لماذا عادت العلاقات الألمانية-المغربية إلى طبيعتها بعد التوتر والجمود؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/01/11 الساعة 11:05 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/01/14 الساعة 12:51 بتوقيت غرينتش
من اليمين رئيس الوزاء الألماني أولاف شولتس، رئيس حكومة المغرب سعد الدين العثماني / عربي بوست

كما كان متوقعاً في مقال سابق فقد غيَّرت برلين من مقاربتها، ووضعت حداً للعناصر التقليدية في دبلوماسيتها تجاه المغرب، بعد أن وضعتها الرباط في ركن ضيق، وطالبتها بالخروج من الموقف المتردد والغامض من قضية الصحراء، وأنها لن تقدم على أي خطوة تجارية تهم الأقاليم الجنوبية، دون أن يحصل هذا التغيير في الموقف.

دبلوماسية الجمود التي وصفت بها الصحافة الألمانية أسلوب الخارجية الألمانية في عهد ميركل في التعاطي مع المغرب، لم تنتبه للتطورات الإقليمية التي حصلت لصالح الرباط، أو على الأقل تجاهلتها، واتخذت مسارين اثنين، دفعت المغرب إلى تصعيد الموقف والإعلان عن دخول العلاقات المغربية الألمانية منطقة التوتر غير المعهود في تاريخ العلاقة بين البلدين.

برلين، في المسار الأول، حاولت تجاهل التطورات التي حصلت على مستوى قضية النزاع حول الصحراء، وبشكل خاص الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على صحرائه، في الوقت الذي أقدمت فيه عدد من الدول الأوروبية على تحيين موقفها لجهة دعم المقترح المغربي للحكم الذاتي، وزادت من تعميق الأزمة، لما حاولت الاعتراض على صيغة الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، وسعت للعرقلة بطلب اجتماع طارئ لمجلس الأمن الدولي وكانت عضواً غير دائم فيه، ثم أقدمت في المسار الثاني على استبعاد الرباط من الاجتماعات الإقليمية حول ليبيا في مؤتمر برلين، الشيء الذي جعل العلاقة تدخل في منعطف تصعيدي، بدأ في يناير/كانون الثاني الماضي باستدعاء السلطات المغربية السفيرة المغربية زهور العلوي من برلين للتشاور، والإعلان عن توقيف العلاقة مع سفارة برلين في الرباط، لتلجأ برلين إلى تبني لغة مصالحة، تتحدث عن ضرورة عودة العلاقات بين البلدين، وأن من مصلحة البلدين طيّ خلافاتهما.

سنة كاملة من جمود وبرود العلاقة لم تكترث فيها الرباط لمحاولات الخارجية الألمانية إثارة انتباه رأيها العام الداخلي والخارجي، بعدم وجود أسباب معقولة لموقف الرباط، إذ حاولت أن تبين أن موقفها من النزاع حول الصحراء لم يتغير، وأنها لا تفهم على وجه الدقة الأسباب التي دعت الرباط لهذا التصعيد في الموقف، لكنها لم تقدم أي سبب معقول تشرح به سبب استبعادها للرباط من مؤتمر برلين حول ليبيا، مع أنها تدرك الدور المحوري الذي قام به المغرب لجمع الفرقاء الليبيين في الصخيرات، وتقريب وجهات نظرهم لتسوية النزاعات، والخروج بخارطة طريق تبني المؤسسات الدستورية والسياسية بليبيا.

خطابات الملك محمد السادس استمرت في نقد المواقف الغامضة والمترددة لبعض البلدان الأوروبية، دون الإشارة إليها بالاسم، حتى بلغ به الأمر إلى الإعلان عن توجه الرباط نحو عدم القيام بأي خطوة تجارية مع هذه البلدان تهم الأقاليم الجنوبية ما لم تغير موقفها من الصحراء، وهو ما فهم منه، حرمان ألمانيا، بوجه خاص، من فرص استراتيجية كانت محور تفاهم بين البلدين، تهم مواد استراتيجية تستخدم في صناعة السيارات.

بعض وسائل الإعلام الألمانية تعتقد أن عهد ميركل لم يكن يتحمل تغيير الموقف، على الرغم من إطلاق الخارجية الألمانية لتصريحات تدعو إلى عودة العلاقات بين البلدين، وأن برلين تتطلع إلى بناء علاقة مع الرباط أفضل من التي كانت من قبل، وأن مجيء المستشار الجديد للحكم أولاف شولتس سمح بالقيام بهذه النقلة، وتغيير الموقف في الخامس من يناير/كانون الثاني الجاري، والإشادة بالمقترح المغربي للحكم الذاتي، واعتباره جهداً جيداً يصلح أساساً لتسوية النزاع حول الصحراء، فضلاً عن الإشادة بقرار مجلس الأمن الأخير حول الصحراء رقم (2602).

لكن في الجوهر، لا ينبغي تجاهل الدينامية الدبلوماسية التي أقدمت عليها الرباط لإجبار برلين على تغيير موقفها، إذ لا يتعلق الأمر فقط باستعمال السلاح الاقتصادي والتجاري، وحرمان برلين من فرص استراتيجية ضخمة كانت موضوع تفاهم سابق بين البلدين (مشروع إنتاج الهيدروجين الأخضر – الاستفادة من المعادن التي يوفرها جبل التروبيك لصناعة بطاريات السيارات الكهربائية)، فقد اتجهت الدبلوماسية المغربية إلى تعميق علاقاتها الاستراتيجية مع ثلاث قوى اقتصادية كبرى هي: الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وفرنسا،  واتجهت نحو عزل برلين، وذلك بالانفتاح على دول أوروبا الشرقية، والمشاركة في القمة التي انعقدت بالعاصمة المجرية بودابست، والتي جمعت منظمة "فيسغراد" بالمغرب، والتي تعكس جزءاً من الرهانات المتبادلة بين دول أوروبا الشرقية والمغرب، وبشكل خاص تيسير ولوج هذه البلدان إلى الفرص الاقتصادية في الأقاليم الجنوبية ومنها إلى العمق الإفريقي.

ما ينبغي الانتباه إليه في هذا الصدد، أن ألمانيا التي كانت تحاول تجاهل أسباب التوتر الذي نشأ بين البلدين، طوت ملف النزاع في وقت قياسي، خلافاً لإسبانيا، التي لم تستطِع إلى اليوم، أن تحقق أي خطوة تحسب على عودة العلاقات بين مدريد والرباط إلى سابق عهدها فضلاً عن تقويتها.  فمباشرة بعد انتقال السلطة من المستشارة أنجيلا ميركل إلى المستشار الجديد أولاف شولتز، عبرت برلين عن موقف جديد بخصوص النزاع حول الصحراء، ثمَّنت فيه الجهود التي بذلها المغرب من أجل تسوية النزاع، وأشادت بالمقترح المغربي للحكم الذاتي، فردت الرباط هي الأخرى بالإشادة بالموقف الجديد لألمانيا، ودعتها إلى تحويل الأقوال إلى أفعال، وهو ما دفع المستشار  الألماني الجديد إلى الإعلان بشكل رسمي عن موقف برلين الجديد من قضية النزاع حول الصحراء، ودعوة الملك محمد السادس إلى زيارة دولة إلى برلين لتطوير الشراكة بين البلدين وجعلها تأخذ آفاقاً جديدة.

المفارقة أن الصحافة الألمانية سارعت إلى الإشادة بموقف برلين الجديد، متهمة أداء الدبلوماسية السابقة اتجاه الرباط بالجمود، دون أن تدخل في نقاشات سياسية، حول قدرة بلد نامي مثل المغرب على الضغط على برلين لإجبارها على تغيير موقفها، بل على العكس من ذلك تماماً، فقد ذهب عدد من الصحف الألمانية إلى الإشادة بالموقف الجديد، واعتباره مساراً إيجابياً يمكن برلين من تثبيت حضورها كشريك استراتيجي قوي للمغرب.

تحليل هذا التطور يشير إلى قضية جوهرية، كون الرباط هذه المرة كانت تضغط دبلوماسياً على برلين، وهي تملك أوراق اعتماد قوية، فشركات السيارات الأمريكية بفضل الشراكة بين البلدين، توشك أن تستفرد بالفرص التي يوفرها جبل التروبيك، وبريطانيا دخلت في علاقات قوية مع المغرب، لتأمين الإمدادات من الكهرباء إليها من المغرب عبر البحر، ضمن مشروع ضخم تم الاتفاق عليه بين البلدين، لمد أطول كابل كهربائي عبر البحر في العالم بطول 3800 كيلومتر وبكلفة قد تصل إلى 16 مليار جنيه إسترليني، بغرض تزويد بريطانيا بـ"الطاقة النظيفة" (يتوقع أن يلبي حاجة أكثر من 7 ملايين منزل بريطاني)، وهي -أي بريطانيا- تستحوذ على عدد من الاستثمارات التي وجهتها للتنقيب واستغلال عن النفط والغاز الطبيعي في المغرب، في حين، تضاءلت فرص ألمانيا في الحفاظ على مكتسباتها السابقة، فضلاً عن الحصول على فرص استراتيجية جديدة منذ أن  دخلت العلاقات  بين البلدين منطقة التوتر.

ألمانيا تعتقد أنها لن تخسر كثيراً بتغيير موقفها من الصحراء، لاسيما أن الجزائر التي اتجهت حكومة ميركل إلى تقوية العلاقات معها، دخلت في مساراً من العزلة بسبب الوضع السياسي والاقتصادي للبلد من جهة، وبسبب توتر العلاقات بينها وبين باريس من جهة ثانية، بل العكس من ذلك، فبرلين ترى أن استمرار موقفها التقليدي سيقوي منافسيها، ويحرمها من الفرص الاستراتيجية التي حصلتها في السابق (مشروع إنتاج الهيدروجين الأخضر) ويحولُ بينها وبين الحصول على فرص أخرى جديدة، ترصد به موقعها كبلد رائد في صناعة السيارات.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

بلال التليدي
كاتب ومحلل سياسي مغربي
كاتب ومحلل سياسي مغربي
تحميل المزيد