فإن منتديات المشاورات السياسية لم يتم استخدامها حتى الآن بشكل كافٍ لإدارة الصراع بشكل بناء، كما تظهر الخلافات المتكررة، فنظراً للعلاقة المتوترة تاريخياً بين اليابان وكوريا الجنوبية، فإن التعاون الثلاثي الذي تسعى إليه الولايات المتحدة الأمريكية لا يعمل بشكل كافٍ، لأن مؤسسات التحالف التي تشمل البلدان الثلاثة غائبة بالكلية.
لماذا تريد واشنطن توسيع الوجود العسكري الأمريكي في المحيطين الهندي والهادئ؟
على مدى السنوات القليلة الماضية تغير إطار السياسة الأمنية للوجود العسكري العالمي للولايات المتحدة، وهذا أصبح موجهاً للمنافسة مع الصين وروسيا بسبب القدرات العسكرية المتنامية لكلا البلدين، حيث استثمرت بكين وموسكو بكثافة في الأسلحة المصممة لحرمان الولايات المتحدة وحلفائها من حرية الوصول الجوي والبحري للمناطق الاستراتيجية في العالم المجاورة لكل منهما.
حيث تتعلق الاستراتيجية الأمريكية الجديدة بالعدد المتزايد والسرعة والدقة للصواريخ الباليستية وصواريخ كروز متوسطة المدى (500-5500 كم) وكذلك الأنظمة غير المأهولة، فكانت الولايات المتحدة تتعامل مع هذه التطورات منذ عقدين على الأقل، ولكن من وجهة النظر الأمريكية أصبح تطور كلٍّ من بكين وموسكو يشكل تهديداً أمنياً للمصالح الأمريكية والأمن القومي الأمريكي.
ويلعب التحول الجغرافي في أولويات السياسة الخارجية الأمريكية إلى منطقة المحيطين الهندي والهادي دوراً مهماً، لأن هذه المنطقة تختلف عن منطقة العمليات الأوروبية والشرق الأوسط في حجمها الهائل وطابعها البحري القوي.
والحقيقة أن الولايات المتحدة ليست لديها شبكة مؤسسية وكثيفة نسبياً من الحلفاء هناك كما هو الحال في أوروبا والشرق الأوسط؛ لذلك فليس من المستغرب أن يتم تحديد منطقة المحيطين الهندي والهادى على أنهما منطقة ذات أولوية ويتم تحديد الصين على أنها أكبر تهديد للولايات المتحدة، حيث تواصل الولايات المتحدة الاعتماد على قواعدها الكبيرة، حيث قالت وزارة الدفاع الأمريكية إنه يجب توسيع البنية التحتية في جزيرة جوام وحمايتها بشكل أفضل من الصواريخ الباليستية متوسطة المدى الصينية، كما سيتم تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في كوريا الجنوبية من خلال التمركز الدائم لطائرات الهليكوبتر الهجومية ومقرات للمدفعية.
تريد الولايات المتحدة توسيع وجودها في أستراليا، وبالتالي تعميق شراكتها في السياسة الدفاعية مع الدولة كما تريد واشنطن إرسال طائرات حربية وقاذفات قنابل إلى أستراليا كما تتعاون مع بريطانيا في تفعيل تلك الشراكة.
كما تريد واشنطن أيضاً توسيع تعاونها الدفاعي مع دول جزر المحيط الهادئ حيث إنه تمت تسمية كومنولث جزر ماريانا الشمالية فقط على وجه التحديد من قبل البنتاغون الأمريكي لتفعيل هذا التعاون العسكري، ولكنها منطقة نائية غير مدمجة مع الولايات المتحدة.
تتنافس الولايات المتحدة والصين إذاً على النفوذ السياسي في دول جزر المحيط الهادئ، حيث تسعى الولايات المتحدة لتحسين بنيتها التحتية العسكرية (المراكز اللوجستية، مخازن الوقود والذخيرة، المطارات) في منطقة المحيط الهادي.
الخاتمة
غالبًا ما يتم تفسير النزاعات الحالية في العلاقات بين الولايات المتحدة والصين على أنها نوع من الحرب الباردة الجديدة أو على الأقل يتم اعتبار الحرب الباردة كمرجع لتسليط الضوء على الاختلافات بين الصراع الصيني-الأمريكي والصراع الأمريكي-السوفييتي.
ففي الواقع تحتوي العلاقات الأمريكية-الصينية على بعض العناصر التي على الرغم من كل اختلافاتهم، تشير إلى تشابه معين مع الحرب الباردة أو بشكل أكثر دقة متلازمة الصراع بين الشرق والغرب التي تجمع بين العداء الأيديولوجي والمعضلة الأمنية والتنافس على الأسلحة والتنافس على القوة العالمية، ومع ذلك، فإن هذا القياس محدود الاستخدام.
يستند الصراع الأمريكي-الصيني إلى منافسة إقليمية وعالمية على مكانة في نظام دولي يتسم بظهور ثنائية القطبية، حيث يعتبر أن نموذج نهاية الحرب العالمية الثانية وتفكك الاتحاد السوفييتي أدى لوجود الثنائية القطبية على الرغم من أن موارد القوة لم يتم توزيعها بالتساوي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، إلا أن الفجوة بين هاتين الدولتين والقوى المتبقية كانت كبيرة.
وإذا فهم أن الثنائية القطبية تعنى توزيع القوة في النظام الدولي، يمكن عندئذٍ التحدث عن ثنائية القطبية الجديدة على الرغم من أنه لا يوجد بالتأكيد تكافؤ في القوة بين أمريكا والصين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.