نعم زرت القاهرة، ليست بتلك الزيارة الطويلة التي تعطيك رخصة إطلاق الأحكام على مدينة سوبر عملاقة، لكن ما يكفي لأن تتذوق الجو العام وتعيشه، فتكتسب جرأة الرحالة في رواية القصص وتأليفها. القاهرة أكبر وأضخم وأوسع وأعلى من كل ما توقعت. لم أغادر خلال أسبوع زيارتي منطقة "وسط البلد" إلا قليلاً، لكنني في نهاية زيارتي بدأت الشك بأن المدينة بأكملها "وسط بلد"!
هناك توليفة عجيبة من عمائر ضخمة منحوتة على الشكل الأوروبي الخالص، إنما متروكة للزمن والتقلبات والرمال المصرية الخاصة جداً، ومملوءة بالكامل بالبشر (الكثير الكثير منهم)، والسيارات بأصوات الكلاكسات الصارخة على مدار الساعة.
لم أستطع -حتى بعد مغادرتي- تفسير قدرة الإنسان القاهري على البقاء هاشاً باشاً في وجه من أمامه، بل والترحيب الدائم بكل قادم جديد، رغم الامتلاء الزماني المكاني الواضح به وبالقريب والبعيد، وكأن المدينة التي لا تنام، أيضاً لا تشبع بشراً، أو أن القوم يتحدون المنطق بأن مدينتهم تتسع لخلق الله كلهم!
وهذا الامتلاء لا يصاحبه شيء من صخب المدينة الأوروبية العملاقة، وتوجس الجميع من الجميع هناك، والخوف من إرخاء دروع اليقظة لحظة واحدة، ففي القاهرة يتصاغر النسيج الكثيف المعقد إلى وحدات بشرية عفوية، سهلة المعشر، تشعر إلى جانبها بالانكشاف التام، حتى تكاد تلقي بكل احترازاتك وتسير بطريقتك ولغتك وملابسك "البيتوتية" الخاصة.
وكشخص متيم بالتجربة الحياتية الإنسانية وتفاصيلها أكثر مما اجترحَته تلك من تقنية وعلوم وحجارة منمقة، أراني أجد نفسي ميّالاً للحديث عن القاهرة بوصفها مستودعاً للحكايات، كل ما تشتهي من الحكايات، سترى وتسمع الكثير الكثير منها، والجميع قد وهبه الله هناك (كموافقة مسلية) شهية الحديث بها وعنها.
الكثير من البشر الودودين يعني الكثير من الحكاوي والتجارب، لذلك كان القلم المصري الأكثر غزارة عربياً في الرواية والقصة والفيلم، أفهم هذه الحقيقة الآن أكثر من ذي قبل، بل أكاد أستغرب لماذا لا يتحول كل مصري قاهري إلى راوٍ محترف!
سر الشرب من نيلها
كمغترب أردني في ألمانيا منذ ما يربو على تسع سنوات أكاد أفهم لماذا يقتل الشوقُ زملاءنا المصريين المغتربين أضعاف ما يقتلنا؛ فالمسافة بين ألمانيا والأردن أقصر بكثير منها بينها وبين مصر!
ولا أعني بالمسافة هنا البعد الجغرافي الخرائطي، بل ذلك البعد الحسي الاجتماعي بين الحالة القصوى من الفردانية المنغلقة على نفسها وبرودتها في ألمانيا، وتلك الحالة العامة من الذوبان الحار في مجتمع مفتوح يتحرك ككتلة واحدة مكثفة متداخلة في مصر.
في القاهرة لم أكن أدري بماذا يحمي الناس أنفسهم من غزوات الأغراب المعنوية وهم دائمو الابتسام والأريحية في وجه الجميع؟ وأين يخبئون تلك الأقنعة التي يتعلم الإنسان منذ صغره أن يرتديها ليبدو أمام الكون أقوى فيمتنع مَن حوله مِن اختراقه؟ بدا لي الجميع منشرحي البال، يتحركون كجموع مشتتة تتقارب لكن لا تتصادم، مستعدة على الدوام للبدء بحديث جانبي يتشعب في لمح البصر؛ الأمر الذي أدهشني مرات وملأ نفسي ريبة مرات أخرى!
تستطيع مثلاً أن تقول عن شوارع القاهرة إنها منفلتة عن كل عقال من التنظيم والقواعد، وإن مهمة قطع شارع مزدحم بالسيارات والموتوسيكلات المسرعة (في وسط البلد) قد تبدو مغامرة مستحيلة إلى أن يبرز شاب مصري أو فتاة مصرية من جانبك فتلحق بظله/ها حتى تصل الضفة الأخرى.
تستطيع الشكوى من سيمفونية الكلاكسات (الزوامير) التي لا تهدأ وكأنها قرقرات بطن المدينة الضخم الممتلئ بشراً، تستطيع الشكوى من ذلك وأكثر، لكن في النهاية تعلم أن الجميع سيصل إلى مبتغاه، لذا فالجميع عارف ومتواطئ ويلعب تلك اللعبة البطيئة الجماعية المسماة "لعبة المدينة". (شرح لي صديق مصري بأن هناك خطاً بصرياً متصلاً يتكون بين المشاة وأصحاب المركبات يُمكّن كليهما من تعدية الشارع.. وتعدية اليوم على خير!).
تسير هناك وأنت يتراوح لقبك بين "باشا" و"بيه" حتى ممن هم أكبر منك عمراً وقدراً، تسمع "نورت مصر" عشرات المرات كل يوم، ممزوجة بتمنيات تكرار الزيارة، ثم يعتب عليك صاحب البقالة الملاصق للفندق لأنك تحمل في يدك ما كان يمكنك ابتياعه من دكانه!
ترى في الجميع (أو قل المعظم) انشغالاً محموماً في السعي على لقمة العيش لا يفرق بين ليل أو نهار، وتسمع (إن أنصتَّ) تذمراً قد لا ينتهي من معيشة تتضاعف وتتقافز تكاليفها، لكنها متصلة في النهاية بضحكات سهلة وحب فطري ممزوج بالفخر بالأرض وما عليها.
خفة الروح هذه، والمبالغة في تلقائية الحديث والمحكي والممشى، لن تخبرها بشكلها الكامل في عمّان، وبالتأكيد لن تلمح حتى ظلها أو تجد ريحها في ألمانيا، وبالتالي بدأت أتخيل بأن إخراج شاب مصري من بيئته الأولى ومحاولة تثبيته في أرض الشحوب والصقيع، هي محاولة جادة لتغيير "جيناته" لا عاداته وسلوكياته فقط!
نهايةً، إن ما كتبته أعلاه ليس تقييماً للقاهرة ولا لتجربة زيارتها، إنها فقط محاولة ترجمة لنفحة الحنين التي تملكتني وطائرتي تفارق أرض مدينة لم أزرها سوى أسبوعٍ واحد. فهذه مجرد مشاهدة سائح عربي "غير اجتماعي" قضى هناك أسبوعاً أوليّاً يتيماً، وإن كان يعزو الفضل لجزء كبير من تكوينه الفكري والثقافي لأقلام وأصوات مصرية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.