كانت شرارة الثورة التي ألهبها جسد البوعزيزي قبل إحدى عشرة سنة في عموم المنطقة إيذاناً بمرحلة استبشر بها الجميع خيراً، ومخرجاً طال انتظاره لوضع قاتم خَيَّمَ على الأمة طيلة عقود ما بعد الاستقلال، وإجابة عن تلك الأسئلة المعلقة التي كانت تصطدم بجدار الاستبداد فترتد على أصحابه. تلك اللحظة الجامعة الساحرة سرعان ما انفرط عقدها إثر حالة التشظي التي نجمت عن مخرجاتها، والتي لم تعرفها الأمة إلا في المراحل الكالحة من تاريخها.
وذلك بعد أن كشفت لحظة الربيع العربي عن هشاشة النخب العربية والإسلامية في المجمل، وعدم جاهزيتها للتفاعل الإيجابي مع الرياح الثورية بفعل عوامل ذاتية قبل أن تكون موضوعية، وهو ما جعلها تضيع فرصة تاريخية للتغيير في بلدانها قلما تتكرر.
الذات المنفعلة
تقتصر التيارات السائدة باختلاف مرجعياتها على الانفعال بالأحداث والاكتفاء بالتعليق عليها دون أن تملك القدرة على التأثير فيها، فهي بالإضافة إلى فشلها في توقع أحداث "الربيع العربي"، هي كذلك لم تكن مؤهلة للتعاطي معه بعد أن فاجأتها مجرياته المتسارعة.
الحديث هنا يعم النخب الملتصقة بالسلطة، التي لم تكن تخطو أية خطوة إلا بإشارة من أولياء نعمتها، والتي لا تحمل أي مشروع مستقل عن دوائر السلطة، ويهم أيضاً التيارات الحية في المجتمع التي تحظى بقدر من الجماهيرية، والتي أحست بالإحراج مرغمة على اتخاذ قرارات حاسمة في وقت كانت فيه تمني نفسها بمنقذ تستدعيه من غابر التاريخ أو من مستقبل تتخيله، ولم يدر بخلدها أبداً أن يطلب منها أن تكون هي ذلك المنقذ.
ذلك أن جل ما كانت تطمح إليه أن تبقى مشاريعها على قيد الحياة، وأن تؤجل مهمة التغيير وتكفلها للأجيال اللاحقة باعثة لها بهدية مسمومة، فيما انصب مجهودها على تثبيت وضعها وخلق توازنات جعلتها تجد صعوبة في الخروج عن المألوف، بعد أن اطمأنت لوضعها ولأساليبها، وبالمقابل أضحت تكتيكاتها مكشوفة يسهل قراءتها وتوقعها، وهو ما أوقعها في تناقضات كثيرة سهل استثمارها فيما بعد من طرف أنصار الثورة المضادة لإغلاق قوس الربيع الثوري في المنطقة.
إخلاف الموعد مع التغيير بعد أن دقت ساعته
ظهر ذلك في امتناع عدد من الشخصيات عن التفاعل الإيجابي مع الأحداث في بلدانها ممن رشحهم الكثيرون ليكونوا في طليعة المحتجين، باعتبار سابقتهم في التذمر من بعض الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية وفي انتقادهم لها أو احتجاجهم عليها في بعض الحالات، ومنهم مثقفون وصحفيون وضيوف برامج حوارية سياسية وعدد من نجوم الكوميديا السوداء العربية الذين اختاروا مساندة أنظمتهم والترويج لحلولها الالتفافية الترقيعية.
ذلك أنه مهما بدا خطابهم لاذعاً في أوقات سابقة إلا أنهم لم يتجاوزوا أدوار التنفيس، فمحاربة الفساد عندهم مجرد شعارات فضفاضة عامة تنسب للمجهول أحياناً، وأحياناً أخرى تقتصر على التركيز على حالات معزولة لا ظهر لها ولا سند استجداء لتدخل كبير العائلة، لذلك فهم أجبن من أن يطالبوه بالتنحي، رغم أنه فاسد القوم والمسؤول الأول عن إفساد كل قطيعه السلطوي.
كما ظهر أيضاً عند هيئات متعددة رفعت شعار الإصلاح من الداخل، بعد أن أدارت الظهر للحراك بعقد صفقات مع الأنظمة الاستبدادية، مثلما صنع حزب العدالة والتنمية المغربي من خذلان لمطالب الشعب لقاء بعض المناصب في أدنى الهرم السلطوي؛ وهناك حالات أُجهِض فيها الحراك بتوجيهه في مهده وتفريغه من عناصر قوته، مثلما حدث لحركة 20 فبراير في المغرب وحراك 24 آذار في الأردن.
معالجة لحظة ثورية بأدوات إصلاحية
هيمن النفس الإصلاحي على سلوك جل نخب وتيارات المنطقة، وحتى تلك التي تحمل خطاً تغييرياً شاملاً تحول بعضها إلى حركات إصلاحية، وإن احتفظت ببعض شعاراتها الراديكالية، ليزداد الشرخ اتساعاً بين واقع ممارستها وأدبياتها التأسيسية مع طول الأمد.
حدث ذلك لعدد من القوى التقليدية ممن انخرطت في الثورة المصرية، وحتى بعض الفصائل المحسوبة على شباب الثورة، ورغم تمكنها من إزالة رأس النظام إلا أنها تصالحت مع أجهزته وأدواته الباطشة، بل إن رموز الثورة وتياراتها أضحت تحتكم إليها في تطاحنها مع بعضها البعض، حيث ظنت بسذاجة أن عقد تسويات مع بعض أذرع النظام مثل الجيش والداخلية والقضاء والإعلام كفيل بتحييدها ريثما تحين اللحظة الموعودة لتسلم المدنيين الثوريين زمام البلد، وهكذا فقد أفقدت اللحظة الثورية زخمها وأراحت ثعالب الدولة العميقة من أي ضغط شعبي حتى استتبت الأوضاع لها بأسوأ مما كان الحال عليه قبل ثورة 25 يناير/كانون الثاني.
أما تونس، فرغم الأمل المعلق عليها باعتبارها آخر القلاع الصادمة، فهي بدورها سقطت مؤخراً في أحضان الانقلابيين، لأن من يحسبون على الثورة فيها غلبت عليهم الحسابات البراغماتية، وهو ما دفعهم في البداية إلى التردد في اتخاذ إجراءات تقطع مع فلول حزب بن علي وروافده في الأجهزة المختلفة، مخافة الصدام المبكر معها، الشيء الذي تطور معه الحال إلى التطبيع الكامل معها، في ظل تعددية سياسية مشوهة يسيطر عليها المال الفاسد، والذي تمكن من إعادة تدوير نخب الرئيس المخلوع السياسية والإعلامية، حيث تسبب في إجهاد بقايا الصف الثوري في معارك ثانوية زادت إحباط الشعب التونسي من مجمل العملية السياسية التي شاركت فيها نخب منفصلة عن الواقع بحكم طول انقطاعها عن العمل السياسي، والتي ما زالت تعاني من الرهاب من نظام أذاقها الويلات فيما مضى.
تحرر الشعوب لم يكن الغاية
أثبتت الأحداث المتلاحقة أن عدداً كبيراً من الأطراف المتفاعلة مع الربيع العربي هي أطراف دخيلة عليه وعلى غاياته وأهدافه، المتمثلة في التخلص من المستبدين، وفي انتزاع حرية الشعوب المسلوبة، وتحصيل كرامتهم، وتأمين عدالتهم الاجتماعية، حيث إن تحرر الشعوب لم يكن إلا وسيلة لتحقيق الأهداف الخاصة أو خدمة للمصلحة الأيديولوجية الضيقة.
تجلى ذلك في الانتقائية الفجة تجاه الثورات المختلفة، وهذا ما يفسر المفارقة المتمثلة في الحماس الكبير لدعم ثورتي تونس ومصر، لأن نظامي هذين البلدين استعديا جميع النخب والتيارات الفاعلة في الساحة، حيث إن إزاحة رأسيهما من سدة الحكم خلفت ارتياحاً من جهتها، خلافاً للثورات الأخرى التي اختلفت حسابات كل طرف منها بحسب درجة القرب أو البعد من النظام المستهدف بالثورة.
وهكذا فقد كان لافتاً للانتباه مسارعة البعض إلى معاداة الحراك البحريني على أسس طائفية ضيقة الأفق، على الرغم من سلميته واستلهامه نفس أساليب ثورات "الربيع العربي"، كذلك الحال مع الثورة السورية، وهناك أيضاً من اشتغل بالتحريض على الجمهوريات العسكرية والبوليسية مقابل تلميع محاولات الأنظمة الملكية والالتفاف حول مطالب شعوبها. والطريف أن البعض ممن انخرط بشكل فعلي في مجريات الربيع العربي لما لم تتوافق نتائجه مع تطلعاته وتطلعات التنظيم أو التيار الذي ينتسب إليه استنجد بنظرية المؤامرة، مجتراً نفس دعاية الأنظمة الاستبدادية حول الرياح الثورية التي هبت على المنطقة.
نحو خروج آمن
أحدث السلوك القاصر لمجمل النخب والتيارات السياسية العربية والإسلامية شرخاً عميقاً في المجتمعات العربية، وحولها إلى فريسة للمحاور الإقليمية والدولية، حيث تاهت عما كانت تبشر به الجماهير، فبدل السعي إلى تحرير الأوطان من ربقة الأنظمة الاستبدادية ورطتها وورطت نفسها، فتحولت إلى ملحقات للقوى الخارجية تخوض معاركها نيابة عنها، لدرجة التورط في عسكرة الثورة كما في سوريا، أو في استدعاء التدخل الخارجي كما في ليبيا.
لم تكن الرياح الثورية مصطنعة، كما يزعم المسكونون بنظرية المؤامرة، فالأصح القول إن الربيع العربي قد تعرض للتوظيف الخارجي، لأن من قاموا بقيادته ليسوا مؤتمنين على حمايته وعلى الوصول به إلى تحقيق آمال الشعوب الثائرة، مما أفقد جلهم مبرر وجودهم وأهلية تمثيل شعوبهم في مواجهة المستبدين الجاثمين على أوطانهم، وهو ما يستدعي تجديد تلك الكيانات لتجاوز خطاياها في حالة أية موجة ثورية محتملة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.