شواهد عديدة تشير إلى تدني المستوى المعيشي بمحافظات جنوب مصر والتي يطلق عليها منطقة الصعيد، فهي طاردة للعمالة المهاجرة إلى محافظات الشمال أو إلى دول الخليج العربي، وترتفع بها معدلات الفقر، خاصة في المناطق الريفية، والتي تضم 68% من سكانها مقابل نسبة 32% بالحضر، كما ترتفع بها نسب البطالة لقلة المشروعات المحلية هناك.
كذلك ارتفاع نسب العمالة خارج المنشآت سواء في العمالة الزراعية أو الباعة الجائلين أو عمال البناء، وارتفاع نسبة الأمية خاصة بين الإناث بالمقارنة بمحافظات شمال البلاد المسماة محافظات الوجه البحري، ولهذا هجر الكثيرون من سكان الجنوب بيوتهم بحثاً عن لقمة العيش، ويكفي للتدليل على تدهور مستواها المعيشي أن الجهات الحكومية عندما تعاقب موظفاً أو ضابط شرطة أخلَّ بواجبات وظيفته فإنها تنقله إلى الصعيد.
ورغم المزاعم الحكومية بالاهتمام بمحافظات الجنوب، فإن الأرقام الرسمية لمخصصات محافظات الجنوب التسع من الجيزة إلى أسوان، تشير إلى ضعف تلك المخصصات وعدم كفايتها لتعويض المنطقة عن الحرمان الطويل من المشروعات والخدمات، وهو ما ترتب عليه تدني الخدمات من طرق وصرف صحي ومدارس ومستشفيات، حيث أشارت بيانات جهاز الإحصاء الرسمي إلى أنه من المحافظات العشر الأكثر في معدلات الوفيات دون سن الخامسة من عمرهم، كان من بينها سبع محافظات من المحافظات التسع المكونة لمنطقة الصعيد، وكذلك ارتفاع كثافة الفصول الدراسية وكثرة الطرق الترابية داخل القرى، وتدني معدلات توصيل الصرف الصحي للمنازل.
حيث أشارت بيانات تعداد السكان الأخير لعام 2017 إلى أن 26% من سكان كل من محافظتي سوهاج وأسيوط يستخدمون حماماً مشتركاً، أي لا توجد لديهم دورة مياه مستقلة، وتصل النسبة إلى 21.5% بمحافظة المنيا و21% بقنا و13.5% ببني سويف.
73 % من الموازنة لأجور الموظفين
ورغم بلوغ نصيب مصروفات محافظات الصعيد التسع: الجيزة والفيوم وبني سويف والمنيا وأسيوط وسوهاج وقنا والأقصر وأسوان، بالموازنة العامة 64 مليار جنيه، فإن أجور العاملين بالإدارة المحلية ومديريات الخدمات بالمحافظات من زراعة وتعليم وصحة وغير ذلك، استحوذت على نسبة 73% من تلك المخصصات، كما نال شراء مستلزمات الجهات الحكومية من أدوات كتابية ومياه وكهرباء ووقود نسبة 11% لتتبقى للاستثمارات والتي تتجه لبناء المدارس والمستشفيات والطرق ومشروعات المياه والصرف الصحي والمساكن والكهرباء نسبة 14 %.
وهكذا بلغ نصيب محافظات الصعيد التسع من الاستثمارات الحكومية خلال العام المالي الحالي، والممتد من بداية يوليو/تموز الماضي وحتى نهاية يونيو/حزيران القادم 9.2 مليار جنيه، وهو رقم يتنافى تماماً مع المزاعم الرسمية عن مخصصات الاستثمار المتجهة للصعيد، والتي تزخر بها وسائل الإعلام وذلك لمنطقة يسكنها 38.8 مليون شخص، ليصل نصيب الفرد من تلك الاستثمارات إلى 237 جنيهاً خلال العام.
وتوزعت تلك المخصصات للاستثمار ما بين 2.1 مليار جنيه لمحافظة سوهاج البالغ عدد سكانها 5.4 مليون نسمة في بداية العام المالي الحالي، و1.7 مليار جنيه لمحافظة قنا البالغ عدد سكانها 3.4 مليون نسمة، و1.2 مليار جنيه لمحافظة الجيزة البالغ سكانها مليوناً 9.1 مليون نسمة؛ ليصل نصيب المواطن إلى 128 جنيهاً، و975 مليون جنيه لمحافظة أسيوط البالغ سكانها 4.7 مليون نسمة.
و888 مليون جنيه لمحافظة المنيا البالغ سكانها 5.9 مليون نسمة ليصل نصيب المواطن من الاستثمارات بها إلى 149 جنيهاً، و631 مليون جنيه للأقصر البالغ سكانها 1.3 مليون نسمة، و617 مليون جنيه لبني سويف البالغ سكانها 3.4 مليون نسمة ليصل نصيب المواطن بها إلى 182 جنيهاً، و579 مليون جنيه للفيوم البالغ سكانها 3.9 مليون نسمة ليصل نصيب المواطن 150 جنيهاً، و508 ملايين جنيه لأسوان البالغ سكانها 1.6 مليون نسمة.
قرار حكومي بخفض مخصصات الاستثمارات
وحتى هذه الأرقام المتدنية لن تتحقق على أرض الواقع، فبعد صدور الموازنة صدر قرار لرئيس الوزراء في أكتوبر/تشرين الأول الماضي بخفض الاعتمادات بالموازنة الحكومية بنسبة 25%، ثم صدر قرار آخر لرئيس الوزراء في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بخفض الإنفاق الاستثماري، ووصلت نسبة التجميد للإنفاق إلى 100% لوسائل النقل والانتقال و50% للمباني غير السكنية و25 % للتجهيزات.
وأشارت دراسة للمركز المصري للدراسات الاقتصادية حول الاستثمار بالصعيد إلى وجود 53 منطقة صناعية بمحافظات الصعيد، وتراوح عددها ما بين 3 مناطق بمحافظة الأقصر إلى 9 بمحافظة سوهاج، إلا أن غالبية تلك المناطق تم إنشاؤها منذ سنوات طويلة تعود للتسعينات، ولم يكن من بينها سوى منطقة واحدة أنشئت عام 2013 بأسيوط، وأخرى عام 2016 بأرمنت بالأقصر والتي ما زالت بدون مرافق.
حيث تعاني كثير من تلك المناطق الصناعية من قلة المرافق من مياه وصرف صحي وكهرباء وطرق وغاز طبيعي واتصالات، وتتبع معظمها المحافظات وبعضها تابع لهيئة التنمية الصناعية أو هيئة الاستثمار أو هيئة المجتمعات العمرانية، إلا أنها تضم صناعات صغيرة غالباً وقليل من الصناعات متوسطة الحجم، وعدد من المجمعات الصناعية والتي تتمثل في توفير أماكن عمل للورش الحرفية المتنوعة.
ومن هنا، فإنها لم تستوعب كثيراً من العمالة العاطلة، خاصة مع قلة توفر العمالة المؤهلة للعمل الصناعي، مما يجلب عمالة صناعية من خارج الصعيد، وما زالت نسب تخصيص الأراضي في كثير من تلك المناطق ضعيفة، في ظل ضعف الإقبال على الاستثمار الصناعي بسبب كثرة المعوقات من قلة الخدمات وصعوبات التسويق وكثرة المشروعات المتعثرة.
تعثر مشروع المثلث الذهبي
وذلك من قِبل المستثمرين المحليين أو رجال الأعمال الكبار الذين تمتد أصولهم لمناطق الجنوب، والذين تعللوا ببعد المناطق الصناعية عن الموانئ، سواء على البحر الأحمر أو على البحر المتوسط، وانخفاض الكفاءة الإنتاجية لدى العمالة، وضعف مستوى شبكة الطرق التي تزخر بعدد كبير من الحوادث والتي تسفر عن ضحايا في الأرواح ما بين الحين والآخر.
وخلال السنوات الماضية ومنذ تولي الجيش السلطة عام 2013 ظل وزراء الاستثمار يعدون بعقد مؤتمر لبحث مشاكل الاستثمار بالصعيد، لكن هذا المؤتمر لم ينعقد بعد، كما وعدت أكثر من حكومة بعد 2013 بإقامة مشروع المثلث الذهبي ما بين قنا والبحر الأحمر، لاستغلال الثروة المعدنية والتعدينية به، إلا أنه لم يرَ النور حتى الآن، كما خلت منطقة الصعيد من المشروعات القومية فيما عدا مجمع لإنتاج الأسمنت والرخام والجرانيت في بني سويف أنشأه الجيش.
وهكذا يعود إنشاء الدولة لمشروعات صناعية بالصعيد لسنوات عديدة مضت حيث يعود إنشاء شركة مصر للألومنيوم في نجع حمادي إلى عام 1976 وشركة الصناعة الكيماوية (كيما) في أسوان إلى عام 1956 وشركة الوجه القبلي لإنتاج الكهرباء لعام 2011، ليقتصر الأمر على توسعات تمت مؤخراً بشركة كيما وتطوير محلج للقطن بالفيوم، مقابل إغلاق عدد من المحالج التابعة لقطاع الأعمال العام بمحافظات الصعيد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.