على الرغم من فتح الدورة الاستثنائيّة لمجلس النوّاب بعد مرسوم رئاسة الجمهورية، لا تبدو في الأفق السياسي أي مؤشرات لعودة حكومة نجيب ميقاتي المعطّلة منذ 12 أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، في ظل المسار المالي الذاهب إلى مزيد من الانهيار، مع تحكّم مافيات السوق السوداء بلعبة الدولار ودفعه إلى سقوف عالية، مع ما يترتب على ذلك من إرهاق للمواطنين وجعلهم وقوداً لحريق الغلاء وارتفاع الاسعار، بالتوازي مع الخطر الأكبر المتمثل بالتفشي المريع لفيروس "كورونا" الذي سجّل في الأيام الأخيرة آلاف الإصابات وقارب بالأمس الـ8 آلاف إصابة.
فيما تتمركز مافيا التشبيح السياسي ويمسك كل منهم بمصالحه في بيت الدولة الخرب، متشبثاً بمكتسباته في صراع البقاء على قيد الحياة السياسية، والقاعدة الأساس التي باتت تحكم التشرذم والتناحر المتمادي والمتمدد رئاسياً وحكومياً برلمانياً هي "أنا أو لا أحد"، وسط تصاعد حدّة الاشتباك بشكل خاص بين رئاسة الجمهورية وصهره من جهة وبين رئيس مجلس النواب نبيه بري من جهة أخرى، عبر تحديد عون "جدول أعمال" المجلس خلال فترة الدورة الاستثنائية الممتدة بين العاشر من الجاري والحادي والعشرين من مارس/آذار المقبل.
بالمقابل وعلى عكس رغبة عون لاقت دعوته إلى عقد طاولة "حوار عاجل" مصير الفشل، بعدما أغلقت أغلبية الجهات المدعوة إلى الحوار أبوابها أمام الدعوة الرئاسية التي جرى وصفها غير ذات جدوى في توقيتها ومضمونها، بالتوازي لا يمكن فصل سياق رد الرئيس سعد الحريري هاتفياً على عون عن مستقبل المرحلة القادمة للحضور السني المتعثر.
فكان الرد بالغ الدلالة في أكثر من معنى، خصوصاً لناحية ربط اعتذاره عن عدم المشاركة في أي حوار بوجوب أن يحصل "بعد الانتخابات البرلمانية"، لما اختزنه هذا الربط المباشر بين الحوار الوطني وبين الاستحقاق الانتخابي من تأكيد عزم الحريري فور عودته القريبة إلى بيروت على صب كل تركيزه على الانتخابات النيابية، باعتبارها تتربع على قمة أولوياته الراهنة.
ورفض الحوار يؤدي إلى دعوة رئيس الجمهورية ميشال عون إلى لقاءات ثنائية مع رؤساء الكتل والأحزاب السياسية، وهو سيلتقي الأسبوع المقبل رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، رئيس كتلة الوفاء للمقاومة محمد رعد، فيما يقاطع رئيس تيار المستقبل سعد الحريري الحوار، وكذلك رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع.
وكان يراد لهذا الحوار أن يبحث جملة نقاط استراتيجية، وتطال بنية النظام اللبناني. لكن معظم الأفرقاء لا يجدون أنهم جاهزون للبحث في مثل هذه الأمور، بسبب الأزمات السياسية والاقتصادية والمالية. والجميع يتحضر حالياً للانتخابات النيابية وما بعدها في ظل التخوف من تراجع مريع لقوى سياسية على رأسها التيار الوطني الحر وتيار المستقبل وقوى سياسية أخرى.
ويعتبر خصوم عون أن دعوته إلى الحوار تهدف لإثبات حضوره السياسي والظهور بمشهد القيم على النظام والدستور فهو يريد الوصول إلى تسوية سياسية جديدة، وإن تعذرت يبحث عن صيغة جديدة تدخل تعديلات على اتفاق الطائف وهذا ما ترفضه قوى رئيسية وتحديداً الحريري وجنبلاط وبري.
لكن في الملف القضائي العالق يأتي الإعلان عن فتح دورة استثنائية لمجلس النواب بحبل الخلاص على أركان السلطة السياسية المدّعى عليهم في ملف انفجار مرفأ بيروت، وحتى لو كان توقيع العقد الاستثنائي من قبل عون سيعيد تحريك عجلة البرلمان بعد محاولة حل أزمة عون وبري، إلا أن فتح قاعة مجلس الوزراء لا يزال في جيب الثنائي الشيعي وتيار المردة، في انتظار إيجاد حل مع المحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار والذي بات ممراً إلزامياً لتفعيل الحكومة عبر عزل الرجل من منصبه.
وعون وميقاتي كانا يتوسمان خيراً في أن يلاقي بري وحزب الله مبادرة حسن نية التي صدرت عن رئاسة الجمهورية، عبر قبوله الطوعي بفتح دورة استثنائية من شأنها تمديد الحصانة الدستورية للنائبين علي حسن خليل وغازي زعيتر في مواجهة ملاحقات البيطار، لكن لا يزال البحث مستمراً عن مخرج لانعقاد جلساتها لإقرار خطة الموازنة، فالحزب إياه وفقاً لأوساطه أبلغ ميقاتي استعداده للمشاركة في جلسة حكومية تقر الموازنة حصراً، إذا قرر الرئيس نبيه برّي ذلك. لكن الأزمة تبدو أكبر من ذلك بكثير، وهذا ما يلمسه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بيده.
وميقاتي الذي يتحدث عن خطة عمل حكومته المتفرعة إلى مسارين، الأول إجراء انتخابات برلمانية في موعدها مايو/أيار المقبل والثاني عبر إقرار خطة التعافي المالي في الحكومة والبرلمان والذهاب بها لنقاش مستفيض مع صندوق النقد الدولي للبدء بورشة إصلاح شامل يجد أمامه ملفات أكثر عمقاً والتي بات يبتز بها الخصوم بعضهم البعض.
من طروحات عون لاستراتيجية دفاعية، ومن ثم الذهاب إلى اللامركزية المالية والإدارية الموسعة، إلى مطالبة حزب الله وأمل بعزل قاضي التحقيق في المرفأ طارق بيطار، إلى التخوف من الأزمة في العلاقات العربية والخليجية، تدخل حزب الله في اليمن، والتصعيد بين نصر الله والسعودية. وكلما حاول تدوير الزوايا لمعالجة النقطتين اللتين يريد لحكومته أن تركز عليهما، يؤخذ إلى مكان آخر.
لذلك فإن مراقبين بدأوا بالتشكيك بإجراء الاستحقاق الانتخابي، على الرغم من التحضيرات الجارية عند كل القوى التقليدية والناشئة، حيث إن رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل حول بندقية المواجهة من جبهة الثنائي الشيعي إلى الذهاب نحو مواجهة مع القوات اللبنانية، في إطار مساعي صهر العهد بإعادة فرز المسيحيين وجعلهم يصطفون في معسكرين، بهدف استعادة الشريحة التي تخاصم القوات والتي تركت مناصرة التيار الوطني الحر عقب اندلاع انتفاضة 17 تشرين.
أما تيار المستقبل، والذي ينتظر عودة رئيسه سعد الحريري، فهو اختار خطاب المواجهة مع حزب الله وإيران والتيار الوطني الحر، وذلك لتأثير هذا الخطاب على الساحة السنية المشتتة بالإضافة لقطع أي طريق على الخطابات التي يطلقها الحالمون بوراثة كتلة سعد الحريري عبر المزايدة عليه في مواضيع الخليج وحزب الله، وهذا الأمر يأتي في سياق يجري طرحه بأن يرشح المستقبل الرئيس فؤاد السنيورة لقيادة الزعامة مرحلياً ريثما تنتهي الأمور إقليمياً ودولياً.
فيما حزب الله بدأ الإعداد لمعركة الانتخابات بعناوين واضحة: مواجهة المشاريع الخارجية لضرب المقاومة والصبر والبصيرة التي تمتع بها الحزب خلال اشتداد الأزمة المالية والاقتصادية، وهو يعمل على إعادة تحالفاته مع مختلف القوى التي تعاون معها في العام 2018 من أجل الحفاظ على الأكثرية النيابية وحماية دوره وموقعه المحلي والإقليمي. والحزب اليوم المطمئن شيعياً لعدم قدرة اختراق الساحة الشيعية لكنه يواجه قوى جديدة ناشئة من حراك 17 تشرين ومجموعات المجتمع المدني. وستشكّل المعركة الانتخابية المقبلة تحدّياً مهمّاً أمام الحزب وحلفائه في ظلّ الرهان الكبير لدى قوى خارجية وداخلية على تغيير خريطة التحالفات.
أما عن قوى التغيير والمجتمع المدني فهناك ورشات واجتماعات جارية لتوحيد القوى والمجموعات بتحالف أو تحالفين وإطلاق عجلة البرامج السياسية المشتركة لخوض غمار المعركة، وخاصة أن منصات تمويل المجموعات التغييرية أعلنت عن نفسها، وخصوصاً منصة "كلنا إرادة" والتي أصبحت محجاً لمجموعات القوى الحية في الثورة.
وعليه، فإن محاولات التشكيك الدائم باحتمال حصول الانتخابات أدى لإعادة اتصالات أمريكية فرنسية، الفرنسيون يؤكّدون لواشنطن أن الانتخابات حاصلة في موعدها. ويتحدثون عن أن القوى السياسية باتت خبيرة "بدفش" الاستحقاق إذا ما كانوا حاضرين له، وخاصة أن معظم القوى والأحزاب السياسية قلقة من خسارة ستصيب أحجامها النيابية والتي تريد تأجيل الانتخابات النيابية.
لكن الفرنسيين الحريصين على خلق ظروف الانتخابات باتوا متسلحين بجملة مؤشرات، فالأوروبيون يدعمون هذا الخيار وواشنطن أصلاً حاضرة به، وباريس تتواصل مع حزب الله عبر باتريك دوريل وهو شعر أن الحزب لا يرغب بالتأجيل، فيما أعذار عدم وجود قدرة مالية على حصول الانتخابات ستتلاشى خلال أسابيع، فالاتحاد الأوروبي سيتولّى تقديم المساعدة لسدّ الثغرات التقنية والمالية، وهناك حديث عن أن القطريين أبدوا استعدادهم لدفع مساعدات للحكومة متعلقة بمستحقات الانتخابات والموظفين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.