الحداثة وما بعد الحداثة.. إنّها حديثُ العصر ومجال واسع للجدل، وصراع فكري ومادي، ومن أهم القضايا التي أُثيرت نتيجة بلوغ الإنسان مرحلة التطور الفكري، ففي الوقت الذي كانت فيه مجتمعاتنا تعيش حالة الفوضى، وتعاني من الانهزامات المتتالية بعد خروج المسلمين من الأندلس، قام الأوروبي بنهضته التي غَيَّرَ فيها مفاهيم الإنسانية، ولم يكتفِ بالحداثة والتحديث، بل تجاوز إلى ما بعد ذلك.
فما هي الحداثة؟ ولماذا جاء ما بعد الحداثة أصلاً؟ وما الأثر الذي تركته هذه المفاهيم الكبرى في عالمنا اليوم؟
تعود الجذور الأولى للحداثة إلى القرن الخامس عشر، عند اكتشاف أمريكا وقيام الألماني (جوتنبرغ) باختراع الطابعة التي قلبت الذاكرة الإنسانية، ونمت الاتجاهات الأيديولوجية والأدبية والعلمية، نتيجة التبدل الذي طرأ على نُظم الحياة في أوروبا، وخرج المجتمع عن السلطة الروحية للكنيسة، وتأسست الحداثة على فكرتين؛ فكرة الثورة على التقليد، ومركزية العقل، أما مفهوم ما بعد الحداثة فقد نشأ كردِّ فعل على الحداثة ونظرياتها الكبرى، والإخفاقات الحضارية التي أفرزها عصر الأنوار في أوروبا. ويرى أرنولد توينبي أن بداية ما بعد الحداثة كانت في سبعينيات القرن التاسع عشر، ويعيد كثير من الباحثين نشأة المفهوم إلى الفيلسوف الألماني نيتشه، الذي نادى بموت الإله (الإنسان المقدس)، وليعلن أنه لا حقيقة مطلقة ما دامت هناك اكتشافات جديدة خارج سيطرة الإنسان، فتلك الفلسفة وقفت ضد كل ما هو عظيم، وخاصة مسألة مركزية الإنسان والعقلانية.
وقد أسهم التطور الكبير الحاصل في عالم التكنولوجيا والإعلام في المجتمعات الغربية، في لعب الدور الكبير في نشوء هذه الحركة، فماذا أضافت تلك الحركة على مرحلة الحداثة لتصبح مُبدعة وتُحدِثُ تحولاً فكرياً في عقلية العالم الغربي لينقد حداثته؟
نادت الحداثة بالعقلانية وحرية الإنسان والعلمانية، وبترتيب الحياة ترتيباً زمنياً من خلال المعيارية التي يستمدها الإنسان من ذاته ومن الطبيعة، واعتبرت الإنسان جوهر كل شيء، وفي عصر الأنوار تضاعف وميض الحداثة وبريقها في نظريات كانط وأعماله الفكرية، أما ما بعد الحداثة فأقامت سياستها على التشكيك والرفض القاطع للمقولات المركزية التي تَعارَف عليها الفكر الغربي، وظهرت أفكار جديدة لم تكن مطروحةً من قبل، مثل تفتيت التاريخ والجنوسة والنظريات النسوية والنقد الذاتي، وما بعد التاريخ، وما بعد الاستعمار، وتسوية شاملة بين جميع الكائنات الإنسية (النساءـ الرجالـ المثليين جنسياً)، فهو عالم المابعديات، عالم ما بعد التاريخ، وما بعد الإنسانية، وما بعد الاستشراق، ولكن في الواقع ما بعد الحداثة لا ترفض عطاءات الحداثة، بل تعيد إنتاجها بصورة تتساقط معها مختلف التناقضات، ورفضت النظريات الشاملة كالتي جاءت بها الماركسية، وركزت على التاريخ المجهري في حياة الناس.
لماذا التناقض بين هذه المفاهيم الكبرى؟ كيف يمكن الفصل بينها (الحداثة وما بعد الحداثة)؟
لم تستطع الحداثة بنزعتها العقلية ومغامراتها العلمية أن تحقق الغايات التي كانت في أصل وجودها، وفي ذلك يقول تورين: "إنَّها تطورت ضد ذاتها"، وخضع الإنسان للعقل على حساب مشاعره وقيمه الإنسانية، وصارت العقلانية قهراً واستلاباً، وفي نهاية الأمر أفرزت الحداثة حربين عالميتين، فهي لم تُطور العقلية ولم تُسهم في الحرية التي أرادتها للإنسان ككل، فهم في الحقيقة أرادوا الحرية للإنسان الأوروبي، وسلك الحداثيون مع الأمم الأخرى مسلك الغطرسة والتسلّط، وفي هذا السياق "صفق عظيم مفكّري الحداثة في أوروبا (هيغل) لما سمَّاه انتصار الروح الأوروبية وعودتها إلى مجدها، عند احتلال فرنسا للجزائر"، وبالتالي يمكن القول إنَّ الحداثة فقدت قدرتها على تحرير الإنسان، بعد أن أدت دورها التاريخي في نهضته.
ويعدُّ الفيلسوف الفرنسي (ليوتار) من كبار المفكرين الذين وضعوا الحداثة في قفص الاتهام، وأعلن ميلاد عصر ما بعد الحداثة في كتابه سنة 1979م، وقد شكّلت الانتقادات المنهجية التي وُجهت إلى الحداثة الأرضيةَ العلميةَ التي نما في تربتها مفهوم ما بعد الحداثة، وقد جاء هذا المفهوم بقيم إيجابية وأخرى سلبية، هي حركة تحررية من عالم الهيمنة، حاربت ثقافة النخبة بالثقافة الشعبية، وانتقدت الخطابات الاستشراقية ذات الطابع الاستعماري، وآمنت بالاختلاف وتعدُّد الهويات، وكما أنها أزالت التناقض بين الجانب العقلي والروحي في الإنسان، وبشَّرت بعالَم من الانفتاح الواسع، وأسَّست لمناخٍ منفتح على الإبداع والتجديد في مجالات الحياة، إلا أنها اعتمدت نظريات فوضوية دون أن تُقدم للإنسان البديل العملي، وأصبح من الصعب تطبيق تصورات ما بعد الحداثة لغرابتها وشذوذها.
لكن حقيقة الأمر، عند قراءة كلتا الحركتين نرى أن ما بعد الحداثة لم تكن عبثية، إنما هي مرحلة إكمال للحداثة، ونقد وتصحيح داخلي لها، بما يتواءم مع أشكال جديدة للهيمنة، فهي الأخرى الأكثر تآمراً مع الأشكال الشمولية التي تسعى إلى السيطرة والاستلاب، وما جاءت به من شعارات لمحاربة العنصرية وتخليص الإنسان من الاستغلال كانت واهية، بل -وعلى العكس- كان ما بعد الحداثة امتداداً لبعض أسس الحداثة السلبية، فقد حولت الإنسان إلى كائن عبثي، يعيش حياة الغربة والتناقض، وفتَّتت المجتمعات، فالعالم في بدايات القرن العشرين كان منقسماً بين ماركسي وليبرالي، ولكننا نراه اليوم منقسماً بين تيارات داخل المجتمع والعائلة الواحدة، وسادت ثقافة اللاأخلاق واللامبالاة، وبالتالي يمكننا القول إن ما بعد الحداثة كانت "ديناميكية" جديدة، أنتجت أفكاراً وخصّبت الفكر الإنساني، وأرادت أن تخلق روحاً إبداعية جديدة للإنسانية، ولكنها في واقع الأمر غيّرت النظام الإمبريالي القديم المبني على توازن الرعب، إلى نظام يدعو إلى الديمقراطية وفتح العقول والحدود أمام العولمة والسوق الواحدة والرأسمالية، فكانت مرحلة انتقال من عنف الحداثة إلى الليونة والانسياب؛ لإغراء الآخر وتفكيكه تحت شعارات وأمنيات خيالية.
أين نحن من الحداثة وما بعدها؟
إنَّ الحداثة الغربية هَزَّت عالمنا، ودخلت بيوتنا ومدارسنا، وشغلت أفكارنا، وتمثّلت في شعاراتنا ونمط الإدارة والحكم عندنا، ففي منتصف القرن التاسع عشر استيقظنا على فارق الإمكانات والآليات بين الغرب الأوروبي والمجتمعات العربية والمسلمة، فظهرت تيارات ونخب متعلمة، بحثت في أصول النهضة، والحداثة وعواملها، وعاشت في الغرب حيناً، واستفادت من المدارس الغربية، ونقلت أفكاراً تنويرية أفاضت على المجتمعات العربية في إطار أهلنة تلك المعارف، ومنهم الشيخ رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني، ونقولوا كثيراً من الأفكار الحداثية إلى الإطار الإسلامي، إلا أن ثقافة مجتمعنا شغلها التحديث عن الحداثة، وبقيت عقولنا كما هي عليه. وظل السؤال عن كل أسباب تقدم الغرب وتأخر العرب والمسلمين ملحاً على النخبة الإسلامية بصفة عامة، والنخبة العربية بصفة خاصة، لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟ وظهرت أفكار إصلاحية واسعة على هذا الأساس.
قد جاءت الحداثة إلينا كلحظة عنيفة؛ لأن حداثتنا بقيت نقلاً نظرياً للأفكار، ولم تجر حداثة للعقول، وبقيت الفكرة التي تسود في أذهاننا حول ذلك الآخر الغربي، وبُنيت كل افتراضاتنا في علاقاتنا مع الغرب على قاعدة أن الأوروبي هو العدو والمستعمر والانتهازي والمتسلط، فبقينا نعيش على فُتات الحداثة وقشورها، ولم نُدرك حتى الآن أن الحداثة ليست أشكالاً وشعارات، بل هي صيرورة تاريخية؛ اجتماعية وفكرية، وما زلنا نعيش عالم الأوهام والتصوف والخوف من الآخر، وكان هذا من أبرز أسباب تأخرنا، ولم ندرك أن حياة الأمم هي دورة حضارية (كما قال ابن خلدون في مقدمته)، تنتقل من أمة لأخرى عندما تفقد الأولى عوامل نهوضها، وتأخذ الثانية بمقومات وأسباب ذلك النهوض.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.