كثُرت الأقاويل، وربما بالتطبيل والتهليل، عن الخطير شكسبير، ذلك الذي لَطالما حلَّق في سماء الإبداع، فقيل عنه إنه إنْ كَتَبَ أبدع، وإن انتقد أوجع، وإن هاجم وصبَّ جام أدبه أفزع، كان وسيبقى وسيظل مهما تعاقبت الأزمان هو الأروع!
وكنت أول ما قرأت لشكسبير "العاصفة"، وأصابتني حينها خيبة الأمل والملل والتململ من عدم المنطقية المفرطة في الأحداث والشخصيات، الشخصيات بين مجانين تخرج من أفواههم الحكم، وحكماء لا ينطقون إلا بالسَّفه تارةً ونوادر الكلام تارة أخرى!
حدَّثتني نفسي المهزوزة معاتبةً: مَن تكون لتصفَ "نحتاية" كهذه، خطَّها قلم أحد أسياد الفن والأدب في الكوكب وعلى مر العصور والتاريخ، واتَّهمتني نفسي بمحدودية الأفق الفني والذوق الذي يعجز عن استيعاب كلمات شكسبيرية وما وراءها، واستكشاف أعماقها وجوهرها، وزاد من ذلك أنني قرأتها بالتركية لا بالعربية.
عاودت القراءة مراراً وتكراراً فَلَم أجنِ إلّا المرار، فقررتُ الابتعاد عن المدرسة الشكسبيرية، وقررت عدم الحديث عن تجربتي معها، كوني قارئاً بسيطاً لا أقوى على هزّ خيطٍ يراه المثقفون من الناس نبع ألماس.
وبعد سنوات ساقني القدر إلى حيث لا أرغب، ووجدتني أجوب مع الملك لير، وهذه المرة باللغة العربية، وقد حسُنت ترجمتها، وانتقت من البلاغة العربية ما يعبر عن مقاصد شكسبير المُفرطة دائماً في عذب الكلام، سواء دعت الحبكة ذلك أو بلا مناسبة.
لم يتغير انطباعي الذي انتابني مع العاصفة، وتكرست لديّ فكرة أن شكسبير ليس كما هو في أذهان الكثير حول العالم، بل وأزيد بأنه يغلب على أعماله السفه المرصع بكلمات من ذهب.
وحتى لا تزيد همومي وشكوكي حول رجاحة رأيي فيه، ساقني القدر من جديد نحو "ليف تولستوي" وكتابه "شكسبير والدراما.. صورة أدبية ونقدية"، ووجدت في طيّات هذا العمل النقدي البديع ما يُعزِّز رأيي، وأفاض من كرم إبداعه بما يجب أن يكون.
بعد أن تأكدت من شُح إبداع شكسبير، اكتشفت مع تولستوي أنه مقتبِس كبير، احترف التحريف في الأصول القديمة للروايات، ويصيبها بشر إضافاته غير المنطقية المهلهلة، المجنونة جنون الأمواج في بحرٍ غاضب.
اطّلعت على أصل الملك لير فوجدتها محطةً إبداعية عامرة بالمعاني الإنسانية والعبر والمشاعر العابرة والحائرة والنبيلة، شوّهها بالحذف والإضافة واستحداث شخصيات جديدة تعيش نفس معاناة الشخصيات الرئيسية في العمل "التي اقتبسها من الرواية القديمة للملك لير".
ومن جرائمه في الملك لير أيضاً ذكر ابنته المحبوبة "كوديليا البارّة به رغم قسوته عليها" بنوع من التحريف، واختتم جريمته بقتلها على خلاف نهاية الرواية التي أحسن كاتبها الأصلي نهايتها، توارت في مسرحية شكسبير الكثير والكثير من المشاهد التي تبتهج بها القلوب، وتتحرك معها العاطفة، واستبدلها بعظيم هبله.
هذا ولأنه لا يفوتني السعي الدؤوب للحصول على حكمة أو معنى أو تقارب مما أقرأه مع الواقع، مهما باعد الزمن بين ما نحياه وما نقرأه في مثل أعمال كهذه، فوجدت تشابهاً عجيباً بين شكسبير والإسلاميين المصريين العاملين في السياسة خلال سنوات المنفى، فالأول تدور فلك حكاياته حول فكرة معينة، وبأشخاص مضمونهم واحد، لم يصنعهم، بل اقتبسهم ويغير أسماءهم ومواقعهم من رواية لأخرى، والإسلاميون ما أكثر إعلاناتهم عن ولادة كيان سيكون حديث الزمان بنفس الأشخاص المستهلكين، مع المستهلك من كيانات سابقة، أسسوا بعضها، وشاركوا في إدارة غيرها، وكأنهم بتغيير الأسماء وبنفس الأشخاص والعقليات قد تجاوزوا ما وقعوا فيه من أخطاء في الماضي والحاضر.
أما الوجه الثاني فهو الانفصال عن الواقع، فالأول يتناول أحداثاً وقعت عام 800 قبل الميلاد، وتعجّ قصته بأجواء وأدوات لم تكن قد اكتُشفت حتى القرن السادس عشر، أما الثاني فلديه جناحان لا يتوقف عن الإبحار في عبق التاريخ، ينتقي من بضاعته ما يتسق مع طرحهم حتى وإن كانت قواعد الانتقاء هي الحاكمة، لا يتوقفون عن استدعاء وقائع تاريخية والحديث عنها دون التطرق لكيفية ربط المحفوظ في عقولهم بواقعنا ومعرفة كيفية الاستفادة من حُر صيدهم بما ينفع الناس ويقوي وعيهم وسواعدهم.
وعن المريدين الهائمين في حبهما دون تروٍّ أو تدبّر، فيجمعهم اليقين في أن المنتقدين ما هم إلا حفنة من المارقين أدباً وديناً وثقافةً، فهنيئاً لهم بالسخافة.
وإني أسف يا سادة.. قهوتنا مش سكر زيادة
الدنيا سادة.. والأكادة إن السَّفه في حياتنا عادة
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.