أعلن المخرج داوود عبد السيد اعتزاله العمل الإخراجي؛ لعدم قدرته على التعامل مع الجمهور الحالي الباحث عن التسلية والمختلف عن سابقيه، وأن هذا الجمهور لا يملك اهتمامات حقيقية، منتقداً الأفلام التي تنتجها السينما المصرية اليوم، معتبراً إياها سينما تجارية تقدم التسلية بواسطة معدات وإنتاج سخي، وأنها لا تعبر عن الواقع الذي يعاش في مصر، مدللاً على ذلك بأنه لا توجد مطاردة سيارات في الشوارع المصرية، وأن هذا الأمر نقل عن الأفلام الأمريكية فقط.
اعتزال داوود عبد السيد لابد أن نقف عنده وقفة كبيرة، ولابد أن نحلل كلماته وأسباب اعتزاله بشكل دقيق، لكونه لم يكن مخرجاً عادياً بل كان أقرب ما يكون من الفيلسوف الذي عمل بصناعة الأفلام التسجيلية والصامتة التي تتحدث الكاميرا بها كلاماً يعجز اللسان عن نطقه، كما كتب سيناريوهات لبعض أفلامه -الصعاليك وحده يكفيه- كما أن أفلامه "الكيت كات وأرض الخوف ورسائل البحر" اختيرت من أفضل مئة فيلم عربي عبر التاريخ من مهرجان دبي السينمائي، وجميعها تغوص في المجتمع المصري وتتفحص إنسانه وتدقق في مشاعره.
اهتم داوود عبد السيد في أفلامه بالشخصيات أكثر من اهتمامه بالقضايا، يقدم الشخصية ويتركها تعيش واقعها بتلقائية، يتابعها فقط، ولا يتدخل في تطورها بل يتركها كما هي لأخذ امتدادها الطبيعي (حسب رؤيته)، مما يجعلنا نثق أنه تابع الجمهور الجديد بشكل دقيق، وبحث جيداً في واقعه وعرف عيوبه، وأنه لا يمكنه أن يقدم رؤاه الفلسفية عبر أفلام سينمائية تقدم لمثل هذا الجمهور، حيث إنه يؤمن بأن الترفيه جزء مهم في السينما، لكن الأهم لديه هو كونها وسيلة للتعبير، فكيف يمكنه إرسال رسائله لجمهور لا يهتم بالرسائل.
عبد السيد في اعتزاله وضع يده على المعضلة التي نعانيها في مجتمعاتنا العربية من انتشار الرغبة في التسلية، والابتعاد عن الواقع، مما أنتج مجتمعاً مسخاً لا يعي ولا يعرف شيئاً عن بيئته ولا يملك هوية حقيقية، ولا يظهر للرائي أن هناك طريقاً واضحاً يسير فيه المجتمع نحو رقيه، بل على العكس يسير المجتمع عبر جرف هار ينهار فيه كل شيء، ومع مجتمع لا يقرأ وتتركز اهتماماته فيما يشاهده عبر الشاشات أصبح للسينما والدراما الدور الأبرز في تشكيل الوعي الجمعي لدى الأشخاص، وهو ما تطور مع الوقت وأصبحنا نرى مجتمعاً باحثاً عن اللذات والمتعة يلهث نحوها من تطبيق لآخر، وينتج ملايين الفيديوهات التي لا تملك أي رسائل سوى التسلية، بينما ينتج غيرنا العلم والفلسفة.
واضحة هي المشكلة التي تحدث عنها داوود عبد السيد، ومعروفة تلك الأسباب التي أدت لتلك الحالة، والتي تتأرجح بين راسم للخريطة وآخر منفذ لها، يبقى السؤال الأصعب آلية الخروج من تلك الحالة، كيف يمكننا أن نجعل الجمهور شغوفاً بالعلم والثقافة، يبحث عن الترفية الذي يقدم المعلومة لا الذي يقدم التسلية فقط، وفي حال كنا نعرف الإجابة هل يمكننا تنفيذها، أم أن الذي مهد الطريق لسيطرة التسلية سيزيح الجميع لبقائها وبقائه؟
بدايات عبد السيد كانت كمساعد مخرج في فيلم "الأرض" مع يوسف شاهين، ولسنا في زمن التشبث بالأرض ولا الاهتمام بالعلم أو الفلسفة، فكان لابد للفيلسوف أن يغلق كاميرته ويقرر الاعتزال، ونصفق نحن لمخرج اللقطات والأفشات ونترك "الكيت كات" وكل اللي فات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.