"لست مع عمل الأم والزوجة"، هكذا كنت أكتب وأقول، ومن أوائل ما نشرت عام 1998 كُتيباً صغيراً سميته "أنا أو أولادي"، وخلاصته "أن إعفاء المرأة من الوظيفة ومن الإنفاق في شرعنا الجميل كان -حقاً- من باب التكريم والإعانة والتقدير: فالمرأة عليها الاهتمام بالزوج، والطبخ وإدارة البيت، وهي تنفرد بالحمل والوحام، وآلام الولادة، والرضاع وتنغيص النوم، وعليها الحضانة والتربية في السنوات الأولى، وقد تنجب مجموعة من الصغار معاً، فلا تجد وقتاً للراحة؛ فكان من المشقة إلزامها بمهامها الأنثوية، وفوقها بمهام الرجال: "العمل والتكسب والإنفاق". وإن تفريغها لهذه الأعمال من باب توزيع الأدوار بينها وبين الزوج، وإعفاؤها من العمل رحمة ورأفة بها.
ورغم ذلك ترك الإسلام للمرأة حرية العمل، وهذا هو الأمر الرائع، وهذه بعض النقاط الجميلة التوضيحية:
1- أنتِ شرعاً وعرفاً لست مجبرة على العمل ولا على النفقة، ولكن إن أحببت فلك ذلك: والسيدة خديجة اشتغلت بالتجارة، وخالة جابر جزت نخلها، وأسماء علفت فرس الزبير، ودقت النوى لناضحه، حتى إنها لتحمله على رأسها من حائط له (أي بستان) على مسافة من المدينة.
2- وما تكسبينه من أموال هو خالص لكِ، فذمتك المالية منفصلة عن أبيك وعن زوجك وعن سائر الناس، على الصحيح؛ ويحق لكِ التصرف بمالك كما تحبين، بالادخار والحفظ في البيت، أو فتح حساب بالبنك باسمك، ولك التجارة وشراء أرض أو ذهب (سبائك وحلي)، وملابس، ومن حقك الهدية والهبة (وميمونة أعتقت وليدتها ولم تستأذن النبي، وكانت النساء يتصدقن من غير إذن).
ولا تظني أن احتفاظك بمالك لنفسك يخالف المروءة، فهذا حقك شرعاً، وهو ما يُفتون به الرجل وهو مكلف بكفاية الأسرة: حيث حددوا نفقة الزوجة بأمور بسيطة، وجعلوا باقي ماله ملكه وحده، ويمتنع على المرأة أن تأخذ منه إلا بإذنه.
3- الإسلام لم يطلب منكِ التفرغ للبيت والأولاد، ولم يطالبكِ بالمثالية؛ وإنما المطلوب منكِ مهام مرنة ومحددة كزوجة وأم:
– السكن والفراش للزوج (وخدمته غير واجبة على المذاهب الأربعة).
– الحمل وحماية الصغير من الأخطار.
– وأما التربية والتوجيه فهي بعد الست سنوات ليست مهمتك وحدك، وعلى الأب أن يكون شريكك، ولذا لن تعطلك عن العمل.
وإن الأم اليوم أصبحت تقدم لعائلتها أضعاف ما هو مطلوب منها، ويُهدر وقتها الثمين: بالطبخ (لكل فرد ما يحبه)، وبأعمال البيت التي لا تنتهي، والعزايم للغرباء. وتقوم بدور غيرها: فهي أستاذة خصوصية مجانية لأولادها، وراعية لأهل زوجها (بدله وهو ابنهم).
وصارت هذه الأعباء واجباً وفرضاً عليها، وتلام إن قصرت، ولا تُشكر إن أحسنت، فكان الأفضل أن تعمل لنفسها، وتتكسب.
4- والإسلام لم يطلب منكِ التضحية المستمرة لأسرتك، ولا نسيان نفسكِ، بل طالبكِ بالعكس "فإن لنفسك عليك حقاً"، وهذا من الفقه، ومن الضرورات؛ وإن نسيان النفس يكون بالملمات، وأما بالحالة الطبيعية فينبغي أن يتبادل أفراد العائلة الإيثار والتضحية. ولا تختص بها الأم، وإلا كانت العلاقة غير صحية، ولأدى هذا لإرهاقها ولضعف أدائها وتقصيرها.
5- زود الله المرأة بقدرات هائلة وإمكانات، وجعلها خليفة بالأرض وعليها القيام بدورها، ومنه العمل وإفادة المجتمع بالطب أو التمريض أو التعليم.
إذن عمل المرأة بالأصل أمر مباح وله إيجابيات، ولكننا لم نكن نشجع عليه حفاظاً على سكينة البيوت، ومرت الأيام، وكثر الموت، والظلم والضرب، والطلاق التعسفي، والهجر الزوجي، وصارت القضايا لا تحل إلا بالمحاكم، وغلت أجرة المحامين، وتأخر القضاة شهوراً بالبت، وتحيز بعضهم للزوج، وجعلها المدانة وهي المتضررة! وإذا حكم للمرأة بنفقة جعلها فتاتاً… كل هذا جد في عصرنا، ومعلوم أن الأحكام والفتاوى والرؤى تتغير بتغير الأزمان، فبات من الضروري إعادة النظر بالمسألة، وبالتالي أصبح عمل المرأة "ضرورة" و"ضماناً لها" لعدة أسباب معاصرة:
– ضياع التقوى والنخوة وتفكك العائلات: فقديماً كان الأب أو الأخ أو العم يتكفل بنفقة المرأة إذا مات زوجها أو طلقها، فإن لم يوجدوا أو عجزوا تكفل بها بيت مال المسلمين، ولكن اليوم صاروا يتقاعسون ويتهربون عن قصد، وهم قادرون، وأعرف كثيرات صرن بالشارع حقيقة، حين فقدن أزواجهن.
– إهمال كثير من الأزواج لبيوتهم وعدم مسؤوليتهم: وللأسف ما زالوا يفترضون أن الزوجة بيد أمينة، والزوج يُقدِّر الميثاق الغليظ، ويكرمها ويتقي الله فيها، وهذا هو الخطأ الكبير:
– فاليوم تراجعت المروءة وفقدنا الوفاء، وصار بعضهم يخون، ويكفر العشرة.
– ضعفت الشخصية، وزاد تأثير الأهل على أولادهم، ولطالما تسببت أم الزوج وأبيه بطلاق الزوجة ظلماً وعدواناً.
– كثرت الأزمات والمصائب والبطالة والفقر، مما تسبب بالأمراض النفسية خاصة عند الرجال، فتراجعوا عن رعاية الأسرة والإنفاق، وتسببوا بكوارث.
– ونحن في الزمن الذي أصبح فيه المرء يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، أقصد: يتغير الحال فجأة، وبعد أن يكون الزوجان في تفاهم ووئام يَعْرض أمر فيتغير أحدهما على الآخر، فيطلقها، أو يُلجئها للخلع قهراً لسبب تافه، أو بسبب امرأة لعبت بعقله.
وقد يمنعها من قضاء العدة في بيته ويخرجها ولا مأوى لها، وقد يأخذ أموالها وحليها، وأغراضها الشخصية، والمتاع الذي اشترته من حر مالها. ولا تجد نصرة ولا مأوى، وبالتالي بات على كل امرأة أن تُؤمَّن نفسها.
– الفتوى التي تقول إن الزوج غير ملزم بالكماليات: فكيف ذلك، ومن يحدد هذا؟ فبعض ما كان يصنف "رفاهية" أصبح اليوم ضرورة، كالموبايل، وفاتورته، والزينة والديكور… والمؤسف بعض الرجال المقتدرين يستندون لهذه الفتاوى، فكيف تشتري المرأة ما تحبه وترغب به، وهل يحق للزوج أن:
– يغدق على نفسه ويحرمها؟
– ويمنعها من العمل ولا يكفيها؟
– وكيف يمكن لرجل أن يدرك ويقدر حاجات المرأة الشخصية؟
– ألا تستحق المرأة نفقة إضافية لقاء تفانيها وقيامها بمهات ليست عليها (مثل الخدمة وتدريس الأولاد؟).
وهنا لي سؤال أوجهه للرافضين لعمل المرأة، ولمن يعتبرون إذن الزوج ضرورة: هل من المروءة تَشجيع عمل المرأة حين يحتاج الزوج لمالها ومعونتها بالمصروف، ومنعها منه حين تحتاجه هي لنفسها؟
خاصة وأن هناك من ألزم المرأة الغنية بالإنفاق على زوجها الفقير، ولم يجدوا بأساً من تنازل المرأة عن النفقة في زواج المسيار، أو أن يشترط الزوج من البداية أن تشاركه الزوجة بالنفقة.
والفكرة: أن تغير الظروف، وعدم كفالة المرأة مادياً، وكثرة الطلاق، وانتشار الفاقة، والتملص من النفقة عليها، وتأخر المحاكم بالبت… كل هذا أصبح يستوجب "عمل المرأة"، على أن يكون ضماناً وادخاراً لها، وليس للمساهمة بنفقة البيت
وإن لخروج المرأة للعمل فوائد جمة:
– يرفع معنوياتها، ويعيد لها ثقتها بنفسها وقدراتها.
– يملأ فراغها بشيء مفيد.
– وإن امتلاك المرأة للمال يعطيها المزيد من الاحترام أمام أولادها، وأمام الناس وللأسف كثيرون يقدرون من يملك المال ويهابونه.
– يكسبها الخبرة بأنماط الناس وسبل التعامل معهم، فكثيرون يبعدون المرأة عن العالم الخارجي، ثم يتهمونها بقلة التجربة والحنكة، ويجعلون هذا مسوغاً لحبسها في البيت وحين تضطر المرأة للخروج تُستغل وتُغبن هي وأولادها.
– تبقى على تواصل مع سوق العمل، فتتعلم وتتفقه في صنعتها، وتبدع فيها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.