يعيش المجتمع الفرنسي أزمة متعددة الأبعاد: نخبوية وإعلامية وإجتماعية وإقتصادية وصحية، بل حتى قيادية؛ باتت تهدد النسيج الاجتماعي والاستقرار السياسي داخل الدولة وأجهزتها. حيث بات عنصر الناخب المسلم، دون سواه، في المجتمع الفرنسي مرتبطاً مع موضوع الهجرة والأمن الداخلي و"معضلة" الإسلام.
غير أن موضوع المهاجرين أصبح معقداً لأسباب نفسية واجتماعية واقتصادية وأخرى سياسية وأمنية.
التعقيد الذي تتسم به مسألة الهجرة تجاه المجتمع الفرنسي، نبع من تحولها لسلعة انتخابية، تستعمل من قبل السياسي وتسرد بصيغة مبالغة في الإعلام الفرنسي.
جاء في تقرير صادر عن وزارة الداخلية الفرنسية أن 554.378 مغربياً لديهم تصاريح إقامة بفرنسا بنهاية عام 2020، مقابل 546.367 مغربياً في عام 2019، ما يمثل ارتفاعاً طفيفاً بحوالي 1.5 %.
ويأتي مواطنو المغرب في المرتبة الثانية من حيث عدد تصاريح الإقامة، بعد الجزائريين الذين بلغ عددهم 622.931 شخصاً بنهاية عام 2020، مقابل 621.106 شخص في عام 2019. أما في المرتبة الثالثة في عدد تصاريح الإقامة، يأتي المواطنون التونسيون بعدد 252.914 شخصاً، ليليهم الأتراك بـ214.679 شخصاً، فالصينيون بـ114.257 شخصاً.
وفي المجموع، يبلغ عدد تصاريح الإقامة التي منحتها فرنسا في نهاية سنة 2020 حوالي 3.6 مليون تصريح، بارتفاع طفيف ناهز 1.1 %.
إن "أزمة" المقيم الشرعي الأجنبي في فرنسا هي أزمة يحكمها خطاب الكراهية السائد منذ أحداث "شارل إيبدو" وعمليات باريس ونيس وحادثة المعلم "صامويل باتي"؛ لأن المهاجر المسلم هو شخص كامل الحقوق وعليه واجبات طبقاً للقوانين السارية المفعول في البلد، فعندما ينال أي أجنبي مقيم الجنسية الفرنسية يتلقى من رئيس الجمهورية رسالة ترحب به كـ"مواطن في البلاد" وتؤكد على أنه أصبح يتمتع بجميع الحقوق وعليه كل الواجبات التي يتمتع بها جميع المواطنين الفرنسيين (الأصليين). طبعاً هذا "المواطن" لا يبقى مهاجراً مهما كان أصله العرقي أو معتقده الديني أو لون بشرته.
الربط بين الهجرة والهوية الوطنية
لفهم هذا الربط يجب أن نضع كرونولوجية لمسألة الهجرة عموماً والهوية الوطنية خصوصاً، علماً أن في فرنسا مثلاً جون ماري لوبان، زعيم حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف "FN" كان قد جعل من موضوع الهجرة والمهاجرين المحور الأساسي لجميع حملاته الانتخابية على مدى ثلاثة عقود 2002-1972، أي منذ تأسيس حزب الجبهة الوطنية في عام 1972، وعلى جميع مستوياتها الرئاسية والتشريعية والبلدية عند كل استحقاق انتخابي. وعندها بات حل مشكلة البطالة منذ عقود في فرنسا يكمن بكل سهولة بـ"ترحيل" المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية كي لا يأخذوا فرص العمل ويأكلوا خبز الفرنسيين البيض.
هنا يأتي متغير الهجرة في عمقه الاجتماعي والذي أصبح خطراً على النسيج الاجتماعي والثقافي على المجتمع الفرنسي، رغم أن هذا المتغير يحمل الكثير من الالتباس. فأي هجرة وأي مهاجرين نعني بها؟ هل هم الإيطاليون الذين قدموا بموجات كبيرة في مطلع القرن العشرين أم البرتغاليون والإسبان الذين جاؤوا بعدهم أم المهاجرون من أصول عربية، مغاربية ضمناً، والأفارقة السود؟
حينئذ تطرح مسألة الاندماج، التي أصبحت تتضارب مع مفهوم الهوية الوطنية الذي هو نفسه في غاية التعقيد، ذلك أنه يرتبط بمفهوم أعمق تحديداً: هو مفهوم الأمة. كون أن الهوية نفسها مفهوم متحرك، وعندما يتم تحديدها مرّة واحدة وللأبد فإن هذا قد يعني نهايتها. هذا ما يدافع عنه التيار الوطني المتشدد في فرنسا مثل مرشحة حزب اليمين المتطرف التجمع الوطني "RN" مارين لوبان ومرشح حزب Reconquête الصحفي المثير للجدل المتطرف الوقح، إريك زيمور من والدين ذوي أصول يهودية مولودين بالجزائر.
في اعتقاده أن "للمسلمين قانونهم المدني وهو القرآن، والمسلمين يعيشون منغلقين على أنفسهم في الضواحي، التي أرغم الفرنسيون على مغادرتها." ويسعى لمنع اسم محمّد في فرنسا، وعلى كل مسلم في فرنسا أن ينصهر مع قيم الجمهورية ومبدأ العلمانية الذي أصبح بمثابة "دين" الدولة في فرنسا يتردد على لسان الساسة، حكومة ومعارضة ونخبة.
حادثة الخمار وعبارة ميشال روكار
بدأ خطاب الكراهية وتبرير العنصرية ضد العرب والمسلمين من طرف التيار المتطرف في فرنسا بقضية كان لطبيعتها بعد اقتصادي محض تجعل فرنسا غير قادرة على أن تستقبل كل بؤس العالم، كما عبّر ذات مرّة ميشال روكار، رئيس وزراء فرنسا الأسبق في إدارة فرانسوا ميتران عام 1989.
شكلت سنة 1989 نقطة تحوّل سياسي وثقافي مع موضوع الهجرة والدين في فرنسا، حيث اقترن موضوع الهجرة وخاصة المهاجرين المسلمين إلى فرنسا مع عامل المعتقد الديني أي الإسلام، حيث تحوّل موضوع الهجرة عند التيار الوطني العنصري المتطرف في تعاطيه معه، من مفهومه العرقي إلى مفهومه الديني.
وعلى إثر ذلك، حرمت 3 فتيات مسلمات يدرسن في ثانوية "حافيز" في مدينة سيريل في مقاطعة أولوا شمال فرنسا؛ من الدخول إلى القسم الدراسي من طرف مدير الثانوية، بدعوى أن المدرسة العلمانية تمنع إدخال الرموز الدينية إليها والخمار يعّد رمزاً دينياً، وهذا يعارض مبدأ العلمانية وقوانين الجمهورية في فرنسا، وكان هذا الإجراء قد ألهب الساحة الإعلامية وحكومة اليسار التى كان ليونيل جوسبان وزيراَ للتربية الوطنية فيها.
وهكذا بدأ الإسلام يظهر في فرنسا كمتغير ثقافي لضرورة الرد على الرفض من قبل الآخر، لإيجاد الوسائل التي تتيح لهذه الفئات البقاء والعيش بسلام. من هنا انتظامها في جماعات دينية وثقافية ولغوية حسب أصولها الوطنية، هذا ما دفع بحكومة الرئيس ماكرون إلى سن قانون لمحاربة الانفصالية الإسلامية، وأقر في الصيف الماضي النواب الفرنسيون بالجمعية الوطنية بغالبية كبيرة مشروع قانون ضد التطرف الإسلاموي "يعزز مبادئ الجمهورية." وتم طرح هذا القانون ضمن ما عرف بمشروع مكافحة "النزعات الانفصالية" للرئيس إيمانويل ماكرون. وهذا يعني أن التأكيد الإسلامي الاجتماعي لا يكون دائماً متعلقاً بكل مسلم، بل باللحظة التي يتخذ فيها هذا الشخص أو الجماعة القرار بإظهار هذا الانتماء.
سياسة فرّق تسد وتشتيت صوت الناخب المسلم
كما ساعدت الخلافات بين الـ"جاليات" المسلمة في فرنسا، السياسيين والإعلام حتى إدارة الرئيس ماكرون على مواصلة تهجماتهم على الإسلام بسبب انقساماتها الإثنية وولاءاتها لسلطات دولها الأصلية، مما صعّب فهم علاقة الناخب المسلم مع قيادات الجاليات المسلمة، خاصة الشاب المسلم الذي لا يصوّت عادة ولا يؤمن بالمسار الانتخابي إطلاقاً. هذا يرجع إلى عدم وجود انسجام بين الجاليات والافتقاد إلى كفاءات لها استراتيجية شاملة على توعية وتحسيس الناخب المسلم خاصة الشاب.
فعادة الناخب المسن يصوت في كل استحقاق وطني على عكس الشاب. ومؤخراً أصبحت قيادات الجاليات المسلمة رهينة التوترات القائمة بين بلدانها الأصلية، مثلاً بين ممثلي الجاليتين الجزائرية والمغربية حول تعيين رئيس مجلس الديانة الإسلامية في فرنسا والدور التاريخي الذي يلعبه مسجد باريس ومدى انعكاساته السياسية بين السلطات الجزائرية والفرنسية من جهة والدور الريادي بين المغرب والجزائر أمام السلطة الفرنسية من جهة أخرى. رغم الانعدام التام لمصداقية إدارة مسجد باريس وجميع الهيئات الرسمية لهذه المجالس في فرنسا لدى عيون الناخب المسلم عموماً.
لقد شهدت فرنسا سياسة تدجين مسلمي فرنسا من قبل الحكومات المتعاقبة منذ إدارة الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، وكشفت مؤخراً الحكومة الفرنسية عن خطتها لتأسيس منتدى الإسلام في فرنسا، ليحلّ كإطار مركزي يرعى الشأن الديني لمسلمي البلاد بعد إعلان حلّ مجلس الديانة الإسلامية بفرنسا. كما دفعت الخلافات البينية بين ما يسمى بقيادات الجاليات المسلمة بوزير الداخلية الفرنسي، ذي الأصول الجزائرية، جيرالد موسى دارمانان إلى أن ينجح في مهمته في تدجين ستة ملايين مسلم في فرنسا بسبب الشتات وتقديم المصالح الشخصية على المصلحة العليا للـ"جالية"، هذا ما دفع لعدم احترام الساسة الفرنسيين للناخب المسلم وعدم أخذ صوته بجدية.
رغم أن الانتخابات المقبلة سوف يكون لها صدى عميق بسبب سيطرة الاتجاه اليميني على الحياة السياسية في فرنسا، حيث لعب فيها الرئيس المنتهية ولايته الرئيس إيمانويل ماكرون دوراً كبيراً في تعنيف الخطاب السياسي وافتقار النقاش البناء وطرح سياسة عامة في مجتمع يعيش أزمة اقتصادية حادة وحتى سياسية كون الطبقة السياسية والأحزاب السياسية الكلاسيكية تعاني من إفلاس في التفكير الاستراتيجي والبرامج؛ ما ساهم في صعود اليمين المتطرف الذي يغذيه الإعلام والنخبة المتطرفة أيديولوجياً ومادياً.
يبقى عنصر الناخب المسلم غير قادر على أن يحدث تغييراً في الانتخابات الرئاسية كونه لا يصوت ككتلة واحدة؛ صوت الناخب المسلم مشتت كـ"قيادات" الهيئات التمثيلية، صحيح غالبية الأصوات تصب في رصيد الأحزاب اليسارية خاصة في ضواحي المدن الكبرى كباريس، ليون، مارسيليا وتولوز، أما الباقون فينتخبون مرشحي أحزاب اليمين والأحزاب اليمينية المتطرفة.
يمثل الناخب المسلم نسبة 10 % تقريباً، تبقى نسبة تفوق باقي الجاليات العرقية والدينية الأخرى على غرار الجالية اليهودية والأرمنية، اللتين صار لهما وزن في المعادلة الانتخابية في فرنسا، هذا للدور النشط للوبيات اليهودية والأرمنية داخل الإستابليشمنت وقربه من أصحاب صنع القرار في الدوائر الباريسية.
زار مرشح حزب اليمين المتطرف إريك زمور في شهر كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي أرمينيا، وصرّح بأن أرمينيا في خطر. "لقد كانت يوماً أرضاً معذبة في أيام الإمبراطورية العثمانية وشهدت مذابح مثل الإبادة الجماعية للأرمن. مرة أخرى، هذا البلد يتعرض للمضايقة، ومن جارته أذربيجان وخصوصاً من تركيا التي تقف وراءها. نحن هناك في محور حرب الحضارات".
كما زارت أيضا مرشحة حزب اليمين "LR" فاليري بيكريس أرمينيا أيضاً راكضة إلى صوت الأرمن في فرنسا، كونها كانت زميلة الوزير الراحل باتريك دوفاجيان في عهدتي جاك شيراك وعضو البرلمان وعمدة مدينة أنطوني في مقاطعة Hauts-de-Seine جنوب غرب باريس.
من جهة أخرى، بدأت فاليري بيكريس، رئيسة إقليم Île-de-France، حياتها السياسية تحت جناح الرئيس جاك شيراك والذي كان يقف ضد خطاب الكراهية اليميني المتطرف ولجون ماري لوبان بالمرصاد، تبدو هذه الأيام أكثر ميلاً نحو اليمين المتشدد، محاولة التموقع داخل حلقة خطاب الكراهية ضد المهاجرين والإسلام "السياسي" وارتداء الحجاب، ويأتي هذا في "سياسة" الاحتواء لإيريك زمور ومارين لوبان.
ظلّ صوت الناخب كمتغير في الانتخابات الرئاسية المقبلة ضحية غياب رؤية في توحيد صف النخب المسلمة على غرار مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية CAIR وهذا ما دفع لعزوف الناخب المسلم وعدم ثقته في أي هيئة إسلامية تتحدث باسمه، ما يجعل الجاليات المسلمة في فرنسا تعد الحلقة الأضعف في ظل الصراع الدائم بين المهاجر المسلم/ المتدين واليمين المتطرف الذي يحلم بصدام الحضارات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.