زكي نجيب محمود “خارج النص”!

عربي بوست
تم النشر: 2022/01/18 الساعة 10:32 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/01/18 الساعة 10:32 بتوقيت غرينتش
المفكر المصري زكي نجيب محمود - مواقع التواصل الاجتماعي

سعدت بالمشاركة في حلقة برنامج "خارج النص" عن كتاب "المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري"، خاصة أنها أتاحت لي فرصة العودة مجدداً إلى العالم الفكري للفيلسوف المصري الكبير زكي نجيب محمود (1905-1993).

طبعاً كنت أعرف أن وجود ضيوف كرام مشاركين لي في الحلقة سيجعل كلامي -وكلامهم أيضاً- مقتطعاً لا يكمل نفسه بنفسه ولكن بكلام الآخرين حسب رؤية معدي الحلقة. وهذا شيء متوقع ولا غبار عليه، لذا حرصت على أن أنتظر مشاهدة الحلقة لأكتب رأيي كاملاً، ليس في الحلقة بالطبع، ولكن في زكي نجيب محمود؛ خاصة أنه أحد كبار المؤثرين في تكوين جيلي والأجيال السابقة.

أتذكر أنني كنت في الثانوية العامة عندما انتبهت لمقالات زكي نجيب محمود التي كان ينشرها كل ثلاثاء في صحيفة الأهرام. ولأن مقالات الرجل كانت من مستوى واحد كنت أتعجب كيف له أن يكتب مثل هذه المقالات الضخمة والعميقة في أسبوع واحد فقط. وهذا أمر لم أفهمه إلا بعد فترة طويلة. وفيما بعد عرفت أيضاً أن مقالاته تلك كانت تنشر في صحف عربية أخرى. وهذا شيء نادر فيما يخص كتابات الفلاسفة.

ومعنى هذا أنني بدأت في قراءته بجدية منذ صيف سنة 1983 وحتى توقفه عن الكتابة في الأهرام سنة 1991. ورغم مرور كل هذه السنوات ما زلت أتذكر تلك النشوة الخفية وذلك الإحساس الذي كان ينتابني وأنا أفتح الأهرام سريعاً على مقاله الذي أقرأه بدايةً بسرعة خاطفة حتى أحيط به وأتصوره مجملاً ثم أقضي معه سحابة النهار وأنا أتدبره جملة جملة وفقرة بعد فقرة حتى أشعر أنني تشربت مقالته تماماً.

وأذكر أنني كنت أتعجب من نفسي لماذا لا أستخدم الطريقة نفسها مع الكتب التي أدرسها! لماذا أشعر بملل منها قبل أن أفتحها. وظني أن السبب يعود للرجل نفسه؛ فقد كان على عمقه ذا أسلوب طلي شديد السلاسة، لا شك أن وراءه خبرة طويلة في الكتابة ودربة مستمرة عليها. وهذه أمور مهمة لمن يريد ممارسة الكتابة؛ فالكتابة تسلس فقط بالدربة الطويلة والتجريب اليومي المستمر.

وكنت في كل عام إذا ذهبت لمعرض الكتاب في القاهرة ورأيت كتبه الجديدة أجد أنها تضم نفس المقالات التي سبق وقرأتها في "الأهرام". ويمكن أن تقول هذا على كتبه في فترة الثمانينيات، تحديداً منذ "أفكار ومواقف" (1983) وحتى "عربي بين ثقافتين" (1990).

وفيما بعد كنت أقرأ كتبه السابقة بطريقة انتقائية وعلى فترات متباعدة. ومع ذلك تبين لي أنه كما كان مشغولاً بمشروعه الفكري كان مشغولاً بسيرته الذاتية أيضاً. وأنه إلى جانب المقالات الذاتية المتفرقة نشر ثلاثة كتب كبيرة عن سيرته هي: "قصة نفس" (1965)، و"قصة عقل" (1983)، و"حصاد السنين" (1991). وهذا الأخير هو آخر كتبه أيضاً؛ فبعده شعر الرجل أنه أدى رسالته ولم يعد لديه ما يقدمه، وربما تسبب في هذا أيضاً ضعف بصره الذي منعه من القراءة والكتابة. وظل على هذه الحال حتى أدركته منيته في الثامن من سبتمبر 1993.

وقراءة سيرة الرجل من كتبه الثلاثة ضرورية لفهمه ومشروعه الفكري والوقوف على أهميته. وبناءً عليها أستطيع القول إنه مرّ في حياته الفكرية بمرحلتين أساسيتين:

مرحلة أولى حتى منتصف الستينيات، كان يدعو فيها لعلمية النظرة وأهميتها القصوى لأي نهضة مأمولة، ولذا تجنب التراث العربي الإسلامي إلا قليلاً، وأصرّ على ضرورة الأخذ بما أخذ به الغرب حتى ساد الدنيا بعلمه وصناعته وقوته. وفي هذه المرحلة ألف كتبه التي سبقت حرب 1967.

ويمكن أن أشير هنا إلى أربعة كتب رئيسية هي: كتابه "شروق من الغرب" (1950) الذي نقده أستاذه العقاد في مقال معروف أخذه الشيخ الشاب محمد الغزالي ووسعه حتى صار كتاباً بعنوان "ظلام من الغرب"، وكتابه "خرافة الميتافيزيقا" (1953) وقد عدله في مرحلته التالية وغير العنوان فيما بعد إلى "موقف من الميتافيزيقا"، وكتابه "نحو فلسفة علمية" (1959) الذي فاز عنه بجائزة الدولة التشجيعية سنة 1960. وأخيراً كتابه "الشرق الفنان" (1960).

ويتضح من الكتابات الذاتية للدكتور زكي نجيب محمود أنه كان ومنذ البداية خالص النية في العمل على إنهاض أمته من تخلفها وضعفها. ولذا فإن الرجة القوية لهزيمة يونيو سنة 1967 ثم سفره بعد ذلك مباشرة للعمل في جامعة الكويت قد أدخلاه في مرحلة ثانية وأخيرة لم يُلغِ فيها ماضيه، ولكن أضاف إليه وعدّله.

وظني أن عمله في جو عروبي مع جنسيات عربية مختلفة جعله يقتنع بضرورة تحديد موقفه من التراث العربي وعلاقته بالحاضر. ولأن الرجل كان قد جاوز الستين من عمره وبلغ قمة نضجه المعرفي والمنهجي أصبح صادقاً مع نفسه، لا يخادعها في الحقائق، لذا لم يجد غضاضة في إعلان ضآلة محصوله من التراث العربي الإسلامي مقارنة بزملاء عمله في الكويت.

وبسبب وقت الفراغ الطويل وقلة المكتبات التي تبيع الكتب الأجنبية شرع في قراءة كتب التراث المهمة. ومع الوقت بدأ يرى أن نظرته القديمة تعميمية قاصرة، وأنها لن تفيد بشكلها هذا في الوصول للغاية التي يرجوها وهي أن تنهض الأمة من كبوتها وضعفها وتفككها، وأيقن أن الاعتماد على التراث الغربي وحده لن يكفي لإنهاض الأمة، وأنه من الجنون تصور إمكانية نهضة حقيقية إذا تجاهل المرء تراثه العربي خاصة الإسلامي منه؛ لأنه هو الذي يكون شخصيتها ويسميها بمسماها الخاص.

ورأى أن الحل الأمثل في رؤيته الجديدة هو المواءمة بين المفيد مما هو عصري والمفيد مما هو أصيل. وبالتالي وجد أن عليه أن يحدد موقفه من هذا الأصيل أي التراث وعلاقته بالعصري أي بالحاضر وبالنهضة المرجوة بالطبع.

ولأنه كان قد تجاوز الستين من عمره وضاق الوقت أمامه فقد توقف عن الترجمة وعن الاشتراك في الكتب الموسوعية الكبيرة وتفرغ لمشروعه الفكري الكبير، مشروع "الأصالة والمعاصرة" كما أسميه، الذي بدأه بكتابه الشهير "تجديد الفكر العربي" (1971). ولحق بهذا الكتاب عدة كتب مهمة مثل: "المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري" (1975) "ثقافتنا في مواجهة العصر" (1976)، و"في حياتنا العقلية" (1979)، و"مجتمع جديد أو الكارثة" (1983)، و"رؤية إسلامية" (1987)، و"في تحديث الثقافة العربية" (1988)، و"عربي بين ثقافتين" (1990).

وفي هذه الكتب عمل زكي نجيب محمود على إبراز الصيغة الثَّقافيَّة التي ارتأى أنها إذا ما تجذرت حققت للأمة العَربيَّة نهضتها، وهي صيغة لا بد لها أن تحرص على مقومات الهوية العَربيَّة كما عرفها التاريخ العربي، على أن تُدمج في تلك المقومات صفات تقتضيها حضارة هذا العصر ومن هنا جاء مصطلحه الشهير "الأصالة والمعاصرة".

وإبان ذلك حرص زكي نجيب محمود على تأكيد أنه لم يغير رؤيته القديمة أي لم يغير شيئاً بشيء كما قد يتصور البعض، ولكنه وسع تلك الرؤية بأن أضاف إليها بُعداً جديداً، هو بُعد التراث وموقفه منه.

وحرص كذلك على تأكيد أن غايته بقيت واحدة في الحالتين، وهي أن تنهض الأمة العَربيَّة من غيبوبة فقرها وجهلها وضعفها وتفككها، إلى صحوة فيها القوة والعلم والثراء والتوحد.

وكانت هذه الإضافة للحقيقة تطوراً لافتاً في فكر زكي نجيب محمود. فبعد أن كان ينادي فقط بضرورة الأخذ بالثقافة الأوروبية حتى ننهض، تطور فكره حتى أصبح يقول عبارات من قبيل أن "التنكر لماضي الأمة في جملته إنما هو من تخليط المجانين، فلا تعرف الدنيا إنساناً واحداً يستطيع التنكر لماضيه حتى إذا أراد ذلك".

ومشكلة زكي نجيب محمود كما في عبارته تلك أنه لا يتنكر للماضي (بجملته) ولا يقبله (بجملته) أيضاً، وهنا ندخل إلى القضية الكبرى التالية وهي: أي تراث هذا الذي نقبل به؟ وكيف يكون الانتقاء أو الغربلة؟ ومن الذي يقوم بهما؟ ولكن هذا ما يحتاج لمقال آخر سيكون تطبيقياً إن شاء الله.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عبد السلام حيدر
أستاذ جامعي متخصص في التاريخ
أستاذ جامعي متخصص في التاريخ
تحميل المزيد