يبدو أن لبنان دخل بشكل مؤقت في هدنة سياسية وذلك بانتظار حماوة أزمة جديدة على أعتاب الاستحقاق الانتخابي والذي سيكون برؤوس متعددة مع شظايا متطايرة وسقوف مرتفعة وهذه الهدنة ستتطور خلال أسابيع قليلة إلى غليان سياسي في المشهد الداخلي، بسبب حاجة بعض القوى المتضررة من غضب الناس إلى تفجير القنابل المذهبية والطائفية مع خطاب شعبوي، بعدما حسمت خياراتها بالصدام وتصفية الحسابات على طريق الانتخابات النيابية التي باتت على مسافة أربعة أشهر من الآن.
وهذا الوضوح في الصورة السياسية الآيلة للاشتباك في أي لحظة، يُقابله غموض مريب في الصورة المالية، التي يكتنفها إرباك صارخ، وجنون واضح للدولار صعوداً إلى سقوف خيالية على ما حصل في الأيام الأخيرة، ونزولاً على ما حصل يوم أمس، بحيث لا يعرف من يتحكّم به، سواء أكانت السوق السوداء او السوق الرسمية أو الصرافون أو تجار العملة، وفي حالتي الصعود والهبوط، طرف وحيد يدفع الثمن هو المواطن اللبناني، في سرقة ما تبقى لديه من مدّخرات، وفي استفحال الغلاء وزيادة الأسعار.
وعليه فإن مراقبين يتوقعون أن تبقى الليرة اللبنانية بلا سقف متوقع ما يعني أن الشارع سينفجر حتماً وانفجاره سيكون أكثر من عنف وفوضى وحتماً بلا ضوابط أمنية واجتماعية، وهذا الأمر معطوف على غياب أي أفق للاتفاق مع صندوق النقد قبل إجراء الانتخابات، وأن لا موازنة مع خطة للتعافي المالي رغم كل أحلام اليقظة التي تنشرها حكومة ميقاتي، وستتطور الأمور من اشتباك السلطة القضائية مع الثنائي الشيعي مع انهيار المجلس الدستوري وتعطيل البرلمان والحكومة إلى فراغ تشريعي وقد يمتد إلى تفجير الاستحقاق الانتخابي، يليه فراغ رئاسي، فيصبح البلد كله أسير الفراغ والفوضى من جهة ومؤسسات عسكرية وأمنية عاجزة عن إقناع ضباطها وجنودها بالوقوف في مواجهة غضب الشارع من جهة ثانية.
وفي الاهتمام الخارجي بلبنان المنهار يصل في أواخر الشهر الحالي، وزير خارجية الفاتيكان، بياترو كالاغار، إلى لبنان، للمشاركة في مؤتمر يعقد في جامعة الروح القدس.
وهذه الزيارة باتت تشي بسؤال مهم أنه ماذا بقي بعد 25 عاماً من لبنان التي طالما سعى الفاتيكان إلى المحافظة عليه، بصيغته التعايشية بين المسيحيين والمسلمين، وبوجود المسيحيين فيه وضمان وجودهم في الصيغة اللبنانية؟ سؤال تطرحه اليوم دوائر الفاتيكان بخوف كبير على لبنان.
وعليه فإن كالاغار سيقوم بجولة على المسؤولين السياسيين، وعلى رأسهم رئيس الجمهورية ميشال عون، ليعبّر عن خوف الفاتيكان من تدهور الأزمة اللبنانية بمسارها المستمر نحو الارتطام، وتأثير ذلك على هوية لبنان.
وهذه الزيارة مرتبطة بتقرير رفعته خلية لبنان في الفاتيكان والتي كانت لشهور تناقش التطورات اللبنانية بكل تفاصيلها، ووصلت لخلاصة مرعبة أن البلاد عقب سنوات قليلة سيخلو من اللبنانيين بفعل الهجرة الكبيرة، وسيبقى فيه المقيمون من اللاجئين السوريين والجنسيات الأخرى. وهذا تماماً ما بدأ يثير مخاوف البابا فرنسيس، الذي يحرص على بقاء لبنان بوجهه المتنوع بمسيحييه ومسلميه.
فيما الهجرة أصبحت ظاهرة خطيرة تصيب المجتمع اللبناني، وتحديداً المسيحيين، وهنا يدور حديث في الكواليس عما يمكن أن تكون الخطوة التالية لحماية النسيج اللبناني، أو للمحافظة على الأقل على ما تبقى. وبناءً على ذلك، يبدو أن القاسم المشترك الذي سيجمع عليه المسيحيون في المرحلة المقبلة، هو العنوان الذي طرحه رئيس الجمهورية ميشال عون حول اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة، التي ترى فيها مختلف القوى صيغة أفضل لضمان التعددية اللبنانية.
بالمقابل برز أمس خطاب الإيعاز الأمريكي الذي تلقته الحكومة اللبنانية للانطلاق في مشروع استجرار الغاز المصري والكهرباء الأردنية عبر سوريا، حيث بدد الهواجس اللبنانية المتعلقة بعقوبات قانون قيصر، ونقلت السفيرة الأمريكية دوروثي شيا إلى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أمس كتاباً رسمياً خطياً من وزارة الخزانة الأمريكية أجابت خلاله على بعض الهواجس التي كانت لدى السلطات اللبنانية في ما يتعلق باتفاقيات الطاقة الإقليمية التي ساعدت الولايات المتحدة في تسهيلها وتشجيعها بين لبنان والأردن ومصر. وجزمت السفيرة الأمريكية بموجب هذا الكتاب أنه لن يكون هناك أيّ مخاوف من قانون العقوبات الأمريكية، مشددةً على أنّ الرسالة التي سلمتها إلى ميقاتي تمثل زخماً إلى الأمام لإحراز تقدم في معالجة أزمة الطاقة التي يعاني منها الشعب اللبناني.
وهذا المسار الكهربائي والنفطي ليس إلا تلازماً مع أمرين مهمين وهما خشية واشنطن من استغلال موسكو لأزمة غاز وكهرباء في بيروت والعمل على الدخول إلى بيروت عبر هذه البوابة فيما الموفد الأمريكي آموس هوكشتاين يصل لبيروت الأسبوع المقبل لتطويق الحل المتعلق بترسيم الحلول واستخراجه قبل مارس، وعليه يقول مرجع سياسي من الصف الأول عاد من واشنطن منذ أيام أن الانتخابات هامشية بالنسبة للغرب، الأمريكي هو من يحمي رياض سلامة المسؤول عن الأزمة النقدية وهو من أتى بنجيب ميقاتي أبرز عواميد النظام السياسي رئيساً للحكومة، لذا فالهم الأمريكي هو الترسيم البحري بين إسرائيل ولبنان وعليه يقول نقلاً عن مصادر في واشنطن: رسموا الحدود وخذوا ما يدهش العالم.
بالتوازي لا يمكن فصل مسارات التطورات الخطيرة الجارية في المنطقة عند تلك الجارية في لبنان ومحيطه السوري والعراقي وصولاً لكازاخستان والتي شهدت الأسبوع المنصرم أهم تطور دراماتيكي قد ينعكس على شكل الصراع الجاري على موارد وثروات دول العالم الثالث، وكازاخستان في قلب الصراع الجيوستراتيجي الذي يشهده العالم.
وهذا الصراع الدولي يتمدد أكثر فأكثر، بانتظار الوصول إلى ملامح ترسم صورة العلاقات الدولية وتوازناتها المستقبلية، والذي ستؤثر على قوى كثيرة به على رأسها الصين وروسيا وإيران، وهذا التطور الخطير ليس منفصلاً عن المفاوضات النووية بين إيران والغرب، ومن هنا لا بد من النظر أيضاً إلى الدور التركي واتساعه أكثر فأكثر وسط طموح في تعزيز الحضور والبروز في الدول التركية، ويمكن توصيف المشهد بأنه نوع من التنافس الروسي التركي.
وهنا يتحدث المحلل السياسي منير الربيع أن مثل هذه المعارك، تعيد بوتين إلى ضابط متشدد، فيضع "الرئاسة" جانباً، ويعود في ممارساته إلى ما كان الوضع عليه أمام الصراع السوفييتي الأمريكي، كما فعل لدى اجتياحه جورجيا، أو كما يفعل حالياً مع أوكرانيا. وليس من قبيل المصادفة أن يأتي التحرك الكبير في كازاخستان في الوقت الذي يحشد فيه بوتين قواته العسكرية الكبيرة باتجاه أوكرانيا، ويلوح دوماً بالسعي إلى اجتياحها. في هذا الوقت فتحت عليه النار في كازاخستان، في حين سارع هو إلى التدخل العسكري فيها لإجهاض التحركات والحفاظ على مصالحه الاستراتيجية فيها.
وكما يسعى إيمانويل ماكرون لقطع الطريق على رجب طيب أردوغان في لبنان يفعل بوتين في آسيا الوسطى عبر إرساله رسائل واضحة لأنقرة، وتفيد بأنها لن تستطيع إبعاد هذه دول العالم التركي عن الفلك الروسي، عبر أيضاً إدخال قوات أرمنية إلى كازاخستان للقول إنّ التوازنات الاستراتيجية في آسيا الوسطى ودول القوقاز هو وحده من يملك قرار اللعبة السياسية فيها، وهذا الأداء قطع الطريق على أية مساعٍ لأنقرة للمشاركة مع موسكو في صناعة الحلّ للأزمة الكازاخية، وخاصة بعد حرب قرة باخ والتدخل المباشر في صناعة الحل السياسي بعد العسكري.
وهذا الأسلوب الحاسم لموسكو سينعكس في نهاية المطاف على ملفات تعاون وتنسيق إقليمي واسع يمتد إلى سوريا وليبيا وبعض الدول الإفريقية والحرب الدائرة في شرق المتوسط والأزمة المفتوحة في أفغانستان، وعليه فلن تغامر إدارة حزب العدالة والتنمية التركي وتضحّي بكلّ هذه الملفّات وتصعّد مع بوتين في كازاخستان.
وعليه فإن هذا الأداء الروسي غير المتوقع سيؤثر على مجموعة ملفات في المنطقة ولاعبيها وتحديداً بكين وطهران واللتين ستعيدان رسم حضورهما الخارق للحدود، الصين ستوسع دائرة حربها مع وكلاء الغرب وواشنطن اقتصادياً وعسكرياً، وقد يحمسها ما جرى في كازاخستان على اجتياح تايوان والضغط على ماليزيا.
فيما إذا تحمس بوتين على توجيه ضربة لأوكرانيا أما الجانب الإيراني فقد يتشدد في مفاوضاته مع الغرب في ظل اتساع رقعة المعارك في اليمن والجمود السياسي في العراقي والتعطيل الجاري في لبنان، أما موسكو فلن تخجل من محاولات فرض واقع سياسي جديد على الساحل الشمالي اللبناني في غمرة الاحتدام السياسي بين اليونان وفرنسا مع الأتراك، وهذا مؤشر على ارتياح الطبقة السياسية الحاكمة حول مناوراتها الجارية في المنطقة.
في الواقع، ثمة تحدّيات كثيرة تواجه الساحات العراقية والسورية واللبنانية بموازاة المفاوضات الدائرة حول الاتفاق النووي بين إيران والدول الكبرى، وهذه التحولات تحصل عادة بهدوء. وهذا ربما ما أعاد الحيوية لتنظيم "داعش"، ولا يمكن تصديق أن هذا التنظيم الجهادي قادر على إعادة تأمين موارده المالية والحربية والقتالية بالخفاء، العقل يقول إن ثمة مستفيداً من الدماء والدمار التي سيتسبب بها "داعش" من جديد، بهدف إحداث ترتيب جديد للخارطة، وهذا الطرف حكماً هو المحشور في زاوية الإفلاس والعقوبات.
فلننتظر!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.