إذا فاز فريق لكرة القدم في مباراة كبيرة، فذلك راجع إلى الخطة العبقرية التي اتبعها مدرب الفريق أثناء المباراة، هذا سيكون رأي الجمهور في المباراة، أما فريق التحليل الذي يجلس في الاستوديو، فسيطالب بتدريس هذه الخطة في أكاديميات الرياضة العالمية، حيث إن المدرب أجرى تبديل اللاعبين في توقيتات استثنائية، لكن إذا خسر هذا الفريق فالرأي الراجح وقتها سيكون أن سبب فشل الفريق في تحقيق الفوز هو اتباع نفس المدرب لخطة فاشلة، كانت ستصبح ناجحة لو فاز الفريق.
نفس هذا المبدأ تستطيع أن تطبقه على نظرة الجماهير للقيادات السياسية، فهم في الغالب يقيمون أفعال الزعيم، بالنظر إلى النتيجة النهائية التي يلمسونها بأيديهم، وذلك بغض النظر عن الأساليب الذي اتبعها هذا الزعيم في الوصول إلى هذه النتيجة.
ولا أستطيع هنا أن ألوم الجماهير على هذه الأفكار، فهم لا يحترمون إلا المنتصر، وإذا نال المهزوم إشفاقهم فهذا شيء استثنائي، فالناس -كما خبرتهم- قد يحبون الزعيم المثالي الذي يتمسك بالأخلاق والمثل العليا، إلا أنهم من المستحيل أن ينقادوا له أو يستقتلوا في الدفاع عنه، إذا لم ينجح في تحقيق مقاصده السامية، بل إنهم قد يقاتلون أتباع زعيمهم المحبوب، فتكون قلوبهم مع الزعيم المهزوم وسيوفهم عليه.
ولو أنك وجهت إليهم اللوم على موقفهم لردوا عليك قائلين: وهل سنطعم أطفالنا قيماً عليا ومُثلاً سامية، وهل ستحمينا قيم زعيمنا المحبوب من رصاصات الطاغية الذي حل محله؟ ماذا تنتظر منا؟ هذا سيكون رد بسطائهم، أما المتعلمون منهم فسيقولون: إن هذا الزعيم الخلوق قاصر الفكر، فهو لم يفهم أن الأخلاق والصواب والخطأ مسائل نسبية للغاية، فما يعد أخلاقياً في موقف، قد يعد خطيئة في موقف آخر، وما يعد صواباً في ميدان يعتبر خطأ في مكان آخر، وكلما أوغلنا في مجالات السياسة ومصائر الدول دق الفارق بين الفعل الأخلاقي وعكسه، ولن يدرك هذه الفوارق الدقيقة إلا الحصيف، وطالما أن زعيمنا المهزوم افتقد هذه الحصافة فلا يلومن إلا نفسه. هذا سيكون رد الجماهير بكل فئاتهم، بسيطهم ومتعلمهم، إلا مَن رحم ربي.
ولو أردنا أن نفلسف أو ننظر لأسلوب الجماهير في التعامل مع الأمور التي تتعلق بمجموعهم، كرأيهم في حاكم ما، أو مدرب كرة قدم، أو قائد حربي، فسوف نجد أن هذا الموقف أقرب ما يكون للبراغماتية، والبراغماتية هي عبارة عن "مذهب فلسفي سياسي يعتبر نجاح العمل هو المعيار الوحيد للحقيقة، رابطاً بين التطبيق والنظرية، حيث إن النظرية يتم استخراجها عبر التطبيق"، كما ضربنا مثالاً لمباراة الكرة التي نجح المدرب في الانتصار فيها فيطالب المحللون بتدريس خطة المدرب فيها.
وإذا سألتني عن الهدف من توصيف موقف الجماهير أو التنظير له، أقول لك إن معرفة الزعيم أو القائد لنفسية الجمهور أمر غاية في الخطورة، وبخاصة إن أدرك حقيقة أن الشعب لن يهب لنصرته إن لم يكن هو قوياً في الأساس، إن لم يشعر بأثره في حياته اليومية البسيطة، ويفهم موقفه بصورة أوضح، ويعالج نقاط ضعفه، ولم يمكّن أشباه الرجال من التسلط على خلق الله، كما يحدث في الغالب! فكم من قائد عظيم تخيل أنه قوي بشعبه الذي يعشقه، فلا يجد من هذا الشعب إلا الخذلان والتجاهل وقتما تشتد الحاجة لحركة هذا الشعب.
ومن أبرز القادة الذين لم يركنوا إلى حماسة الشعب، الملك طالوت الذي ذكره القرآن الكريم، فهذا الملك جاء على شعب لديه كل الأسباب التي تجعله يستقتل في الحرب، فأولادهم ونساؤهم في الأسر، وكتابهم المقدس وتابوتهم الذي ورثوه من نبيهم رهينة في يد أعدائهم، وليس لديهم كما نقول ما يخافون عليه ليجبنوا ويخافوا "قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا".
لكن طالوت لم يستند في معركته على هذه الحماسة المنطقية، وأجرى اختبار النهر المعروف الذي أثبت عدم وجوب اعتماد القائد على الشعب في الاصطدامات المصيرية "فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ".
وأنا هنا لا أنكر أو أحقر من دور الشعوب في تغيير مصائر الأمم، ولكنني أضعه فقط في مكانه الطبيعي، فالشعب إن لم يجد قوة تحميه، وتجمع شتاته، سيفقد قوته المتمثلة في توحده ويتفتت إلى أفراد كل شخص منهم لا يبحث إلا عن مصلحته الخاصة.. الخلاصة: "إنما الناس كالإبل المئة، لا تكاد تجد فيها راحلة".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.