لهذا خُلق الفن..
كي يترك فينا أثراً ما، أثراً كاسحاً كالذي أشعر به الآن..
كي يلعب بعقولنا، ويُعيد تشكيل أفكارنا من جديد، يُفاجئنا، ويتركنا في حيرة لا متناهية، لا نعرف معها الصواب من الخطأ، وكأنه اختبار حقيقي خُضناه في عالم خيالي، وعشنا تجربة لا يمكن أن نعيشها في الحقيقة.
ترك مسلسل Scenes From A Marriage أثراً كاسحاً على قلبي، وظلت الأفكار تعصف في ذهني طيلة الخمس ساعات، التي تضمنتها حلقاته الخمس، تاركة إياي، في النهاية، في حالة من الاستسلام الغريب.. عقلي مُرهق، ومشاعري مضطربة. لم أعد أعرف أي شيءٍ، غير أنّي قد عشت هذه التجربة حقاً.. وخرجت منها غير سالمة تماماً.
نسخة الماضي والحاضر . Scenes from a Marriage
قادتني الصدفة وحدها لمشاهدة مسلسل Scenes from a Marriage، أو مشاهد من حياة زوجية، غير عالمة أنّه نسخة ثانية لمسلسل سويدي شهير، لكاتبٍ ومخرج أكثر شهرة، وهو Ingmar Bergman، الذي أخرج المسلسل، وقام بكتابة حلقاته الست في عام 1973.
وفي عام 2021، قام الكاتب والمخرج Hagai Levi بصنع نسخة أمريكية جديدة من المسلسل، الذي يحكي باختصار عن جوناثان وميرا، الزوجين اللذين مضى على زواجهما 10 سنوات، عاشاها في هدوءٍ واستقرار، حتى حدث الشيء الذي جعل حياتهما تنقلب فجأة رأساً على عقب. لعب دور الزوجين كل من Jessica Chastain و Oscar Isaac.
التزم Levi بشكلٍ كبير في محاكاة قصة Bregman الأصلية، ولكنّه في نفس الوقت، قام بفعل شيءٍ لافتٍ للنظر، وهو أنّه عكس الأدوار بين كل من جوناثان وميرا، بمعنى أنّ القنبلة التي ألقاها جوناثان في وجه ميرا، وهي قنبلة مجازية بالطبع، والتي غيّرت مسار حياتهما للأبد في نسخة Bregman، كانت ميرا هي من تُلقيها في وجه جوناثان، في نسخة Levi.
في هذا المقال أحببت أن أكتب عن خمسة مشاهد، تضمنتها حلقات المسلسل الخمس بالترتيب، وهي المشاهد التي انطبعت في ذهني وقتها فوراً، وأظنّ أنّها ستبقى هناك للأبد.
لا أنصح من لم يُشاهدوا المسلسل بعد بأن يقرأوا الفقرات التالية، والتي ستتضمن حرقاً لأحداث المسلسل.
المشهد الأول: سعادةٌ مُزيّفة
تأخذنا الحلقة الأولى من مسلسل Scenes from a Marriage على مهلٍ، لنتعرف على جوناثان وميرا عن قرب.
منذ الدقائق الأولى، ويُمكنك أن تلمح على ميرا الشعور بعدم الارتياح، والذي يظهر أكثر في ابتسامتها المُتكلفة، ومرحها الذي في غير مكانه. وعلى العكس يبدو جوناثان هادئاً، مُرتاحاً، ولديه اعتزازاً واضحاً بالنفس.
حينما تسألهما السيدة التي تقوم بعمل دراساتٍ عن الزواج، في مقابلة تطوعية، عن سر نجاح زواجهما الذي استمر لـ10 سنوات حتى الآن، تقول ميرا: "إذا كان معيار نجاح زواجهما هو استمراريته طيلة هذه السنوات، فهو معيار ضئيل للغاية".
عند هذه الجملة توقفت لأنظر إلى ميرا، التي تعرف تماماً، أنّ استمرارنا في شيءٍ ليس بالضرورة معناه أنّنا راضون عنه أو سعداء به. دوافع كثيرة تجعلنا نستمر، حينما لا نقوى على التوقف، وحينما لا يكون هناك إمكانية للرجوع للوراء.
أنجبت ميرا ابنتها إيفا، واستمرت بعدها في زواجها بالقصور الذاتي، صار جسدها يتحرك للأمام مع جريان الحياة، أما روحها، فكانت محبوسة في قالب من الثلج.
"في الزواج.. يُمكن لأي شيءٍ أن يؤذيك".
رأيت في بُكاء ميرا المُوجع الذي بكته في نهاية الحلقة، حينما أصرّت على إجهاض حملها الثاني الذي لم يكن مُرتباً له، بُكاءً على حياة صار واضحاً أنّها لا تُريدها، وعلى عمرٍ ينفرط من بين أيديها بلا توقف، وعلى كونها لم تعد قادرة على التظاهر مُجدداً بأنّها سعيدة، لأن هذه السعادة الزائفة، هي الشيء الذي جعلها تُدرك كم هي تعيسة حقاً.
المشهد الثاني: صدمة الفقد
في الحلقة الثانية والتي هي عبارة عن 50 دقيقة من الإرهاق النفسي، تقوم ميرا فجأة وبلا أية مقدمات، بإلقاء القنبلة التي تحدثت عنها سابقاً في وجه جوناثان، وهي أنها ستتركه من أجل رجل آخر، تعرفت عليه منذ عدة أشهر، ووقعت في حبه.
كلامٌ كثير قالته ميرا وهي تنتقل من حالة الحديث بثقة، واستخدامها لأسلوب هادئ ومتعقل في حوارها مع جوناثان، إلى حالة فقدان السيطرة، والبدء بالهجوم، والانتقاد القاسي، والصراخ أحياناً، حتى تعود لتهدأ، ويغلبها شعور واضح بالذنب، فتبكي قليلاً، ثم لا تلبث أن تُعاود كرّة انفلات المشاعر من جديد.
أما جوناثان فقد استمر تحت وقع المفاجأة، وقتاً أكثر من اللازم في الحقيقة، وحينما خرج من حالة الصدمة هذه، فعل أسوأ شيء يُمكنه فعله في هذه اللحظة، وهو أن يقول لميرا: "هذه ليست أنت، هذه ليست حقيقتك".
ليُزيد من إصرار ميرا على التمسك أكثر بفكرة التخلي عن جوناثان، لتقول له وهي منفعلة: "هذه هي أنا، إنها أنا، وإن كنت تظن غير ذلك، فأنت لم تكن تستمع لي طيلة هذه السنوات".
يستمر ميرا وجوناثان في حديثهما العاطفي المؤلم طويلاً، والذي ينتهي برحيل ميرا، في مشهدٍ قاس ٍفعلاً، وهو المشهد الذي تملّك مني حقاً.
فبينما كانت ميرا تهرع لتلملم حاجياتها بعشوائية وسرعة، كان جوناثان يقوم بطي ملابسها بهدوء، وهو يضعها بعناية في حقيبة سفرها، وحينما انتهى، لم يتمالك نفسه من أن يحتضن ميرا حُضناً عميقاً وطويلاً، يقول فيه ما لا يُمكن للكلمات أن تقوله، حُضناً تشبّث فيه بها، كطفلٍ يحتضن أمه، ولا يُريد أن يُفلتها، لأنّه يعلم أنّها المرة الأخيرة التي سيراها فيها، وأنّ هذا الحضن هو الحضن الأخير.
المشهد الثالث: حربٌ على النفس
يمر عام، وتعود ميرا لزيارة جوناثان و إيفا، ليدور بينهما حوار طويل، حول ما كانا عليه وما أصبحا إليه الآن.
تبدو ميرا أكثر ثقة وقوة ويبدو جوناثان أكثر هدوءاً ولا مبالاة، وإن كان يُمكنني أن أرى بوضوح الحزن الذي يُخيم على وجوههما معاً.
حتى بدأ جوناثان في البوح بمشاعره لميرا، وبأنه يذهب لطبيبة نفسية كي تساعده على فهم ما الذي حدث بالضبط، فهو إلى الآن لا يجد أي منطق فيما حدث بينهما.
" لقد بدأت في التعافي، الآن يمر نصف يوم من دون أن أفكر بكِ، وأحياناً يوم كاملٍ، وأنا لا أرغب في أن أعود إلى ما كنت عليه سابقاً".
ذلك الألم الذي بدا في كلمات جوناثان في هذا المشهد، جعلني أدرك أنّ هذا الرجل قد تحطّم تماماً، لم يُحطمه ما فعلته ميرا، بأكثر مما فعل هو حينما حارب مشاعره طويلاً حتى صار عدواً لنفسه، يُريد أن يقتل فيها الشيء الوحيد الذي خاف على خسارته خوفاً جنونياً، ميرا؛ لذلك كان لابد أن يُعلن الحرب على نفسه، التي لا زالت ترغبها.
المشهد الرابع: ألمٌ لا يُحتمل
حينما نُريد قطع علاقة طويلة وحميمية كالزواج، كل ما نُفكر فيه هو أننا نُريد التخلص من الألم الذي نربط وجوده باستمرارية العلاقة، ونظن أننا إن أنهينا هذه العلاقة سينتهي الألم، وتحل محله السعادة.
ويغيب عن بالنا أنّ ألم الانسلاخ، أو فكّ التعلّق من هذه العلاقة، قد يكون أشدّ من الألم الذي عشناه خلالها حتى، هذا غير سيئي الحظ، الذين لا يخرجون من حالة الانسحاب هذه أبداً، ويعيشون بألم من فقد عضو من أعضائه، شاعرين بأنهم ناقصون إلى الأبد.
مشاهد عديدة في هذه الحلقة النارية، أخبرتني كيف يُمكن أن يتشكّل الحب في أشكال كثيرة، فالصراخ في وجه من تحب بأنك تكرهه، حب. الغضب الشديد الذي يتحكم بكل خلية في جسدك، حينما يرفضك من تحبه، حب.
عجباً..من كان يظنّ أنّ ميرا التي فارقت جوناثان بتصميمٍ وقسوة، تُصبح بهذه الهشاشة، وتظهر في حالة يُرثى لها، حينما تراه وقد تجاوزها أخيراً، لتبدو مثيرة للشفقة فعلاً وهي تخبره:
"كل ما أُريده، هو كل ما كنت أملكه"
كان الأمر بالنسبة لميرا أكبر من محاولة فك التعلّق برجلٍ عاشت معه عشر سنوات، بل كان خطأ فادحاً وقعت فيه، وخسارة عظيمة لا يُمكن تعويضها، للرجل الوحيد الذي شعرت معه بالحب والأمان، والذي يُخبرها الآن بأنّه قد انتهى منها أخيراً، بل ويتوسل إليها حرفياً أن تتركه يرحل.
هذا المشهد الحزين، يُشبه المشهد الذي خلع قلبي في نهاية الحلقة الثانية، ولكن بعد انعكاس الأدوار، فها هي ميرا تتوسل لجوناثان بألا يرحل، وها هو يقاومها بشدة، لينتهي المشهد بنهاية عنيفة، تهرع بعدها ميرا للتوقيع على أوراق الطلاق التي رفضت التوقيع عليها من قبل، في استسلامٍ تام، وهي تعلم يقيناً أنّها قد فقدت جوناثان للأبد.
المشهد الخامس: القلب يهوى، ما يهوى.
اختلط عليّ الأمر وأنا أُشاهد بداية الحلقة الخامسة والأخيرة، كما اختلط على الكثيرين، فبينما تظهر ميرا مع العشيق السابق بشكلٍ أقرب إلى الصداقة منه إلى الحب، تلتقي ميرا بجوناثان سراً، ويبدو عليهما الارتياح والفرح لرؤية أحدهما الآخر، ويذهبان لمنزلهما القديم لقضاء الليلة معاً.
ما الذي حدث؟
كيف انتهى الأمر بهما معاً من جديد، بعد الليلة الكارثية الأخيرة وكيف يتحدثان كصديقين حميمين، واقعين في الحب كما يبدو، وكيف
يبدوان بكل هذا الانسجام والراحة والتفاهم، وهي الأشياء التي لم تكن موجودة بينهما قبل رحيل ميرا؟
أين اختفت تلك الهوة العملاقة التي كانت تفصل بينهما؟ وكيف تبخر الألم الذي بدا وكأنه لن يزول أبداً، من الجُرح الذي بدا وكأنه لن يُشفى أبداً؟
لا أحد يعرف على وجه التحديد..
ولكني أعرف أنّ الحياة تأخذنا لأماكن بعيدة، لم نكن لنتخيل أننا سنذهب إليها أبداً، وأعرف أنّ القلب لا يُمكنه أن يهوى، إلا ما يهوى فعلاً، وأنّ الحب وحده، بإمكانه أن يُزيح الألم المُتربّع على عرش الروح،
كانت هذه قصة ميرا وجوناثان الحزينة، والتي كنت أتمنى أن تنجح نهايتها السعيدة نوعاً ما، في أن تُزيل طبعة الحزن التي انطبعت على قلبي في الأربع حلقات الأولى منها، ولكنها للأسف لم تفعل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.