تكثر التخمينات من الجانب التونسي حول الأسباب التي دفعت المغرب إلى اتخاذ قرار بمراجعة اتفاق التجارة الحرة معه بهدف تقليص العجز التجاري معه، وحماية النسيج الصناعي في المغرب، وتحصين الوظائف في عدد من القطاعات الإنتاجية.
بعض الاقتصاديين التونسيين توقفوا على حقيقة هذا الاتفاق، وحصيلة الأرقام التي تتعلق بالصادرات والواردات للبلدين معاً، وأقروا بوجود اختلال في التوازن لجهة تونس، وأن المغرب بالفعل يعتبر الخاسر في هذا الاتفاق. لكنهم في المقابل، ركزوا على نقطتين اثنتين: أولاهما أن حجم التعامل بين البلدين لا يزال محدوداً ودون المتطلَّع إليه. والثانية أن نسبة العجز بين صادرات المغرب إلى تونس، ووارداته منها، ليست كبيرة، وأن المغرب يمكنه- لاعتبارات كثيرة- أن يتحمل هذا العجز الصغير الذي يكسب منه بلد يعاني من أزمة اقتصادية خانقة، ويوشك أن ينهار اقتصاده.
خسائر تونسية ضخمة
قرار المغرب، بإعادة التفاوض بشأن الضريبة المفروضة على مجموعة من السلع التونسية، التي تم فتح "لوائح سلبية" بشأنها، وإقرار ضريبة 17.5% على السجاد والأدوات المنزلية والمكتبية، فضلاً عن سلع أخرى مستوردة من تونس، لم يكن طارئاً، حتى تتم المسارعة إلى تفسيره بالاعتبارات السياسية. فقد جاء أولاً في سياق مراجعة اتفاقيات التجارة الحرة مع عدد من البلدان، ومنها تركيا، التي اتخذ المغرب بشأنها قراراً سنة 2020 بزيادة الرسوم الجمركية بما يصل إلى 90% على 1200 سلعة تركية ولمدة 5 سنوات. وكان القصد من ذلك حماية المنتوج الصناعي من النسيج. كما جاء أيضاً عقب قرار سابق، اتخذه المغرب بشأن الكراس التونسي (الدفتر التونسي)، حيث اتهم المغرب تونس بإغراق السوق المغربية به، بعد إجرائه تحقيقاً منذ مايو/أيار 2017 بشأن واردات "الكراس" والورق التونسي، أثبتت نتائجه أن سياسة إغراق السوق المغربية بالكراس (الورق التونسي) كان لها تأثير سلبي على القطاع، وتكبدت صناعة الكتب الوطنية المغربية خسائر مهمة ما بين 2013 و2017. ومع أن تونس قدمت شكوى لمنظمة التجارة العالمية بهذا الشأن في يوليو/تموز 2018، إلا أنها خسرت هذا التظلم، واقتنعت منظمة التجارة العالمية بالحجج المغربية التي أدليت بهذا الشأن.
على أن ما يبعد الشكوك عن الاعتبارات السياسية وراء هذا القرار أيضاً، أن مراجعة اتفاق التجارة الحرة لم يستهدف فقط تونس، وإنما استهدف أيضاً مصر، التي يعزم المغرب رفع الضرائب عن ست من منتجاتها تتعلق بالمساحيق، والمواد القابلة للاشتعال، والإطارات، والملابس المستعملة، وقضبان التسليح، والسيارات.
التدقيق في الأرقام ونسبة الصادرات المغربية إلى تونس، والواردات القادمة منها إلى المغرب، يؤكد وجود هذا الاختلال، فمعطيات 2019 تشير إلى بلوغ قيمة الواردات من تونس إلى المغرب 236 مليون دولار، في حين لم تتجاوز قيمة صادرات المغرب إليها 89.26 مليون دولار.
تفسير المغرب، من وجهة نظر تجارية، يرى أن تونس تلجأ إلى دول أخرى لتلبية وارداتها، مع أنه بإمكانها أن تلبي هذه الحاجة من المنتوجات المغربية، وتحقق بذلك التوازن في التبادل التجاري بين البلدين.
خبراء الاقتصاد التوانسة يرون أن قرار المغرب سيزيد الاقتصاد التونسي تدهوراً، وسيجعل الخزينة التونسية تفقد ما يزيد عن 150 مليون دولار، ويعتبرون أن ما سيربحه المغرب ليس كثيراً، إذا ما تم النظر إلى هشاشة الاقتصاد التونسي، وحاجته في هذه الفترة إلى دعم عربي أو مغاربي.
أسباب القرار المغربي
البرلمان المغربي منذ أكثر من خمس سنوات، وهو ينتقد سياسة الحكومة في تدبير اتفاقيات التجارة الحرة، ويعتبر أن المغرب كان الخاسر الأكبر مع كل الدول التي أبرم معها هذا الاتفاق، بما في ذلك تركيا وتونس ومصر والولايات المتحدة الأمريكية. وقد فرضت عليه تداعيات جائحة كورونا التفكير في خطوات إجرائية، لتعافي قطاعات كثيرة في النسيج الصناعي، ولذلك بدأ يحكم الاعتبارات التجارية أكثر إلا في حالات نادرة، اشتغل فيها المغرب بحسابات استراتيجية، كما حصل مع إسبانيا، في لحظة أزمتها المالية والاقتصادية الخانقة سنة 2008، مما دعا الملك محمد السادس إلى إعطاء تعليماته إلى الحكومة بمساعدة إسبانيا على الخروج من أزمتها، حتى أضحت مدريد هي الشريك التجاري الأول للمملكة سنة 2012، حيث نشطت أكثر من 800 شركة إسبانية بالمغرب.
والحقيقة أنه على الرغم من أن كل المؤشرات تفيد بأن الحسابات التجارية هي التي كانت وراء القرار، إلا أن استقراء سلوك المغرب في علاقاته التجارية مع عدد من الدول، يبين أن المغرب كثيراً ما قلل من الحسابات التجارية، لاعتبارات استراتيجية، فقد زار الملك محمد السادس تونس في عز تعثرات الربيع العربي، وقدم دعماً لتجربتها الديمقراطية، ومدد مدة زيارته لبعث رسالة مهمة للمستثمرين الأجانب، بوجود استقرار سياسي في تونس، وتم توقيع 23 اتفاقاً للتعاون، في حفل ترأسه إلى جانب الرئيس التونسي، شمل العديد من المجالات ذات الأهمية الاستراتيجية الكبرى.
في هذه اللحظة كان من الممكن للمغرب أن يحكم الاعتبارات التجارية، ويستثمر التصنيفات السلبية للمؤسسات الائتمانية حول تونس، حتى تتحول وجهة المستثمرين إلى المغرب، ويخطف المغرب حصة تونس من السياحة، لكن الرباط اختارت في تلكم اللحظة تحكيم الاعتبارات الاستراتيجية، في سياق تعميق شراكتها مع تونس، وحاجتها إلى دعم تونسي لتعزيز وجهة نظرها ومقاربتها لإعادة بناء الاتحاد المغاربي وتقوية فرض التكامل والاندماج الاقتصادي.
لكن يبدو أن المغرب، في اللحظة التي اختارت فيها تونس أن تغير سياستها تجاهه، وأن تتخذ قراراً غير مسبوق في سياستها الخارجية، في مجلس الأمن، وذلك بالامتناع عن التصويت على قرار تجديد مهمة المينورسو في الصحراء، وأن تفضل الاصطفاف إلى جانب الجزائر مقابل وعد بدعم بقيمة 300 مليون دولار، تحوَّلت بعد ذلك إلى مجرد وعد بقرض بهذه القيمة، فقد اتجه إلى تحكيم الاعتبارات التجارية المبنية على معادلة الربح والخسارة، وضرورة أن يبنى أي اتفاق تجاري حر على قاعدة التوازن بين الصادرات والواردات، حتى لا يتخلخل الميزان التجاري.
رسالة سياسة في لباس تجاري
الرسالة المغربية، ولو أنها لبست لباساً تجارياً مقنعاً، وجاءت في سياق مرتب يزيل الشك والالتباس، ويدفع الحجج التي تقرأ في القرار خلفيات سياسية تحتمه، فإنها في العمق وصلت إلى قصر قرطاج وإلى مختلف مكونات الطيف التونسي، فالرئيس قيس سعيد، الذي غادر منطقة الحياد، وأنكر ما قامت به الرباط من جهد لدعم التجربة التونسية والاقتصاد التونسي، وفضل الاصطفاف مع الجزائر من أجل فقط 300 مليون دولار (الهبة التي تحولت إلى وعد بقرض)، أخرج تونس من دائرة الاعتبارات الاستراتيجية للمغرب، وأدخلها في دائرة الحسابات التجارية، وعرَّض خزينة بلاده، بسبب ذلك، لخسارة تصل إلى نصف قيمة الوعد الجزائري، وعرض الشركات التونسية، الموردة للمنتوجات التي سيتم تصعيد ضرائبها الجمركية، إلى صدمة عنيفة، وسط سياق اقتصادي مأزوم، ووضع سياسي ثائر.
وبغض النظر عن رغبة الرباط في ذلك أم عدم تخطيطها لذلك، فقرارها سيزيد الوضع احتقاناً في تونس، وسيمد الثائرين على سياسة قيس سعيد بحجج إضافية على أنه يتسبب بقراراته غير المدروسة- ليس فقط في قمع الحريات- والإجهاز على المؤسسات السياسية، ومصادرة حرية الإعلام- وإنما أيضاً في قتل التجارة وإعدام الشركات الإنتاجية، وتقويض أسس النسيج الاقتصادي التونسي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.