شهدت مصر قبل يومين انتحار موظف برمي نفسه من الطابق الثالث داخل إحدى الشركات بمنطقة التجمع الخامس، بسبب توبيخ مديره له وخصم 4 أيام من راتبه، بينما كان هو في أمسِّ الحاجة لكل قرش في المرتب!
يحار الناس في فهم سلوك الآباء الذين ينتحرون لأنهم عاجزون عن تلبية الحد الأدنى من احتياجات الأسرة، كما يحار البعض في فهم فلسفة الانتحار عند شباب وبنات الثانوية العامة.
كلمة عابرة تضرب على وتر المشاعر المرهفة، أو المضطربة، قد تجعل شاباً يافعاً يقرر أن يُنهي حياته بيده، كأن يكرر الأب على مسامعه في كل لحظة أنه يُطعمه وينفق عليه، أو زوَّجه وبنى له بيتاً، وما إلى ذلك مما يعتقده الأب تذكيراً بفضله، ويعتقده الابن استفزازاً.
واستهتار بمشاعر فتاة مراهقة يظن أهلها أنهم أكرموها حين وفروا لها المسكن والمأكل والملبس، قد يجعلها تفكر طويلاً في كيفية التخلص من حياتها.
وضغط من الأهل متواصل على الأبناء بتضخيم الثانوية العامة في عقولهم، ووضعهم في مقارنات مع غيرهم من المتفوقين من أبناء العائلة أو الجيران، كفيل جداً بدفع الطالب أو الطالبة إلى الانتحار؛ هرباً من تلك الضغوط.
وضع الله الكون كله بما فيه من عوالم في كفة، ووضع النفس البشرية وحدها في كفة (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم)، وحيَّرت النفس الإنسانية الفلاسفة والعلماء والمربين، منذ أرسطو وحتى الآن، وحاول علماء النفس في المعامل الوقوف على ملامحها فلم يقدروا، وبقيت وستبقى لغزاً صعب المنال.
على هامش الخاطرة أتصور أن الأصل في الإنسان السوي أن يعتز بنفسه، وبكرامته، ولا يرضى لها الإهانة أبداً مهما كلفه الأمر، ولا يتذلل لأحد أو يخضع مهما كانت التبعات.
وكل كبرياء محمودةٌ ما لم تبطر حقاً، والرجل التقي النقي المعتز بذاته في غير كبر، المراعي لجلال الله وعظمته على جبينه هيبة، وفي طلَّته إجلال وعظمة، دائماً رأسه مرفوع، لا يعرف الانحناء أبداً، يتقن الوفاء، ويكره الغدر، شيمته النبل، ثقته بنفسه مصدر قوته، هو ليس مغروراً، بل هو محض سطور لا يتقن قراءتها كل أحد.
يحار الناس كذلك في فهم نفسيات أولئك الذين يوقعون الضرر بمن أعطاهم المال، وبذل معهم الجهد، ويسارعون في ترديد المقولة الشهيرة (اتقِّ شر من أحسنت إليه)، وأنا مدرك أنهم لا يفقهون معناها.
المنطق يقول إن من أحسنت إليه بصدق لا يمكن أن يعض يدك، لماذا ومن أين يأتي الشر؟
يأتي الشر لأن المتصدق والمتفضل بالدعم المادي والمعنوي يخدش كبرياء الفقير أو المحتاج، فينتظر من جُرحت كبرياؤه عند أول فرصة لينتقم لكبريائه.
ولهذا أتصور أن العطاء والتفضل على الآخرين يجب أن يتما وفق شرطين أساسيين؛ الأول: خلوه من المن والأذى، ولا يراد به إلا وجه الله..
ثانياً أن يتم بحرفية عالية، فالعطاء في حد ذاته قد يتسبب في كوارث نفسية ضررها أعظم من الحاجة والعوَز إذا استشعر المتلقي أن المعطي تملَّكه، وتسلَّط عليه، وعلى مشاعره، فلا يستطيع حينها الآخذ التفريقَ بين النصيحة والأمر، بل كل قول موجَّه إليه محمولٌ على الطلب في إطار التسلط الذي يرهق النفس.
هذا مع الإقرار بأن هناك نفسيات غير سوية لا تعترف بالجميل، ولا تقر بمعروف، تفعل معها الخير فلا تلقى منها غير الشر، ولكن النفس السوية في الأصل يجب ألا تتأثر بمثل هذا طالما كان الدافع على الإنفاق والإعطاء المادي والمعنوي يراد به وجه الله.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.